بعد ذلك يبين الله لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ما يحل له من النساء ، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته ، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) . .
وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء ، تزوج بكل منهن لمعنى خاص . عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر . وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] تكريمهن ، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب ، إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج . وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها ، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى ، وعرفناه في قصتها . ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب . وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى ، توثيقا لعلاقته بالقبائل ، وتكريما لهما ، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة .
وكن قد أصبحن ( أمهات المؤمنين )ونلن شرف القرب من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير . فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء . وقد نظر الله إليهن ، فاستثنى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ذلك القيد ، وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته ، وجعلهن كلهن حلا له ، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا ، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى . فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن ، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه ، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة . . وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات :
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ، وبنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين ، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ، لكي لا يكون عليك حرج ، وكان الله غفورا رحيما . ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك . ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ، والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما . لا يحل لك النساء من بعد ، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن - إلا ما ملكت يمينك - وكان الله على كل شيء رقيبا . .
ففي الآية يحل الله للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنواع النساء المذكورات فيها - ولو كن فوق الأربع - مما هو محرم على غيره . وهذه الأنواع هي : الأزواج اللواتي أمهرهن . وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء ، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن - إكراما للمهاجرات - وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي . إن أراد النبي نكاحها [ وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج ، والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين ] وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا . فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم . ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه .
قوله تعالى :{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي : مهورهن ، { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية ، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له { وبنات عمك وبنات عماتك } يعني : نساء قريش ، { وبنات خالك وبنات خالاتك } يعني : نساء بني زهرة ، { اللاتي هاجرن معك } إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها . وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له ، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل . { وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين } أي . أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه . واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر ؟ فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك ، لقوله : { وامرأة مؤمنة } وأول بعضهم الهجرة في قوله : { اللاتي هاجرن معك } على الإسلام ، أي : أسلمن معك . فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة ، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } كالزيادة على الأربع ، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه . واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومجاهد ، وعطاء ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي . وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة . ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم : فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه بلفظ الهبة ، لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } . وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل : { إن أراد النبي أن يستنكحها } وكان اختصاصه صلى الله عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح . واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن ؟ . فقال عبد الله بن عباس ، ومجاهد : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله : { إن وهبت نفسه } على طريق الشرط والجزاء . وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية ، يقال لها : أم المساكين . وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث . وقال علي بن الحسين ، والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد . وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم . قوله عز وجل : { قد علمنا ما فرضنا عليهم } أي : أوجبنا على المؤمنين ، { في أزواجهم } من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ، { وما ملكت أيمانهم } أي : ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، { لكيلا يكون عليك حرج } وهذا يرجع إلى أول الآية أي : أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق . { وكان الله غفوراً رحيما* }
الأولى- روى السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت{[12865]} إليه فعذرني ، ثم أنزل الله تعالى : " إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " قالت : فلم أكن أحل له ؛ لأني لم أهاجر ، كنت من الطلقاء . خرجه أبو عيسى وقال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال ابن العربي : وهو ضعيف جدا ، ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها .
الثانية- لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن ، مكافأة لهن على فعلهن . والدليل على ذلك قوله تعالى : " لا يحل لك النساء من بعد " الآية . وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعه ذلك ؟ فقيل : لا يحل له ذلك عزاء لهن على اختيارهن له . وقيل : كان يحل له ذلك كغيره من النساء ، ولكن لا يتزوج بدلها . ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء ، والدليل عليه قوله تعالى : " إنا أحللنا لك أزواجك " والإحلال يقتضي تقدم حظر . وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه ، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن ، ولأنه قال في سياق الآية " وبنات عمك وبنات عماتك " الآية . ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته ، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء . وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها ، كآيتي الوفاة في " البقرة " {[12866]} . وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى : " إنا أحللنا لك أزواجك " فقيل : المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها ، قاله ابن زيد والضحاك . فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم . وقيل : المراد أحللنا لك أزواجك ، أي الكائنات عندك ؛ لأنهن قد اخترتك على الدنيا والآخرة . قاله الجمهور من العلماء . وهو الظاهر ؛ لأن قوله : " آتيت أجورهن " ماض ، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط . ومجيء الأم على هذا التأويل ضيقا على النبي صلى الله عليه وسلم . ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء ، وكان يشق ذلك على نسائه ، فلما نزلت . هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى ، سر نساؤه بذلك .
قلت : والقول الأول أصح لما ذكرناه ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء . قال : هذا حديث حسن صحيح .
الثالثة-قوله تعالى : " وما ملكت يمينك " أحل الله تعالى السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته مطلقا ، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا ، وأحله للخلق بعدد . " مما أفاء الله عليك " أي رده عليك من الكفار . والغنيمة قد تسمى فيئا ، أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة .
الرابعة- قوله تعالى : " وبنات عمك وبنات عماتك " أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، على قول الجمهور ؛ لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وأتيت أجرها ، لما قال بعد ذلك : " وبنات عمك وبنات عماتك " لأن ذلك داخل فيما تقدم .
قلت : وهذا لا يلزم ، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا ، كما قال تعالى : " فيهما فاكهة ونخل ورمان " {[12867]} [ الرحمن : 68 ] . والله أعلم .
الخامسة- قوله تعالى : " اللاتي هاجرن معك " فيه قولان : الأول : لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب ، وبنات أولاد بنات عبد المطلب ، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه ) .
الثاني : لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة ، لقوله تعالى . " والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء . حتى يهاجروا " {[12868]} ومن لم يهاجر لم يكمل ، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم ، صلى الله عليه وسلم .
السادسة- قوله تعالى " معك " المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحة فيها ، ومن هاجر حل له ، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن . يقال : دخل فلان معي وخرج معي ، أي كان عمله كعملي لأن لم يقترن فيه عملكما . ولو قلت : خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا : الاشتراك في الفعل ، والاقتران فيه .
السابعة- ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جمعا . وكذلك قال : " خالك " ، " وخالاتك " والحكمة في ذلك : أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز ، وليس كذلك العمة والخالة . وهذا عرف لغوي ، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال ، وهذا دقيق فتأملوه ، قاله ابن العربي .
الثامنة- قوله تعالى : " وامرأة مؤمنة " عطف على " أحللنا " المعنى وأحللنا كل امرأة تهب نفسها من غير صداق . وقد اختلف في هذا المعنى ، فروي عن ابن عباس أنه قال : لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين . فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد . وقال قوم : كانت عنده موهوبة .
قلت : والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده ، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل ! حتى أنزل الله تعالى " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء " [ الأحزاب : 51 ] فقلت : والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . وروى البخاري عن عائشة أنها قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدل هذا على أنهن كن غير واحدة . والله تعالى أعلم .
الزمخشري : وقيل الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم .
قلت : وفي بعض هذا اختلاف . قال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث . وقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار . وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر الأسدية . وقال عروة بن الزبير : أم حكيم بنت الأوقص السلمية .
التاسعة- وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها ، فقيل هي أم شريك الأنصارية ، اسمها غزية . وقيل غزيلة . وقيل ليلى بنت حكيم . وقيل : هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت : البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي أم شريك العامرية ، وكانت عند أبي العكر الأزدي . وقيل عند الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها ، ولم يثبت ذلك . والله تعالى أعلم ، ذكره أبو عمر بن عبد البر . وقال الشعبي وعروة : وهي زينب بنت خزيمة أم المساكين . والله تعالى أعلم .
العاشرة- قرأ جمهور الناس " إن وهبت " بكسر الألف ، وهذا يقتضي استئناف الأمر ، أي إن وقع فهو حلال له . وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة ، وقد دللنا على خلافه . وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح : أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت أهب لك نفسي ، فسكت حتى قام رجل فقال : زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه ، أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا ، فنزلت الآية . بالتحليل والتخيير ، فاختار تركها وزوجها من غيره . ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا . وقرأ الحسن البصري وأبى بن كعب والشعبي " أن " بفتح الألف . وقرأ الأعمش " وامرأة مؤمنة وهبت " . قال النحاس : وكسر " إن " أجمع للمعاني ؛ لأنه قيل إنهن نساء . وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها ، لأن الفتح على البدل من امرأة ، أو بمعنى لأن .
الحادية عشرة- قوله تعالى : " مؤمنة " يدل على أن الكافرة لا تحل له . قال إمام الحرمين : وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه . قال ابن العربي : والصحيح عندي تحريمها عليه . وبهذا يتميز علينا ، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر ، وما كان جانب النقائص فجانبه عنها أطهر ، فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات ، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات . وبهذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة{[12869]} الكتابية لنقصان الكفر .
الثانية عشرة- قوله تعالى : " إن وهبت نفسها " دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة ، قد تقدمت في " النساء " {[12870]} وغيرها . وقال الزجاج : معنى " إن وهبت نفسها للنبي " حلت . وقرأ الحسن : " إن وهبت " بفتح الهمزة . و " أن " في موضع نصب . قال الزجاج : أي لأن . وقال غيره : " إن وهبت " بدل اشتمال من " امرأة " .
الثالثة عشرة- قوله تعالى : " إن أراد النبي أن يستنكحها " أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم حلت له ، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك . كما إذا وهبت لرجل ، شيئا فلا يجب عليه القبول ، بيد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته . ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة ، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه ، فبين الله ذلك في حق رسول صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى ، ليرفع عنه الحرج ، ومبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم .
الرابعة عشرة- قوله تعالى " خالصة لك " أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز ، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل . ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك . فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول ، ومهر المثل بعد الدخول .
الخامسة عشرة- أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز{[12871]} ، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح ، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا : إذا وهبت فأشهد هو على ، نفسه بمهر فذلك جائز . قال ابن عطية : فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة ، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه ، وقد تقدمت هذه المسألة في " القصص " مستوفاة{[12872]} . والحمد لله .
السادسة عشرة- خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد - في باب الفرض والتحريم والتحليل - مزية على الأمة وهبت له{[12873]} ، ومرتبة خص بها ، ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره ، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم وحللت له . أشياء لم تحلل لهم ، منها متفق عليه ومختلف فيه .
فأما ما فرض عليه فتسعة : الأول - التهجد بالليل ، يقال : إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات ، لقوله تعالى : " يا أيها المزمل{[12874]} قم الليل " [ المزمل : 1 - 2 ] الآية . والمنصوص أنه كان واجبا عليه ، ثم نسخ بقوله تعالى : " ومن الليل فتهجد به{[12875]} نافلة لك " [ الإسراء : 79 ] وسيأتي . الثاني : الضحى . الثالث : الأضحى . الرابع : الوتر ، وهو يدخل في قسم التهجد . الخامس : السواك . السادس : قضاء دين من مات معسرا . السابع : مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع . الثامن : تخير النساء . التاسع : إذا عمل عملا أثبته . زاد غيره : وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره ؛ لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه ، ذكره صاحب البيان . وأما ما حرم عليه فجملته عشرة : الأول : تحريم الزكاة عليه وعلى آله . الثاني : صدقة التطوع عليه ، وفي آله تفصيل باختلاف . الثالث : خائنة{[12876]} الأعين ، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر ، أو ينخدع عما يجب . وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ، ثم ألان له القول عند دخول{[12877]} . الرابع : حرم الله عليه إذا ليس بأمته{[12878]} أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه . الخامس : الأكل متكئا . السادس : أكل الأطعمة الكريهة الرائحة . السابع : التبدل بأزواجه ، وسيأتي . الثامن : نكاح امرأة تكره صحبته . التاسع : نكاح الحرة الكتابية . العاشر : نكاح الأمة .
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها غيره تنزيها له وتطهيرا . فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه ، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته . قال الله تعالى : " وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " {[12879]} [ العنكبوت : 48 ] . وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب ، والأول هو المشهور . وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس ، قال الله تعالى : " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " {[12880]} [ الحجر : 88 ] الآية .
وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر : الأول : صفي المغنم . الثاني : الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس . الثالث : الوصال . الرابع : الزيادة على أربع نسوة . الخامس : النكاح بلفظ الهبة . السادس : النكاح بغير ولي . السابع : النكاح بغير صداق . الثامن : نكاحه في حالة الإحرام . التاسع : سقوط القسم بين الأزواج عنه ، وسيأتي . العاشر : إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها ، وحل له نكاحها . قال ابن العربي : هكذا قال إمام الحرمين ، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى . الحادي عشر : أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها . الثاني عشر : دخول مكة بغير إحرام ، وفي حقنا فيه اختلاف . الثالث عشر : القتال بمكة . الرابع عشر : أنه لا يورث . وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قال الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه ، ولم يبق له إلا الثلث خالصا ، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في آية المواريث{[12881]} ، وسورة " مريم " {[12882]} بيانه أيضا .
الخامس عشر : بقاء زوجيته من بعد الموت . السادس عشر : إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح . وهذه الأقسام الثلاثة تقدم معظمها مفصلا في مواضعها . وسيأتي إن شاء الله تعالى . [ وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام ، والشراب من الجائع والعطشان ، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك ، لقوله تعالى : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " [ الأحزاب : 6 ] . وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه . وأبيح له أن يحمي لنفسه{[12883]} . وأكرمه الله بتحليل الغنائم . وجعلت الأرض له ولأمته . مسجدا وطهورا . وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد . ونصر بالرعب ، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر . وبعث إلى كافة الخلق ، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث . الواحد إلى بعض الناس دون بعض . وجعلت معجزاته . كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة . وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة وقد انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم الله إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص . وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحن الجذع إليه ، وهذا أبلغ . وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له ، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة ، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة ]{[12884]} .
قوله تعالى " من دون المؤمنين " فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام .
السابعة عشرة- قوله تعالى : " أن يستنكحها " أي ينكحها ، يقال : نكح واستنكح ، مثل عجب واستعجب ، وعجل واستعجل . ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح ، أو طلب الوطء . و " خالصة " نصب على الحال ، قاله الزجاج . وقيل : حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر ، تقديره : أحللنا لك أزواجك ، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة ، بلفظ الهبة وبغير صداق ، وبغير ولي .
الثامنة عشرة- قوله تعالى : " من دون المؤمنين " فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول ؛ لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام . أي ما أوجبنا على المؤمنين ، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي . قال معناه أبي بن كعب وقتادة وغيرهما .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : " لكيلا يكون عليك حرج " أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة ، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح " لكيلا يكون عليك حرج " . ف " لكيلا " متعلق بقوله : " إنا أحللنا أزواجك " أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك ، في شيء . " وكان الله غفورا رحيما " ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى : " وكان الله غفورا رحيما " .