ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى ، ولدهشة المفاجأة في نفسه ، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها :
( قال : رب اجعل لي آية . . . ) . .
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي ؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس ؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه :
( قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . واذكر ربك كثيرا . وسبح بالعشي والإبكار )
ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلا . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة ؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر ! ! !
{ قال رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار . { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا ، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره ، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال . { إلا رمزا } إشارة بنحو يد أو رأس ، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير . وقرئ { رمزا } بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزا كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله :
متى ما تلقني فردين ترجف *** روانف أليتيك وتستطارا
{ واذكر ربك كثيرا } في أيام الحبسة ، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه ، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار . { وسبح بالعشي } من الزوال إلى الغروب . وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل . { والإبكار } من طلوع الفجر إلى الضحى . وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار .
«الآية » العلامة ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إن زكرياء قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق ، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها ، فعوقب على هذا الشك في أمر الله ، بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس ، وقالت فرفة من المفسرين : لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له { كذلك الله يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى .
واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير{[3152]} ، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث ، وقال الربيع وغيره : عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام ، وقال قوم من المفسرين : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، ثم استثنى الرمز ، وهو استثناء منقطع{[3153]} ، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها ، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، أنه منقطع ، وقرأ جمهور الناس { رَمْزاً } بفتح الراء وسكون الميم ، وقرأ علقمة بن قيس : «رُمزاً » بضمها ، وقرأ الأعمش «رَمْزاً » بفتحها ، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز ، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به ، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز ، ومنه قول جؤية بن عائد{[3154]} :
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزاً . . . وَغَمْغَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الْهَدِيرِ{[3155]}
وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعاً من الرمز في تفسيره هذه الآية ، فقال مجاهد : { إلا رمزاً } معناه إلا تحريكاً بالشفتين ، وقال الضحاك : معناه إلا إشارة باليد والرأس ، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير ، وقال الحسن : أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه ، وقال قتادة : { إلا رمزاً } ، معناه إلا إيماء ، وقرأ جمهور الناس : { ألا تكلم الناس } بنصب الفعل بأن ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «ألا تكلمُ » برفع الميم ، وهذا على أن تكون «أن » مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس ، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه السلام : } لا صمت يوماً إلى الليل{[3156]} { قول ظاهر الفساد من جهات ، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيراً لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه ، وقال محمد بن كعب القرظي : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه السلام حيث قال : «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً » ، لكنه قال له : { واذكر ربك كثيراً } ، وقوله تعالى : { وسبح } معناه قل سبحان الله ، وقال قوم معناه : صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس ، و«العشي » في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي{[3157]} ، و«العشي » من حين يفيء الفيء ، ومنه قول حميد بن ثور{[3158]} :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولا الفيء من برد العشيِّ تذوق
و«العشي » اسم مفرد عند بعضهم ، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين ، و{ الإبكار } مصدر أبكر الرجل «إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس ، وتتمادى البكرة شيئاً بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة{[3159]} : [ الطويل ]
أَمِنْ آلِ نُعْمى أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ . . . ومن الثاني قول جرير : [ الطويل ]
أَلاَ بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا . . . وشقَّ العَصَا بَعْدَ اجتماعٍ أمِيرُها{[3160]}
وقال مجاهد في تفسير { الإبكار } : أول الفجر ، والعشي ميل الشمس حتى تغيب .
قوله : { قال رب اجعل لي آية } أراد آية على وقت حصول ما بُشِّر به ، وهل هو قريب أو بعيد ، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه . وعن السدي والربيع : آيةَ تحقق كون الخطاب الوارد عليه وارداً من قبل الله تعالى ، وهو ما في إنجيل لوقا . وعندي في هذا نظر ، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري .
وقوله : { آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } جعل الله حُبْسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته ، لأنّ الله صرف ما لَه من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدمَاغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البَلاذر لقوة الفكر . أوْ أمرِه بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل ، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل . قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملَك ، وبذلك صرح في إنجيل لوقا ، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آيةً فأعطي غيرها .
وقوله : { واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار } أمر بالشكر . والذِّكر المراد به : الذِّكر بالقلب والصلاةِ إن كان قد سلب قوة النطق ، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط . والاستثناء في قوله إلاّ رمزاً استثناء منقطع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه خبرا عن زكريا، قال زكريا: يا ربّ إن كان هذا النداء الذي نوديته، والصوت الذي سمعته صوت ملائكتك، وبشارة منك لي، فاجعل لي آية! يقول: علامة أن ذلك كذلك، ليزول عني ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أن ذلك صوت غير الملائكة، وبشارة من عند غيرك. وقد دللنا فيما مضى على معنى الآية، وأنها العلامة. {قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا}؛ فعاقبه الله فيما ذكر لنا بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة بيحيى أنه من عند الله آية من نفسه، جمع تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربه على ما يبين له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصا له من هفوته، وخطأ قيله ومسألته.
وأما الرمز، فإن الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانا، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفيّ من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت: الرمز. وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عزّ وجلّ به في إخباره عن زكريا من قوله: {آيَتُكَ ألاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا} وأيّ معاني الرمز عنى بذلك؟ فقال بعضهم: عنى بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الإيماء والإشارة؛ أن يشير بيده أو رأسه ولا يتكلم.
{وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِيرا وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالإبْكارِ}: قال الله جلّ ثناؤه لزكريا: يا زكريا آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا بغير خرس، ولا عاهة، ولا مرض {واذْكُرْ رَبّكَ كَثِيرا} فإنك لا تمنع ذكره، ولا يحال بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره... لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا حيث قال: {آيَتُكَ أنْ لاَ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِيرا}.
{وَسَبّحْ بِالعَشِيّ}: عظم ربك بعبادته بالعشيّ. والعشيّ: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، وأما الإبكار: فإنه مصدر من قول القائل: أبكر فلان في حاجة، فهو يُبْكِرُ إبكارا، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى، فذلك إبكار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال آيتك ألا تلكم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} قال بعضهم أهل التفسير: حبس لسانه عقوبة له بقوله: {أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر} لكن ذلك خطأ، والوجه فيه منعه من تكليم الناس، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه. ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربه، ويسبح بالعشي والإبكار بقوله: {واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار}؟... ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله، إذا كان عن العلم بالولد في غير حينه، فأراه أن منع اللسان عن النطق هو أعلى أحوال الاحتمال ليكون آية للأول...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
طلب الآية ليعلم الوقت الذي هو وقت الإجابة على التعيين لا لِشك له في أصل الإجابة. وجعل آية ولايته في إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح، أي لا تمتنع عن خطابي فإني لا أمنع أوليائي من مناجاتي...
بقلبك ولسانك في جميع أوقاتك... {وَسَبِّحْ بِالعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ}. في الصلاة الدائبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ءَايَةً}: علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر. {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ} تقدر على تكليم الناس {ثلاثة أَيَّامٍ}؛ وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولذلك قال: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشى والإبكار} يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة.
فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدّة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره، توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعاً منه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال رب اجعل لي آية}: أي علامة تتقدم هذه العناية وتؤذن بها.
ومن سخافات بعض المفسرين التي أومأنا إليها آنفا زعمهم أن زكريا عليه السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم بوحي الشياطين ولذلك سأل سؤال التعجب، ثم طلب آية للتثبت، وروى ابن جرير عن السدي وعكرمة أن الشيطان هو الذي شككه في نداء الملائكة وقال له إنه من الشيطان. ولولا الجنون بالروايات مهما هزلت وسمجت لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل وليس في الكتاب ما يشير إليه، ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلا هذا لكفى في جرحه، وأن يضرب بروايته على وجهه، فعفا الله عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية ما ينشر.
{قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا}: قيل معناه أن تعجز عن خطاب الناس بحصر يعتري لسانك إذا أردته، ويرجحه أن الآية تكون بغير المعتاد وقيل معناه أن تترك ذلك مختارا التفرغ لعبادة الله ويؤيده قوله: {واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} والمشهور الأول. وللمفسرين روايات سقيمة فيه، منها أن هذه الآية عقوبة عاقبه الله تعالى بها أن طلب الآية بعد تبشير الملائكة ومنها أن لسانه ربا فيه حتى ملأه ومثل هذا السخف لا يجوز ذكره إلا لأجل رده على قائله وضرب وجهه به. وفي إنجيل لوقا أن جبريل قال لزكريا "وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته".
وقال الأستاذ الإمام: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه، ويبشر أهله، فسأل عن الكيفية ولما أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، ويكون إتمامه إياها وعلامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع للذكر والتسبيح مساء صباح مدة ثلاثة أيام فإذا احتيج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، وعلى هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال. واختلفوا في الرمز هل كان بالقول الخفي وتحريك الشفتين أم بغيرهما من الأعضاء كالعينين والحاجبين والرأس واليدين لأن الرمز والإيماء يكون بكل ذلك. والعشي من الزوال إلى الغروب وقيل من الغروب إلى ذهاب صدر من الليل وقال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح. والإبكار من الصباح إلى الضحى..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه...
(قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. واذكر ربك كثيرا. وسبح بالعشي والإبكار) ويسكت السياق هنا. ونعرف أن هذا قد كان فعلا. فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره.. لسانه هذا هو لسانه.. ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه.. أي قانون يحكم هذه الظاهرة؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية.. فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة.. كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر!!!...
فلما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟ إذن فمقولة مريم: {إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قد لفتت زكريا، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره، ولا نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا: ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاما.. وقول زكريا: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله. والهبة شيء بدون مقابل...
ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لا بد أن يندهش ويتعجب لذلك قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}. فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل: {وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}...
إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته كما قلنا وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: (كذلك الله يفعل ما يشاء). إنَّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً. كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.
(قال آيتك ألاَّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاَّ رمزاً).
«الرمز» إشارة بالشفة، والصوت الخفي. ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي، فأُطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأُمور.
أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضاً، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية.
ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء. فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله. وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.
هذا المضمون يرد في الآيات الأُولى من سورة مريم أيضاً.
وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية وإن لم يكن أمراً محرّماً ولا مكروهاً كان من نوع «ترك الأولى». لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.
يتبادر هنا للذهن سؤال: أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ؟
ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة. أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأُمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي تعتبر ذكراً لله، وتبليغاً للرسالة الإلهية. وهذا ما قام به فعلاً، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.
(واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشيّ والإبكار).
«العشي» تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتّى غروبها، و«الإبكار» من طلوع الفجر حتّى الظهر.
والراغب الاصفهاني يقول في «المفردات»: إنّ «العشي» من زوال الشمس حتّى الصباح، و«الإبكار» أوائل النهار.
وفي الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.
من الآيات الأُولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده، بل طلب من الناس إيماءاً أن يسبّحوا الله صباح مساء شكراً على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى. وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.