في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

ثم يعود إلى الحديث عن تلك الحقيقة الأولى :

( أم يقولون : افترى على الله كذبا ? فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ، ويحق الحق بكلماته ، إنه عليم بذات الصدور ) .

هنا يأتي على الشبهة الأخيرة ، التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي ، الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية :

( أم يقولون : افترى على الله كذبا ? ) . .

فهم من ثم لا يصدقونه ، لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه ، ولم يأته شيء من الله ?

ولكن هذا قول مردود . فما كان الله ليدع أحدا يدعي أن الله أوحى إليه ، وهو لم يوح إليه شيئاً ، وهو قادر على أن يختم على قلبه ، فلا ينطق بقرآن كهذا . وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه . وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته :

( فإن يشأ الله يختم على قلبك ، ويمح الله الباطل ، ويحق الحق بكلماته )

وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] حتى قبل أن يقوله :

( إنه عليم بذات الصدور ) . .

فهي شبهة لا قوام لها . وزعم لا يقوم على أساس . ودعوى تخالف المعهود عن علم الله بالسرائر ، وعن قدرته على ما يريد ، وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل . . وإذن فهذا الوحي حق ، وقول محمد صدق ؛ وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال . . وبذلك ينتهي القول - مؤقتاً - في الوحي . ويأخذ بهم في جولة أخرى وراء هذا القرار .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

قوله تعالى :{ أم يقولون } بل يقولون يعني : كفار مكة ، { افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك } قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم ، وقولهم إنه مفتر ، قال قتادة : يعني يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما أتاك ، فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذبا لفعل به ما أخبر عنه في هذه الآية ، ثم ابتدأ فقال : { ويمح الله الباطل } قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : والله يمحو الباطل فهو في محل رفع ، ولكنه حذف منه الواو في المصحف على اللفظ كما حذفت من قوله : { ويدع الإنسان } ( الإسراء-11 ) و{ سندع الزبانية } ( العلق-18 ) ، خبر أن ما يقولونه باطل يمحوه الله ، { ويحق الحق بكلماته } أي : الإسلام بما أنزل من كتابه ، وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام ، { إنه عليم بذات الصدور }

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

{ أم يقولون } بل أيقولون يعني أهل مكة { افترى على الله كذبا } تقول القرآن من قبل نفسه { فإن يشأ الله يختم على قلبك } يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ثم ابتدأ فقال { ويمح الله الباطل } أي الشرك { ويحق الحق بكلماته } بما أنزله من كتابه على لسان نبيه عليه السلام وهو القرآن

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

قوله تعالى : " أم يقولون افترى على الله كذبا " الميم صلة ، والتقدير أيقولون افترى . واتصل الكلام بما قبل ؛ لأن الله تعالى لما قال : " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب " {[13505]} [ الشورى : 15 ] ، وقال : " الله الذي أنزل الكتاب بالحق " {[13506]} [ الشورى : 17 ] قال إتماما للبيان : " أم يقولون افترى على الله كذبا " يعني كفار قريش قالوا : إن محمدا اختلق الكذب على الله . " فإن يشأ الله " شرط وجوابه " يختم على قلبك " قال قتادة : يطبع على قلبك فينسيك القرآن ، فأخبرهم الله أنه لو افترى عليه لفعل بمحمد ما أخبرهم به في هذه الآية . وقال مجاهد ومقاتل : " إن يشاء الله " يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم . وقيل : المعنى إن يشأ يزل تمييزك . وقيل : المعنى لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبا لطبع على قلبك . قاله ابن عيسى . وقيل : فإن يشأ الله يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم وعاجلهم بالعقاب . فالخطاب له والمراد الكفار ، ذكره القشيري . ثم ابتدأ فقال : " ويمح الله الباطل " قال ابن الأنباري : " يختم على قلبك " تام . وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير . مجازه : والله يمحو الباطل ، فحذف منه الواو في المصحف ، وهو في موضع رفع . كما حذفت من قوله : " سندع الزبانية " {[13507]} ، [ العلق : 18 ] ، " ويدع الإنسان " {[13508]} [ الإسراء : 1 1 ] ولأنه عطف على قوله : " يختم على قلبك " . وقال الزجاج : قوله : " أم يقولون افترى على الله كذبا " تمام ، وقوله : " ويمح الله الباطل " احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي لو كان ما أتى به باطلا لمحاه كما جرت به عادته في المفترين . " ويحق الحق " أي الإسلام فيثبته " بكلماته إنه عليم بذات الصدور " أي بما أنزل من القرآن . " إنه عليم بذات الصدور " عام ، أي بما في قلوب العباد . وقيل خاص . والمعنى أنك لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبا لعلمه وطبع على قلبك .


[13505]:آية 15 من هذه السورة.
[13506]:آية 17 من هذه السورة.
[13507]:آية 18 سورة العلق.
[13508]:آية 11 سورة الإسراء.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (24)

ولما أثبت أنه أنزل الكتاب بالحق ، ودل على ذلك إلى أن ختم بنفي الغرض في البلاغ فحصل القطع بمضمون الخبر ، كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم : هل عملوا بما نبهناهم عليه مما يدعون أنهم عريقون فيه من صلة الرحم والإقبال على معالي الأخلاق باجتناب السيئات وارتكاب الحسنات ، والبعد عن الكذب والمكابرة والبهتان ، فاعتقدوا أنه حق وأنه وحي من عند الله بما قام على ذلك من البرهان : { أم يقولون } عناداً : { افترى } أي تعمد أن يقطع ، وقدم ذكر الملك الأعظم تنبيهاً على أنه لا أفظع من الكذب على ملك الملوك مع فهم المفعول به من لفظ الافتراء فقال : { على الله } الذي أحاط بصفات الكمال ، فله العلم الشامل بمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه { كذباً } حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله لهذا الدين .

ولما كان التقدير قطعاً : إنهم ليقولون ذلك وكان قولهم له قولاً معلوم البطلان لأنه تحداهم بشيء من مثله في زعمهم أن له مثلاً ليعلم صحة قولهم فلم يأتوا بشيء وهم وإن كانوا قد يدعون أنه يمنعهم من ذلك أنهم لا يستجيزون الكذب مبطلون لا يمتري عاقل في بطلان ذلك منهم أيضاً لأنهم لم يطلب منهم أن ينسوا ما يأتون به إلى الله على أنه لو طلب منهم ذلك لما كان عذراً ، لأنه لا يتوقف أحد في أن الضرورات تبيح المحذورات ، وأنه يرتكب أخف الضررين لدفع أثقلهما ، فالإتيان بكلام يسر يسكن به فتن طوال وتنقطع به شرور كبار في غاية الحسن لأن الخطب فيه سهل ، والأمر يسير ، فكان ذلك وهم يرتكبون أكبر منه من قطع الأرحام وتفريق الكلمة لقتل النفوس وتخريب الديار وإتلاف الأموال دليلاً قاطعاً على أنهم إنما يتركونه عجزاً ، تسبب عن قولهم هذا وهو نسبتهم له إلى تعمد الكذب أن قال تعالى رداً عليهم ببيان كذبهم فيما قالوا ببيان ما له صلى الله عليه وسلم من نور القلب اللازم عن استقامة القول : { فإن } وأظهر الجلالة ولم يضمر تعظيماً للأمر بأن الختم لا يقدر عليه إلا المتصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق من غير تقيد بقيد أصلاً فقال : { يشأ الله } أي الذي له الإحاطة بالكمال { يختم } وجرى على الأسلوب السابق في الخطاب لأعظم أولي الألباب فقال معبراً بأداة الاستعلاء : { على قلبك } فيمنعه من قبول روح هذا الوحي كما ختم على قلوب أعدائك من قبول ذلك ، فتستوي حينئذ معهم في عدم القدرة على الإتيان بشيء منه وتصير لو قلت وقد أعاذك الله عما يقولون مما يصح نسبته إلى الباطل لم تقله إلا ومعه الأدلة قائمة على بطلانه كما أنهم هم كذلك لا يزالون مفضوحين بما على أقوالهم من الأدلة قائمة على بطلانها ، وكان الأصل في الكلام : أم يقولون ذلك وأنهم لكاذبون فيه بسبب أن الله قد شرح صدرك وأنار قلبك فلا تقول قولاً إلا كانت الأدلة قائمة على صدقه ، ولكنه ساق الكلام هكذا لأنه مع كونه أنصف دال على تعليق الوصف بالافتراء على ختم القلوب ، وذلك دال قطعاً على أنهم هم الكاذبون لما على قلوبهم من الختم الموجب لأنها تقول ما الأدلة قائمة على كذبه .

ولما كان التقدير كما دل عليه السياق : ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء جعله قابلاً لروح الوحي واعياً لفنون العلم فهو يقذف بأنواع المعارف ، ويهتف بتلقي أعاجيب اللطائف ، ويثبت الله ذلك كله من غير مانع ولا صارف ، عطف عليه قوله : { ويمحُ الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { الباطل } وهو قولهم " افترى " وكل كذب فلا يدع له أثراً ، وهنالك يظهر خسران الجاحد وينقطع لسان الألد المعاند ، ولم يذكر أن آلة المحو الكلمات وغيرها استهانة به بالإشارة إلى أنه تارة يمحوه بنفسه بلا سبب وتارة بأضعف الأسباب وتارة بأعلى منه ، وحذفت واوه في الخط في جميع المصاحف مع أنه استئناف غير داخل في الجواب لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً إيماء إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته التي دلت عليها الواو مطابقة بين خطه ولفظه ، ومعناه تأكيداً للبشارة يمحوه محواً لا يدع له عيناً ولا أثراً لمن ثبت لصولته : وصبر كما أمر لحولته ، اعتماداً على صادق وعد الله إيماناً بالغيب وثقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر إيماء إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا بد من كونه على أتم الوجوه وأحكمها وأعلاها وأتقنها كما يكون المأمور به من الملك المطاع ، وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال : { ويحق } أي يثبت على وجه لا يمكن زواله { الحق } أي كل من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره ، وعظم الحق وإحقاقه بذكر آلة الفعل فقال : { بكلماته } أي التي لو كان البحر مداداً }[ الكهف : 109 ] الآية التي يقولون إن ما أتاهم من العبارة عنها افتراء للكذب ، والحاصل أنه سبحانه أثبت صفاء لبه ونورانية قلبه وسداد قوله وصواب أمره ، وظلام قلوبهم وبطلان أقوالهم إثباتاً مقروناً بدليله أما لأهل البصائر فبعجزهم عن معارضته ، وأما للأغبياء فإثبات قوله ومحو قولهم .

ولما كانوا يعلمون أنه على حق وهم على باطل ، وكان من أحاط علمه بشيء قدر على ما يريده من ذلك الشيء ، بين ذلك بقوله معللاً على وجه التأكيد لأن عملهم عمل من يظن أن الله لا يعلم مكرهم : { إنه عليم } أي بالغ { بذات الصدور * } أي ما هو فيها مما يعلمه صاحبه ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك{ ولتعلمن نبأه بعد حين }[ ص : 88 ] ولقد صدق الله فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه ، ومن أصدق من الله قيلاً .