وبعد فالأمانة والعدل . . ما مقياسهما ؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما ؟ في كل مجال في الحياة ، وفي كل نشاط للحياة ؟
أنترك مدلول الأمانة والعدل ؛ ووسائل تطبيقها وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم ؟ وإلى ما تحكم به عقولهم - أو أهواؤهم ؟
إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان . . هذا حق . . ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات ، متأثرا بشتى المؤثرات . . ليس هناك ما يسمى " العقل البشري " كمدلول مطلق ! إنما هناك عقلي وعقلك ، وعقل فلان وعلان ، وعقول هذه المجموعة من البشر ، في مكان ما وفي زمان ما . . وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى ؛ تميل بها من هنا وتميل بها من هناك . .
ولا بد من ميزان ثابت ، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة ؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها . ومدى الشطط والغلو ، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات . وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان ، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان . . الميزان الثابت ، الذي لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بشتى المؤثرات . .
ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين . . فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها . فتختل جميع القيم . . ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم .
والله يضع هذا الميزان للبشر ، للأمانة والعدل ، ولسائر القيم ، وسائر الأحكام ، وسائر أوجه النشاط ، في كل حقل من حقول الحياة :
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ؛ وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر . . منكم . . فإن تنازعتم في شيء ، فردوه إلى الله والرسول . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ذلك خير وأحسن تأويلا ) . .
وفي هذا النص القصير يبين الله - سبحانه - شرط الإيمان وحد الإسلام . في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة ؛ وقاعدة الحكم ، ومصدر السلطان . . وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده ؛ والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصا ، من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال ؛ مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام . . ليكون هنالك الميزان الثابت ، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام !
إن " الحاكمية " لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق ، وما كبر منها وما صغر - والله قد سن شريعة أودعها قرآنه . وأرسل بها رسولا يبينها للناس . ولا ينطق عن الهوى . فسنته [ ص ] من ثم شريعة من شريعة الله .
والله واجب الطاعة . ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة . فشريعته واجبة التنفيذ . وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداء - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة . صفة الرسالة من الله - فطاعته إذن من طاعة الله ، الذي أرسله بهذه الشريعة ، وببيانها للناس في سنته . . وسنته وقضاؤه - على هذا - جزء من الشريعة واجب النفاذ . . والإيمان يتعلق - وجودا وعدما - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن :
( إن كنم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) . .
فأما أولو الأمر ؛ فالنص يعين من هم .
أي من المؤمنين . . الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية . . من طاعة الله وطاعة الرسول ؛ وإفراد الله - سبحانه - بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء ؛ والتلقي منه وحده - فيما نص عليه - والرجوع إليه أيضا فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء ، مما لم يرد فيه نص ؛ لتطبيق المبادى ء العامة في النصوص عليه .
والنص يجعل طاعة الله أصلا ؛ وطاعة رسوله أصلا كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر . . منكم . . تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله . فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم ، كما كررها عند ذكر الرسول [ ص ] ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله - بعد أن قرر أنهم( منكم )بقيد الإيمان وشرطه . .
وطاعة أولي الأمر . . منكم . . بعد هذه التقريرات كلها ، في حدود المعروف المشروع من الله ، والذي لم يرد نص بحرمته ؛ ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادى ء شريعته ، عند الاختلاف فيه . . والسنة تقرر حدود هذه الطاعة ، على وجه الجزم واليقين :
في الصحيحين من حديث الأعمش : " إنما الطاعة في المعروف " .
وفيهما من حديث يحيى القطان : " السمع والطاعة على المرء المسلم . فيما أحب أو كره . ما لم يؤمر بمعصية . فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
وأخرج مسلم من حديث أم الحصين : " ولو استعمل عليكم عبد . يقودكم بكتاب الله . اسمعوا له وأطيعوا " . . بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينا على شريعة الله وسنة رسوله . أمينا على إيمانه وهو ودينه . أمينا على نفسه وعقله . أمينا على مصيره في الدنيا والآخرة . . ولا يجعله بهيمة في القطيع ؛ تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع ! فالمنهج واضح ، وحدود الطاعة واضحة . والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد ، ولا تتفرق ، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون !
ذلك فيما ورد فيه نص صريح . فأما الذي لم يرد فيه نص . وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية ، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع ، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق . . مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يترك كذلك تيها . ولم يترك بلا ميزان . ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع . . ووضع هذا النص القصير ، منهج الاجتهاد كله ، وحدده بحدوده ؛ وأقام " الأصل " الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضا .
( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) . .
ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمنا . فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو ، فردوه إلى المبادى ء الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . وهذه ليست عائمة ، ولا فوضى ، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول . وهناك - في هذا الدين - مبادى ء أساسية واضحة كل الوضوح ، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية ، وتضع لها سياجا خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوطبميزان هذا الدين .
( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) . .
تلك الطاعة لله والطاعة للرسول ، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول . ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول . . هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر . كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر . .
فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود . . ولا يوجد الإيمان ، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد .
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي ، يقدمها مرة أخرى في صورة " العظة " والترغيب والتحبيب ؛ على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب :
ذلك خير لكم وأحسن مآلا . خير في الدنيا وخير في الآخرة . وأحسن مآلا في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة كذلك . . فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة - وهو أمر هائل ، عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة .
أن هذا المنهج معناه : أن يستمتع " الإنسان " بمزايا منهج يضعه له الله . . الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير . . منهج بريء من جهل الإنسان ، وهوى الإنسان ، وضعف الإنسان . وشهوة الإنسان . . منهج لا محاباة فيه لفرد ، ولا لطبقة ، ولا لشعب ، ولا لجنس ، ولا لجيل من البشر على جيل . . لأن الله رب الجميع ، ولا تخالجه - سبحانه - وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - شهوة المحاباة لفرد ، أو طبقة ، أو شعب ، أو جنس ، أو جيل .
ومنهج من مزاياه ، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان . . الذي يعلم حقيقة فطرته ، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها ؛ ووسائل خطابها وإصلاحها ، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - في تيه التجارب بحثا عن منهج يوافق . ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية ، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل ! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون . فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري . وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج ؛ ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول .
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون ، الذي يعيش فيه الإنسان . فهو يضمن للإنسان منهجا تتلاءم قواعده مع نواميس الكون ؛ فلا يروح يعارك هذه النواميس . بل يروح يتعرف إليها ، ويصادقها ، وينتفع بها . . والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه .
ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحيميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكانا للعمل في المنهج . . مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة . ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادى ء العامة للدين . . ذلك إلى المجال الأصيل ، الذي يحكمه العقل البشري ، ويعلن فيه سيادته الكاملة : ميدان البحث العلمي في الكون ؛ والإبداع المادي فيه .
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده ، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية . أمر الناس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل تنبيها على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق . وقيل علماء الشرع لقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } . { فإن تنازعتم } أنتم وأولو الأمر منكم . { في شيء } من أمور الدين ، وهو يؤيد الوجه الأول إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات . { فردوه } فراجعوا فيه . { إلى الله } إلى كتابه . { والرسول } بالسؤال عنه في زمانه ، والمراجعة إلى سنته بعده . واستدل به منكرو القياس وقالوا : إنه تعالى أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس . وأجيب بأن رد المختلف إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو القياس ، ويؤيد ذلك الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة مثبت بالكتاب ومثبت بالسنة ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس . { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فإن الإيمان يوجب ذلك . { ذلك } أي الرد . { خير } لكم . { وأحسن تأويلا } عاقبة أو أحسن تأويلا من تأويلكم بلا رد .
لمّا أمر الله الأمّة بالحكم بالعدل عقّب ذلك بخطابهم بالأمر بطاعة الحكّام ولاة أمورهم ؛ لأنّ الطاعة لهم هي مظهر نفوذ العدل الذي يحكم به حكّامهم ، فطاعة الرسول تشتمل على احترام العدل المشرّع لهم وعلى تنفيذه ، وطاعة ولاة الأمور تنفيذ للعدل ، وأشار بهذا التعقيب إلى أنّ الطاعة المأمور بها هي الطاعة في المعروف ، ولهذا قال عليّ : « حقّ على الإمام أن يحكم بالعدل ويودّي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحقّ على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا » . أمر الله بطاعة الله ورسوله وذلك بمعنى طاعة الشريعة ، فإنّ الله هو منزّل الشريعة ورسوله مبلّغها والحاكم بها في حضرته .
وإنّما أعيد فعل : { وأطيعوا الرسول } مع أنّ حرف العطف يغني عن إعادته إظهاراً للاهتمام بتحصيل طاعة الرسول لتكون أعلى مرتبة من طاعة أولي الأمر ، ولينبّه على وجوب طاعته فيما يأمر به ، ولو كان أمره غير مقترن بقرائن تبليغ الوحي لئلاّ يتوهّم السامع أنّ طاعة الرسول المأمور بها ترجع إلى طاعة الله فيما يبلّغه عن الله دون ما يأمر به في غير التشريع ، فإنّ امتثال أمره كلّه خير ، ألا ترى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد بن المعلَّى ، وأبو سعيد يصلي ، فلم يجبه فلمّا فرغ من صلاته جاءه فقال له : " ما منَعك أن تجيبني " فقال : « كنت أصلّي » فقال : " ألم يقل الله { يأيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } [ الأنفال : 24 ] " ؛ ولذلك كانوا إذا لم يعلموا مراد الرسول من أمره ربما سألوه : أهو أمر تشريع أم هو الرأي والنظر ، كما قال له الحباب بن المنذر يوم بدر حين نزل جيش المسلمين : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نجتازه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل الرأي والحرب والمكيدة . . . الحديث . ولمّا كلّم بريرة في أن تراجع زوجها مُغيثاً بعد أن عَتَقَتْ ، قالت له : أتأمرُ يا رسول الله أم تشفع ، قال : بل أشفع ، قالت : لا أبقى معه .
ولهذا لم يُعَدْ فعل { فُردّوه } في قوله : { والرسول } لأنّ ذلك في التحاكم بينهم ، والتحاكم لا يكون إلاّ للأخذ بحكم الله في شرعه ، ولذلك لا نجد تكريراً لفعل الطاعة في نظائر هذه الآية التي لم يعطف فيها أولو الأمر مثل قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون } [ الأنفال : 20 ] وقوله : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا } [ الأنفال : 46 ] { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } [ النور : 52 ] ، إذ طاعة الرسول مساوية لطاعة الله لأنّ الرسول هو المبلّغ عن الله فلا يتلقّى أمر الله إلاّ منه ، وهو منقّذ أمر الله بنفسه ، فطاعته طاعة تلقّ وطاعةُ امتثال ، لأنه مبلّغ ومنقّذ ، بخلاف أولي الأمر فإنّهم منقّذون لما بلغّه الرسول فطاعتهم طاعة امتثال خاصّة .
ولذلك كانوا إذا أمرهم بعمل في غير أمور التشريع ، يسألونه أهذا أمر أم رأي وإشارة فإنّه لمّا قال للذين يأبرون النخل " لو لم تفعلوا لصَلَح " .
وقوله : { وأولي الأمر } يعني ذويه وهم أصحاب الأمر والمتولّون له . والأمر هو الشأن ، أي ما يهتمّ به من الأحوال والشؤون ، فأولو الأمر من الأمّة ومن القوم هم الذين يسند الناس إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم ، فيصير الأمر كأنّه من خصائصهم ، فلذلك يقال لهم : ذَوو الأمر وأولو الأمر ، ويقال في ضدّ ذلك : ليس له من الأمر شيء . ولمّا أمر الله بطاعة أولي الأمر علمنا أنّ أولي الأمر في نظر الشريعة طائفة معيّنة ، وهم قدوة الأمّة وأمناؤها ، فعلمنا أنّ تلك الصفة تثبت لهم بطرق شرعية إذ أمور الإسلام لا تخرج عن الدائرة الشرعية ، وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إمّا الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه ، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان ، وإمّا صفات الكمال التي تجعلهم محلّ اقتداء الأمّة بهم وهي الإسلام والعلم والعدالة . فأهل العلم العدولُ : من أولي الأمر بذاتهم لأنّ صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية ، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمّة بها ، لما جرب من علمهم وإتقانهم في الفتوى والتعليم . قال مالك : « أولو الأمر : أهل القرآن والعلم » يعني أهل العلم بالقرآن والاجتهاد ، فأولو الأمر هنا هم من عدا الرسول من الخليفة إلى والي الحسبة ، ومن قواد الجيوش ومن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة ، وأولو الأمر هم الذين يطلق عليهم أيضاً أهل الحلّ والعقد .
وإنّما أمر بذلك بعد الأمر بالعدل وأداء الأمانة لأنّ هذين الأمرين قوام نظام الأمّة وهو تناصح الأمراء والرعية وانبثاث الثقة بينهم .
ولمّا كانت الحوادث لا تخلو من حدوث الخلاف بين الرعيّة ، وبينهم وبين ولاة أمورهم ، أرشدهم الله إلى طريقة فصل الخلاف بالردّ إلى الله وإلى الرسول . ومعنى الردّ إلى الله الردّ إلى كتابه ، كما دلّ على ذلك قوله في نظيره { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله } [ المائدة : 104 ] .
ومعنى الردّ إلى الرسول إنهاء الأمور إليه في حياته وحضرته ، كما دلّ عليه قوله في نظيره { إلى الرسول } [ النساء : 83 ] فأمّا بعد وفاته أو في غيبَتِه ، فالردّ إليه الرجوع إلى أقواله وأفعاله ، والاحتذاء بسُنّته . روى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " لا ألْفِيَنَّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه " . وفي روايته عن العرباض ابن سارية أنْه سمع رسول الله يخطب يقول : " أيحسب أحدكم وهو متّكىء على أريكته وقد يَظنّ أنّ الله لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في هذا القرآن ألا وإنّي والله قد أمَرْت ووعظت ونهيت عن أشياء إنّها لمثل القرآن أو أكثر " وأخرجه الترمذي من حديث المقدام . وعرض الحوادث على مقياس تصرّفاته والصريح من سنّته .
والتنازعُ : شدّة الاختلاف ، وهو تفاعل من النزع ، أي الأخذ ، قال الأعشى :
نازعتُهم قُضب الريحان متّكئاً *** وقهوةً مُزة رَاوُوقها خَضِل
فأطلق التنازع على الاختلاف الشديد على طريق الاستعارة ، لأنّ الاختلاف الشديد يشبه التجاذبَ بين شخصين ، وغلب ذلك حتّى ساوى الحقيقة ، قال الله تعالى : { ولا تَنَازَعُوا فَفْشَلوا } [ الأنفال : 46 ] { فتنازعوا أمرهم بينهم وأسّروا النجوى } [ طه : 62 ] .
وضمير { تنازعتم } راجع للذين آمنوا فيشمل كلّ من يمكن بينهم التنازع ، وهم مَن عدا الرسولَ ، إذ لا ينازعه المؤمنون ، فشمل تنازع العموم بعضهم مع بعض ، وشمل تنازع ولاة الأمور بعضهم مع بعض ، كتنازع الوزراء مع الأمير أو بعضهم مع بعض ، وشمل تنازع الرعية مع ولاة أمورهم ، وشمل تنازع العلماء بعضهم مع بعض في شؤون علم الدين . وإذا نظرنا إلى ما ذكر في سبب النزول نجد المراد ابتداء هو الخلاف بين الأمراء والأمّة ، ولذلك نجد المفسّرين قد فسّروه ببعض صور من هذه الصور ، فليس مقصدهم قصر الآية على ما فسّروا به ، وأحسن عباراتهم في هذا قول الطبري : « يعني فإن اختلفتم أيّها المؤمنون أنتم فيما بينكم أو أنتم وأولو أمركم فيه » . وعن مجاهد : فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله » .
ولفظ ( شيء ) نكرة متوغّلة في الإبهام فهو في حيّز الشرط يفيد العموم ، أي في كلّ شيء ، فيصدق بالتنازع في الخصومة على الحقوق ، ويصدق بالتنازع في اختلاف الآراء عند المشاورة أو عند مباشرة عمل مّا ، كتنازع ولاة الأمور في إجراء أحوال الأمّة . ولقد حسَّن موقع كلمة ( شيء ) هنا تعميم الحوادث وأنواع الاختلاف ، فكان من المواقع الرشيقة في تقسيم عبَد القاهر ، وقد تقدّم تحقيق مواقع لفظ شيء عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة ( 155 ) .
والردّ هنا مجاز في التحاكم إلى الحاكم وفي تحكيم ذي الرأي عند اختلاف الآراء . وحقيقته إرجاع الشيء إلى صاحبه مثل العارية والمغصوب ، ثم أطلق على التخلّي عن الانتصاف بتفويض الحكم إلى الحاكم ، وعن عدم تصويب الرأي بتفويض تصويبه إلى الغير ، إطلاقاً على طريق الاستعارة ، وغلب هذا الإطلاق في الكلام حتّى ساوى الحقيقة .
وعموم لفظ شيء في سياق الشرط يقتضي عموم الأمر بالردّ إلى الله والرسول ؛ وعموم أحوال التنازع ، تبعاً لعموم الأشياء المتنازع فيها ، فمن ذلك الخصومات والدعاوي في الحقوق ، وهو المتبادر من الآية بادىء بدء بقرينة قوله عقبه ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت فإنّ هذا كالمقدّمة لذلك فأشبه سبب نزول ، ولذلك كان هو المتبادر وهو لاَ يمنع من عموم العامّ ، ومن ذلك التنازع في طرق تنفيذ الأوامر العامّة ، كما يحصل بين أفراد الجيوش وبين بعض قوادهم .
وقد قيل : إنّ الآية نزلت في نزاع حدَث بين أمير سرية الأنصار عبد الله بن حذافة السهمي كما سيأتي ، ومن ذلك الاختلاف بين أهل الحلّ والعقد في شؤون مصالح المسلمين ، وما يرومون حمل الناس عليه .
ومن ذلك اختلاف أهل العلم في الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد والنظر في أدلة الشريعة .
فكلّ هذا الاختلاف والتنازعِ مأمور أصحابه بردّ أمره إلى الله والرسول . وردُّ كلّ نوع من ذلك يتعيّن أن يكون بحيث يُرجى معه زوال الاختلاف ، وذلك ببذل الجهد والوسع في الوصول إلى الحقّ الجليّ في تلك الأحوال . فما روي عن مجاهد وميمون بن مهران في تفسير التنازع بتنازع أهل العلم إنّما هو تنبيه على الفرد الأخفى من أفراد العموم ، وليس تخصيصاً للعموم .
وذكر الردّ إلى الله في هذا مقصود منه مراقبة الله تعالى في طلب انجلاء الحقّ في مواقع النزاع ، تعظيماً لله تعالى ، فإنّ الردّ إلى الرسول يحصل به الردّ إلى الله ، إذ الرسول هو المنبىء عن مراد الله تعالى ، فذكر اسم الله هنا هو بمنزلة ذكره في قوله : { فإن لله خمسهُ وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية .
ثمّ الردّ إلى الرسول في حياة الرسول وحضوره ظاهر وهو المتبادر من الآية ، وأمَّا الردّ إليه في غيبته أو بعد وفاته ، فبالتحاكم إلى الحكّام الذين أقامهم الرسول أو أمرَّهم بالتعيين ، وإلى الحكّام الذين نصبهم ولاة الأمور للحكم بين الناس بالشريعة ممّن يظنّ به العلم بوجوه الشريعة وتصاريفها ، فإنّ تعيين صفات الحكّام وشروطهم وطرق توليتهم ، فيما ورد عن الرسول من أدلّة صفات الحكّام ، يقوم مقام تعيين أشخاصهم ، وبالتأمّل في تصرّفاته وسنّته ثم الصدَر على ما يتبيّن للمتأمّل من حال يظنّها هي مراد الرسول لو سئل عنها في جميع أحوال النزاع في فهم الشريعة واستنباط أحكامها المسكوت عنها من الرسول ، أو المجهول قوله فيها .
وقوله : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } تحريض وتحذير معاً ، لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر وازعان يزعان عن مخالفة الشرع ، والتعريضِ بمصالح الأمّة للتلاشي ، وعن الأخذ بالحظوظ العاجلة مع العلم بأنّها لا ترضي الله وتضُرّ الأمة ، فلا جرم أن يكون دأبُ المسلم الصادق الإقدامَ عند اتّضاح المصالح ، والتأمّلَ عند التباس الأمر والصدر بعد عرض المشكلات على أصول الشريعة .
ومعنى { إن كنتم تؤمنون } مع أنّهم خوطبوا ب { يأيُّها الذين آمنوا } : أي إن كنتم تؤمنون حقّاً ، وتلازمون واجبات المؤمن ، ولذلك قال تعالى : { ذلك خير } فجيء باسم الإشارة للتنويه ، وهي إشارة إلى الردّ المأخوذ من { فردّوه } . و( خير ) اسم لما فيه نفع ، وهو ضدّ الشرّ ، وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة ، والمراد كون الخير وقوّة الحُسن .
والتأويل : مصدر أوّل الشيء إذا أرجعه ، مشتقّ مِن آل يؤول إذا رجع ، وهو هنا بمعنى أحسن ردّاً وصرفاً . أخرج البخاري عن ابن عباس قال : نزل قوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عديّ إذ بعثه النبي في سرية . وأخرج في « كتاب المغازي » عن علي قال : بعث النبي سرية فاستعمل عليها رجلاً من الأنصار ، وأمرهم أن يطيعوه ، فغضب ، فقال : « أليس أمَرَكم النبي أن تطيعوني » قالوا : « بلى » قال : « فأجمعوا حطباً » فجمعوا ، قال : « أوقدوا ناراً » ، فأوْقدوها ، فقال « ادْخلُوها » ، فهمُّوا ، وجعل بعضهم يمسك بعضاً ، ويقولون : « فررنا إلى النبي من النار » ، فما زالوا حتّى خمدت النار فسكن غضبه فبلغ ذلك النبي فقال : " لو دخلوها مَا خرجوا منها إلى يوم القيامة ، الطاعةُ في المعروف " . فقول ابن عبّاس : نزلت في عبد الله بن حُدافة ، يحتمل أنّه أراد نزلت حين تعيينه أميراً على السرية وأنّ الأمر الذي فيها هو الذي أوجب تردّد أهل السرية في الدخول في النار ، ويحتمل أنّها نزلت بعد ما بلغ خبرهم رسول الله ، فيكون المقصود منها هو قوله : { فإن تنازعتم في شيء } الخ ، ويكون ابتداؤها بالأمر بالطاعة لَئِلاَّ يظنَّ أنّ ما فعله ذلك الأمير يبطل الأمر بالطاعة .