في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

36

ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش ، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات :

وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ؛ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له . سنة الله في الذين خلوا من قبل . وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله . وكفى بالله حسيبا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وكان الله بكل شيء عليما . .

مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم ، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي : وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ، وكان الله غفورا رحيما . . . .

ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته . فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس . ولا بد من سوابق عملية مضادة . ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار ؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين .

وقد مضى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زوج زيد بن حارثة - الذي كان متبناه ، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعى إلى أبيه - من زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة ، ويحقق معنى قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي .

ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك - فيما يحمل من أعباء الرسالة - مؤنة إزالة آثار نظام التبني ؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة . ويواجه المجتمع بهذا العمل ، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به ، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها !

وألهم الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن زيدا سيطلق زينب ؛ وأنه هو سيتزوجها ، للحكمة التي قضى الله بها . وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت ، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا .

وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اضطراب حياته مع زينب ؛ وعدم استطاعته المضي معها . والرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية - يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق ؛ فيقول لزيد [ الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له ، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء . والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب ] . . يقول له : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . . ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس . كما قال الله تعالى : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ! ) . . وهذا الذي أخفاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به . حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه في النهاية . وهو لا يفكر لا هو ولا زينب ، فيما سيكون بعد . لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له . حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها . ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء . إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة . بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار .

وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات !

إنما كان الأمر كما قال الله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) . . وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما حمل ؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية . حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد ، وذم الآلهة والشركاء ؛ وتخطئة الآباء والأجداد !

( وكان أمر الله مفعولا ) . . لا مرد له ، ولا مفر منه . واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه . وكان زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد انقضاء عدتها . أرسل إليها زيدا زوجها السابق . وأحب خلق الله إليه . أرسله إليها ليخطبها عليه .

عن أنس - رضي الله عنه - قال : لما انقضت عدة زينب - رضي الله عنها - قال رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] لزيد بن حارثة . " اذهب فاذكرها علي " فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، وأقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذكرها ! فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب . أبشري . أرسلني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها . ونزل القرآن . وجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل عليها بغير إذن . . .

وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : إن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات .

ولم تمر المسألة سهلة ، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله ؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : تزوج حليلة ابنه !

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

قوله تعالى{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } الآية ، نزلت في زينب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حيناً ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار ، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : ما لك أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجتك " { واتق الله } في أمرها ثم طلقها زيد ، فذلك قوله عز وجل : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بالإسلام ، { وأنعمت عليه } بالتربية والإعتاق ، وهو زيد بن حارثة : { أمسك عليك زوجك } يعني : زينب بنت جحش واتق الله فيها ولا تفارقها ، { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أي : تسر في نفسك ما الله مظهره ، أي : كان في قلبه لو فارقها لتزوجها . وقال ابن عباس : حبها . وقال قتادة : ود أنه طلقها . { وتخشى الناس } قال ابن عباس والحسن : تستحييهم . وقيل : تخاف لائمة الناس أن يقولوا : أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها . { والله أحق أن تخشاه } قال ابن عمر ، وابن مسعود ، وعائشة ، ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } . وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قلت : يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك ، فقال : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) ، فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ، بل كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ . وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لأظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي ، وهذا قول حسن مرضي وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها و نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم ، لأن الود وميل النفس من طبع الشر . وقوله : { أمسك عليك زوجك واتق الله } أمر بالمعروف ، وهو حسن لا إثم فيه . قوله تعالى : { والله أحق أن تخشاه } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال : " أنا أخشاكم لله وأتقاكم له " ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء . قوله عز وجل : { فلما قضى زيد منها وطراً } أي : حاجة من نكاحها ، { زوجناكها } وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها . قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن زوجني الله من فوق سبع سموات . وقال الشعبي : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، إني أنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .

أخبرنا إسماعيل ابن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن حاتم بن ميمون ، أنبأنا بهز ، أنبأنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : فاذكرها علي ، قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . قال : ولقد رأيتنا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم ، حتى امتد النهار ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني . قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا سليمان بن حرب ، أنبأنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس قال : " ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة " .

أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن هشام بن ملاس النمري ، أنبأنا مروان الفزاري ، أنبأنا حميد عن أنس قال : " أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً " . قوله عز وجل : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } إثم { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً } والأدعياء : جمع الدعي ، وهو المتبني ، يقول : زوجناك زينب ، وهي امرأة زيد الذي تبنيته ، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبنى ، وإن كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب . { وكان أمر الله مفعولاً } أي : كان قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

فيه تسع مسائل :

الأولى- روى الترمذي قال : حدثنا علي بن حجر قال حدثنا داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " يعني بالإسلام " وأنعمت عليه " بالعتق فأعتقته . " أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه - إلى قوله - وكان أمر الله مفعولا " وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله تعالى : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " [ الأحزاب : 40 ] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد ، فأنزل الله تبارك وتعالى " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم " [ الأحزاب : 5 ] فلان مولى فلان ، وفلان أخو فلان ، هو أقسط عند الله يعني أعدل{[12830]} . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب{[12831]} قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " هذا الحرف لم يرو بطوله .

قلت : هذا القدر هو الذي أخرجه مسلم في صحيحه ، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه . وفي البخاري عن أنس بن مالك أن هذه الآية " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة . وقال عمرو بن مسعود وعائشة والحسن : ما أنزل الله على رسوله آية أشد عليه من هذه الآية . وقال الحسن وعائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه . وروي في الخبر أنه : أمسى زيد فأوى إلى فراشه ، قالت زينب : ولم يستطعني زيد ، وما امتنع منه غير ما منعه الله مني ، فلا يقدر علي . هذه رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، رفع الحديث إلى زينب أنها قالت ذلك . وفي بعض الروايات : أن زيدا تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها ، فهذا قريب من ذلك . وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل ! وإني أريد أن أطلقها ، فقال له : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) الآية . فطلقها زيد فنزلت : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " الآية . واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين ، منهم الطبري وغيره - إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش ، وهي في عصمة زيد ، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ، ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر ، وأذى باللسان وتعظما بالشرف ، قال له : ( اتق الله أي فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك ) وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها . وهذا الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف . وقال مقاتل زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد ، فمكثت عنده حينا ، ثم إنه عليه السلام أتى زيدا يوما فأبصر زينب قائمة ، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش فهويها وقال : ( سبحان الله مقلب القلوب ) ! فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ، ففطن زيد فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في طلاقها ، فإن فيها كبرا ، تعظم علي وتؤذيني بلسانها ، فقال عليه السلام : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . وقيل : إن الله بعث ريحا فرفعت الستر وزينب متفضلة{[12832]} في منزلها ، فرأى زينب فوقعت في نفسه ، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لما جاء يطلب زيدا ، فأخبرته بذلك ، فوقع في نفس زيد أن يطلقها . وقال ابن عباس : " وتخفي في نفسك " الحب لها . " وتخشى الناس " أي تستحييهم . وقيل : تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها ، ويقولون أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها . " والله أحق أن تخشاه " في كل الأحوال . وقيل والله أحق أن تستحي منه ، ولا تأمر زيدا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك ، فعاتبه الله على جميع هذا . وروي عن علي بن الحسين : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلق زينب ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها ، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : ( اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك ) وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها ، وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له ، بأن قال : " أمسك " مع علمه بأنه يطلق . وأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي في كل حال . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين ، كالزهري والقاضي بكر بن{[12833]} العلاء القشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم . والمراد بقوله تعالى : " وتخشى الناس " إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه . فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق ، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته . قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، وأسند إلى علي بن الحسين قوله : فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر ، ودراً من الدرر ، أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك ، فكيف قال بعد ذلك لزيد : ( أمسك عليك زوجك ) وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه ، والله أحق أن تخشاه . وقال النحاس : قال بعض العلماء : ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة ، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه . وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه ، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس .

الثانية- قال ابن العربي : فإن قيل لأي معنى قال له : ( أمسك عليك زوجك ) وقد أخبره الله أنها زوجه . قلنا : أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها ، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها . فإن قيل : كيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه ؟ وهذا تناقض . قلنا : بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة ، لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة ، ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يكون ، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما . وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقول : " واتق الله " أي في طلاقها ، فلا تطلقها . وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم ؛ لأن الأولى ألا يطلق . وقيل : " اتق الله " فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج . " وتخفي في نفسك " قيل تعلق قلبه . وقيل : مفارقة زيد إياها . وقيل : علمه بأن زيدا سيطلقها ؛ لأن الله قد أعلمه بذلك .

الثالثة- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد : ( ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ) قال : فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وخطبتها ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر{[12834]} ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها .

قلت : معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح . وترجم له النسائي ( صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها ) روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزبد : ( فاذكرها عليّ ) قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري ، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن . وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . قال : فقال ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار . الحديث . في رواية ( حتى تركوه ) . وفي رواية عن أنس أيضا قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه{[12835]} ما أولم على زينب ، فإنه ذبح شاة . قال علماؤنا : فقوله عليه السلام لزيد : ( فاذكرها علي ) أي اخطبها ، كما بينه الحديث الأول . وهذا امتحان لزيد واختبار له ، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه .

قلت : وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه : اخطب عليّ فلانة ، لزوجه المطلقة منه ، ولا حرج في ذلك . والله أعلم .

الرابعة- لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها ، ولذلك قال : " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " . وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم " وطرا زوجتكها " . ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق ، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا{[12836]} ومشروعا لنا وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين . ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى . أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال : كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول . إن الله عز وجل أنكحني من السماء . وفيها نزلت آية الحجاب ، وسيأتي .

الخامسة- المنعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة ، كما بيناه ، وقد تقدم خبره في أول السورة{[12837]} . وروي أن عمه لقيه يوما وكان قد ورد مكة في شغل له ، فقال : ما اسمك يا غلام ؟ قال : زيد ، قال : ابن من ؟ قال : ابن حارثة . قال ابن من ؟ قال : ابن شراحيل الكلبي . قال : فما اسم أمك ؟ قال : سعدى ، وكنت في أخوالي طي ، فضمه إلى صدوه . وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا ، وأرادوا منه أن يقيم معهم ، فقالوا : لمن أنت ؟ قال : لمحمد بن عبد الله ، فأتوه وقالوا : هذا ابننا فرده علينا . فقال : ( أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده ) فبعث إلى زيد وقال : ( هل تعرف هؤلاء ) ؟ قال نعما هذا أبي ، وهذا أخي ، وهذا عمي . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأي صاحب كنت لك ) ؟ فبكى . وقال : لم سألتني عن ذلك ؟ قال : ( أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فألحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت ) فقال : ما أختار عليك أحدا ، فجذبه عمه وقال : زيد ، اخترت العبودية على أبيك وعمك ! فقال : أي والله العبودية عند محمد أحب إليّ من أن أكون عندكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اشهدوا أني وارث وموروث ) . فلم يزل يقال : زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى : " ادعوهم لآبائهم " [ الأحزاب : 5 ] ونزل " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " [ الأحزاب : 40 ] .

السادسة- قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي رضي الله عنه : كان يقال زيد بن محمد حتى نزل " ادعوهم لآبائهم " [ الأحزاب : 5 ] فقال : أنا زيد بن حارثة . وحرم عليه أن يقول : أنا زيد ابن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر{[12838]} ، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أنه سماه في القرآن ، فقال تعالى : " فلما قضى زيد منها وطرا " يعني من زينب . ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار لاسمه{[12839]} قرآنا يتلى في المحاريب ، نوه به غاية التنويه ، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا ) فبكى وقال : أوذكرت هنالك ؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره ، فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا ؟ هل يبيد ، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن ، وأهل الجنة كذلك أبدا ، لا يزال على ألسنة المؤمنين ، كما لم يزل مذكورا على الخصوص عند رب العالمين ؛ إذ القرآن كلام الله القديم ، وهو باق لا يبيد ، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة ، تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة . وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء ، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه . وزاد في الآية أن قال : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " أي بالإيمان ، فدل على أنه من أهل الجنة ، علم ذلك قبل أن يموت ، وهذه فضيلة أخرى .

السابعة- قوله تعالى : " وطرا " الوطر كل حاجة للمرء له فيها همة ، والجمع الأوطار . قال ابن عباس : أي بلغ ما أراد من حاجته ، يعني الجماع . وفيه إضمار ، أي لما قضى وطرا منها وطلقها " زوجناكها " . وقراءة أهل البيت " زوجتكها " . وقيل : الوطر عبارة عن الطلاق ، قاله قتادة .

الثامنة- ذهب بعض الناس من هذه الآية ، ومن قول شعيب : " إني أريد أن أنكحك " {[12840]} [ القصص : 27 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون : " أنكحه إياها " فتقدم ضمير الزوج كما في الآيتين . وكذلك قوله عليه السلام لصاحب الرداء ( اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن ) . قال ابن عطية : وهذا غير لازم ؛ لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور الزوجان سواء ، فقدم من شئت ، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال ، وأنهم القوامون .

التاسعة- قوله تعالى : " زوجناكها " دليل على ثبوت الوارث في النكاح ، وقد تقدم الخلاف في ذلك{[12841]} . روي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي جاء بي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة{[12842]} من حرير فيقول : ( هذه امرأتك ) خرجه الصحيح . وقالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سموات . وقال الشعبي : كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أنكحت عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإن الله أنكحك إياي من السماء ، وإن السفير في ذلك جبريل . وروي عن زينب أنها قالت : لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد ، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى مني فلا يقدر علي .


[12830]:زيادة عن صحيح الترمذي.
[12831]:زيادة عن صحيح الترمذي.
[12832]:تفضلت المرأة: لبست ثياب مهنتها. أو كانت في ثوب واحد.
[12833]:هو القاضي بكر بن محمد بن العلاء القشيري، الفقيه المالكي ولي قضاء العراق. له كتاب في الأحكام والردّ على المزني والأشربة، ورد فيه على الطحاوي، وكتاب في الأصول، والردّ على القدرية والردّ على الشافعي. توفي سنة 343 هـ (الوافي بالوفيات للصفدي).
[12834]:آمره في أمره، ووامره واستأمره: شاوره.
[12835]:زيادة من مسلم.
[12836]:في ش: "حقوقها".
[12837]:راجع ص 118 من هذا الجزء.
[12838]:في الأصول:"...وهذا الفخر منه" بزيادة لفظة "منه".
[12839]:لفظة "اسمه" ساقطة من الأصل المطبوع.
[12840]:راجع ج 13 ص 271.
[12841]:راجع ج 3 ص 72 فما بعدها.
[12842]:السرق (بفتحتين): شقق الحرير الأبيض.