في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

75

فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون ؟

( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .

ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج . كان الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيان أشد ما يكون حيان من العرب عداء . وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين . . كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان ينو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي اليهودي من الفريق الآخر - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا الأسارى ، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا أو هناك ، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء حلفائهم على السواء - وذلك عملا بحكم التوراة وقد جاء فيها : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته . .

هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن ؛ وهو يسألهم في استنكار :

( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .

وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا ، والعذاب الأشد في الآخرة . مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا متجاوزا :

( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب . وما الله بغافل عما تعملون ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

{ ثم أنتم هؤلاء } استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه . وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون ، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا ، نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات ، وعدهم باعتبار ما أسند إليهم حضورا وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا . وقوله تعالى : { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } إما حال والعامل فيها معنى الإشارة ، أو بيان لهذه الجملة . وقيل : هؤلاء تأكيد ، والخبر هو الجملة . وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر ، وقرئ { تقتلون } على التكثير . { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } حال من فاعل تخرجون ، أو من مفعوله ، أو كليهما . والتظاهر التعاون من الظهر . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التاءين وقرئ بإظهارها ، وتظهرون بمعنى تتظهرون { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه . وقيل معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } . وقرأ حمزة { أسرى } وهو جمع أسير كجريح وجرحى ، وأسارى جمعه كسكرى وسكارى . وقيل هو أيضا جمع أسير ، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر " تفدوهم " { وهو محرم عليكم إخراجهم } متعلق بقوله { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } ، وما بينهما اعتراض ، والضمير للشأن ، أو مبهم ويفسره إخراجهم ، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر ، وإخراجهم بدل أو بيان { أفتؤمنون ببعض الكتاب } يعني الفداء .

{ وتكفرون ببعض } يعني حرمة المقاتلة والإجلاء . { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } كقتل قريظة وسبيهم . وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية على غيرهم . وأصل الخزي ذل يستحيا منه ، ولذلك يستعمل في كل منهما . { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } لأن عصيانهم أشد . { وما الله بغافل عما تعملون } تأكيد للوعيد ، أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم . وقرأ عاصم في رواية المفضل ، " تردون " على الخطاب لقوله { منكم } . وابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ، وخلف ويعقوب " يعملون " على أن الضمير لمن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }( 85 )

{ هؤلاء } دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل رداً إلى الأسلاف ، قيل : ( {[887]} ) تقدير الكلام يا هؤلاء ، فحذف حرف النداء ، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات ، لا تقول هذا أقبل ، وقيل تقديره أعني هؤلاء ، وقيل { هؤلاء } بمعنى الذين ، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون ، ف { تقتلون } صلة { لهؤلاء } ، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري .

عدسْ ما لعبّاد عليك إمارة . . . نجوت وهذا تحملين طليق( {[888]} )

وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن( {[889]} ) بن أحمد شيخنا رضي الله عنه : { هؤلاء } رفع بالابتداء و { أنتم } خبر مقدم ، و { تقتلون } حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه ، كما تقول هذا زيد منطلقاً ، وأنت قد قصدت الإخبار بالنطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد .

وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع ، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس ، وبني قينقاع حالفت الخزرج ، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة( {[890]} ) ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضاً وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعاً لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تُقتِّلون » بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة ، والديار مباني الإقامة ، وقال الخليل : محلة القوم دارهم ، وقرأ حمزة وعاصم والسكائي «تظاهرون » بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون ، وقرأ بقية السبعة «تظَّاهرون » بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء ، وقرأ أبو حيوة «تُظهِرون » بضم التاء وكسر الهاء ، وقرأ مجاهد وقتادة «تَظَّهَرَّون » بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف ، ورويت هذه عن أبي عمرو ، ومعنى ذلك( {[891]} ) على كل قراءة تتعاونون ، وهو مأخوذ من الظهر ، كأن المتظاهريْن يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه ، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي( {[892]} ) ، والمعنى بمكتسبات الإثم ، { والعدوان } تجاوز الحدود والظلم ، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج( {[893]} ) ، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم » ، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم » ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم » ، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم » . و { أسارى } جمع أسير ، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد ، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقاً ، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد ، وأسير فعيل بمعنى مفعول ، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى ، والأقيس فيه أسرى ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى ، كقتلى وجرحى ، والأصل في فعلان أن يجمع على «فَعالى » بفتح الفاء و «فُعالى » بضمها كسكران وكسلان وسُكَارى وكُسَالى ، قال سيبويه : فقالوا في جمع كسلان كسْلى ، شبّهوه بأسرى كما قالوا { أسارى } شبهوه بكسالى ، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرهاً كما يدخل الكسل ، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء .

و { تفَادوهم } معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً ، قاله أبو علي ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً ، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي ، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلاً ، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر ، تقول : فديت زيداً بمال وفاديته بمال ، وقال قوم : هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى( {[894]} ) ، قال أبو علي : كل واحد من الفريقين فعل ، الأسر دفع الأسير ، والمأسور منه دفع أيضاً إما أسيراً وإما غيره ، والمفعول الثاني محذوف .

وقوله تعالى : { وهو محرم }( {[895]} ) قيل في { هو } إنه ضمير الأمر ، تقديره والأمر محرم عليكم ، و { إخراجهم } في هذا القول بدل من

هو } ، وقيل { هو } فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و { محرم } على هذا ابتداء ، و { إخراجهم } خبره ، وقيل هو الضمير المقدر في { محرم } قدم وأظهر ، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم . ( {[896]} )

وقوله تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب }( {[897]} ) يعني التوراة ، والذي آمنوا به فداء الأسارى ، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضاً وإخراجهم من ديارهم ، وهذا توبيخ لهم ، وبيان لقبح فعلهم .

وروي أن عبد الله بن سلام( {[898]} ) مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه ، فقال له ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن .

ثم توعدهم عز وجل : والخزي : الفضيحة والعقوبة ، يقال : خزي الرجل يخرى خزياً إذا ذل من الفضحية ، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا( {[899]} ) . . .

واختلف ما المراد بالخزي ها هنا فقيل : القصاص فيمن قتل ، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر ، وقيل قتل قريظة ، وإجلاء النضير( {[900]} ) ، وقيل : الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو . والدنيا مأخوذة من دنا يدنو ، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات( {[901]} ) .

وأشد العذاب الخلود في جهنم ، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون » بتاء .

وقوله تعالى : { وما الله بغافل } الآية ، فرأ نافع وابن كثير «يعملون » بياء على ذكر الغائب( {[902]} ) فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والآية واعظة لهم بالمعنى( {[903]} ) إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص( {[904]} ) ، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية( {[905]} ) وهو الأظهر ، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد( {[906]} ) ، يريد : وبما يجري مجراه .


[887]:- فيه أربعة أقوال، قيل إنه منادى على حذف النداء، وقيل: إنه منصوب بفعل محذوف وقيل: أنه بمعنى الذين، وقيل: إن أنتم خبر مقدم، وهؤلاء مبتدأ، وتقتلون حال ثم بها المعنى، وأضعف هذه الأقوال الأول، ومن جعله مبتدأ وأنتم خبر فتقتلون هي محط البيان لأن معنى أنتم هؤلاء- أنهم على حالة أسلافهم من نقض الميثاق- ومن جعل هؤلاء منادى أو منصوبا فتقتلون خبر.
[888]:- البيت من شواهد النحو المشهورة، وعَدَس: اسم صوت لزجر البغل، وعبّاد: هو ابن زيّان بن أبي سفيان، وإمارة بكسر الهمزة معناها: أمر- وهذا: اسم موصول بمعنى الذي (على رأي الكوفيين) وهو الشاهد هنا، ويقع مبتدأ خبره طليق، أما صلة الموصول فهي (تحملين) والعائد محذوف، وتقديره: (تحملينه) ويكون تقدير الكلام: (والذي تحملينه طليق) أي مطلق. يقول الشاعر هذا الكلام لبعلته حين ركبها بعد خروجه من السجن فنفرت.
[889]:- انظر ترجمته في تفسير أبي حيان في هذا المكان- ولما نقل أبو حيان رحمه الله ما ذكره ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البادش من جَعْل هؤلاء مبتدأ وأنتم خبرا قال: "لا أدري ما العلة في ذلك، وفي عدوله عن جعل أنتم مبتدأ وهؤلاء خبرا إلى عكسه" انتهى. قال مختصِره سيدي عبد الرحمن التعالبي رحمه الله: قلت: العلة في ذلك دخول هاء التنبيه عليه لاختصاصها بأول الكلام، ويدل على ذلك قولهم: ها أنا ذا قائما، ولم يقولوا: أنا هاذا قائما، قال معناه ابن هشام، فقائما في المثال المتقدم نصب على الحال. انتهى.
[890]:- قيلة: اسم أم لقبيلتي الأوس والخزرج-اسمها قيلة بنت كاهل.
[891]:- يعني أن هذه القراءات وهي: ظاهر، وتظاهر، وأظْهر- ترجع إلى معنى التعاون، وهو المراد في الآية الكريمة.
[892]:- يعني ما ترتب على العبد من عهد المعاصي. والعُهَدُ: جمع عُهْدَة.
[893]:- فيكون المعنى: أنه لا يُناسب من أسأتم إليهم بالإخراج من ديارهم أن تُحسنوا إليهم بالمفاداة. تنبيه: قال بعض شيوخنا رحمهم الله تعالى: -هل الفادي والمفدي في موضوع الآية- كانا من جهة واحدة؟ بمعنى أن قريظة كانت تفدي من أسرته الخزرج من إخوانهم كما أن النضير كانت تفدي من أسرته الأوس من إخوانهم- أو من جهتين بمعنى أن قريظة كانت تفدي من يد حلفائها الأوس من أسروه من بني النضير كما أن بني النضير كانت تفدي من خلفائها الخزرج من أسروه من بني قريظة- أو ما هو أعم. فروح البيان على ألأول هو المأخوذ من صدر كلام ابن جرير الطبري رحمه الله حين تكلم على قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون) الآية- والصاوي في حاشية الجلالين على الثاني، ولم نره صريحا في كلام غيره لكن يشهد له ظاهر الآية- وظاهر ما نقلوه من قول العرب لليهود على جهة التعيير لهم: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ انظر عباراته في ابن جرير- وكلام السدي بحسب ظاهره على الثالث- راجع الكشاف والبحر المحيط.
[894]:- أي في مبادلة الأسير بالأسير، والمراد أن المفاداة هي في مبادلة الأسرى فتدفع أسيرا وتأخذ أسيرا، والفداء أن تأخذ مالا في مقابلة الأسير.
[895]:- الجملة حال من الضمير في (تخرجون) أو من فريقا أو منهما- وتخصيص بيان التحريم ها هنا بالإخراج، مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق عليهم- لما يظن من التساهل في أمر الإخراج بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل: إنما خصه بالذكر لما فيه من معرة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره.
[896]:- حاصل ما ذكره أقوال أربعة، وكلها انتقدت عليه، وإذا أردت الوقوف على وجوه الانتقاد فعليك بتفسير أبي (ح) فإنه يتتبع أنفاس "ابن عطية" ولا سيما في النواحي الإعرابية. وفي كلام ابن عطية ما يشم منه رائحة الفرق بين الفصل والعماد، وانظر التعليق عند قوله تعالى: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر).
[897]:- قال المفسرون: أخذ الله تعالى على بني إسرائيل أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به، إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)؟
[898]:- هو عبد الله بن سلام (بالتخفيف) بن الحارث الإسرائيلي، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل في ه قوله تعالى: (ومن عنده علم الكتاب) وشهد له صلى الله عليه وسلم بالجنة، وشهد مع عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس والجابية، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين للهجرة.
[899]:- كل من خزي يخزى خزيا، وخزي يخزى من باب تعب، والفرق بينهما هو المصدر، فالخزي معناه الفضيحة، والخزاية معناها الاستحياء.
[900]:- وفي بعض النسخ زيادة (وقيل: الخزي الذي تتوعد به الأمة من الناس هو غلبة العدو).
[901]:- يعني أنها بذلك انسلخت عن الوصفية فهي عَلَم على كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة. قال في القاموس: "والدنيا نقيض الآخرة، وقد تنون، وجمعها دُنى" اهـ واستدلوا للتنوين بقول الشاعر: إني مقسِّم ما ملكت فجاعل جزءا لآخرتي ودنيا تنفع فإن ابن الأعرابي أنشده، منونا وليس بضرورة كما لا يخفى.
[902]:- في تفسير الإمام (ط) رحمه الله: وأعجب القراءتين إلى قراءة من قرأ بالياء إتباعا لقوله (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) ولقوله (ويوم القيامة يردون) لأن قوله (وما الله بغافل عما يعملون) إلى ذلك أقرب منه إلى قوله (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) فإتباعه الأقرب إليه أولى من إلحاقه بالأبعد منه". اهـ.
[903]:- بل هي أشد و اعظ وأقواه، ونحوها قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) والظلم إما ظلم العصيان، وإما ظلم الكفران.
[904]:- إذا كان عالما بأعمالهم كما تؤكد ذلك الآية- وهو الحق الذي لاشك فيه، فهو بالمرصاد لمجازاتهم.
[905]:- أي في سياقها، وسياق الآية أن الخطاب لبني إسرائيل.
[906]:- في بعض النسخ: (تعنون بهذا يا أمة محمد) يريد وبما يجري مجراه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِيقٗا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمۡ تَظَٰهَرُونَ عَلَيۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (85)

والعطف بثم في قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : { هؤلاء } لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالباً بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهوالمعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالباً أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل .

ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيءَ عينَ شيء يبحث عنه في نفسه نحو « أنت أبا جهل » قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخناً بالجراح صريعاً ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو « قال أنا يوسف وهذا أخي » فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : « أنا ذلك » إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن نَدبة :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ** * تَأَمَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذلكا{[144]} *

وقول طريف العنبري :

…………………… . . *** فتوسموني إنني أنا ذالكم{[145]} *

وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم :

* أنا أبو النجم وشعري شعري *

ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا « بها التنبيهِ » فقالوا : هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر :

* إن الفتى مَن يقول ها أنا ذا{[146]} *

فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوماً اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب : الأولى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } ، الثانية : { ها أنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] . ومنه « ها أنا ذا لديكما » قاله أمية بن أبي الصلت . الثالثة { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } [ النساء : 109 ] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضراً وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا ، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيباً كما رأيت في الأمثلة .

والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبراً والجملة بعدهما حالاً ، وقيل : هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب ، وقيل : الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه ، وقيل : اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف .

وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوباً على الحال وقيل : مرفوعاً على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله :

* أبا حَكَم ها أنتَ نَجْمٌ مُجَالد *

ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة « التسهيل » بقوله : وها أنا ساع فيما انتدبت إليه ، وجاء ابن هشام في خطبة « المغني » بقوله : وها أنا مبيح بما أسررته .

واختلف النحاة أيضاً في أن وقوع الضمير بعد ( ها ) التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في « التسهيل » هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في « حواشي التسهيل » بنقل الدماميني في « الحواشي المصرية » في الخطبة وفي الهاء المفردة . وقال الرضى إن دخول ( ها ) التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من « شواهد الرضي » :

تَعَلَّمَنْ هَا لعمرُ الله ذا قسما *** فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك

وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة :

ها إنّ تَاعذرة إن لا تكن نفعت *** فإن صاحبها قد تاه في البلد

وقوله : { تقتلون } حال أو خبر . وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } .

وجعل في « الكشاف » المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مراداً به أسلاف الحاضرين وجعل قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مراداً منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها ، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف .

وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم{[147]} والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ . وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمناً طويلاً والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم : إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلاماً من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم . ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم : إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم : « يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم » فلما أجابت قريظة والنضير عمراً بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم ، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالاً وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودَ بذلك وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا : قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى : { وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } .

الواو في قوله : { وإن يأتوكم أُسارى } يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله : { تقتلون أنفسكم وتخرجون } فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات . ولك أن تجعل الواو للحال من قوله : { وتخرجون فريقاً } أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم . وكيفما قدرت فقوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } جملة حالية من قوله : { يأتوكم } إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرماً وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة { وهو محرم عليكم إخراجهم } حالية من ضمير { تفادوهم } . وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله : { ولا تخرجون أنفسكم } .

وفي قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء ؟ .

وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتياً بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية .

والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلاً له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا : كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى . وقيل : هو جمع نادر وليس مبنياً على حمل ، كما قالوا قدَامى جمع قديم . وقيل : هو جمعُ جمعٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر . والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجِلد ، قال النابغة :

لم يبقَ غيرُ طريدٍ غيرِ مُنْفَلِت *** أو موثَقٍ في حِباله القدِّ مسلوبِ

وقرأ الجمهور ( أُسارى ) ، وقرأه حمزة ( أَسْرَى ) .

وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب { تفادوهم } بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصاً ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرىء القيس :

فعادَى عداء بين ثور ونعجة *** دراكاً فلم ينضح بماء فيغسل

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف { تفدوهم } بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء .

والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعاً شديداً أو الممنوع منعاً من قبل الدين ، ولذلك قالوا : الأشهر الحرم وشهر المحرم .

وقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الاتباع والإعراض إيماناً وكفراً على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به ، وإنما وقع { تؤمنون } في حيز الإنكار تنبيهاً على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين .

والفاء عاطفة على { تقتلون أنفسكم } ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدراً دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريباً عند قوله { أفكلما جاءكم رسول } [ البقرة : 86 ] .

والفاء في قوله : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ . وقال عبد الحكيم : إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظاً ، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيداً لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكماً جديداً وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم .

والخزي بالكسر ذل في النفس طارىء عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء ، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم .

وقرأ الجمهور { يُردون } و { يعملون } بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه { تردون } بتاء الخطاب نظراً إلى معنى ( من ) وإلى قوله ( منكم ) ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب : ( يعملون ) بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب .

وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة .

وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله : { أولئك الذين اشتروا } موقع نظيره في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .


[144]:- قبله : أقول له والرمح يأطر متنه
[145]:- تمامه : شلكي سلاحي في الحوادث معلم
[146]: تمامه: ليس افتى من يقول كان أبي
[147]:- ابتداء التخاذل بين اليهود بعد وفاة سليمان وبيعة ابنه رحبعام ملكا على إسرائيل إذ شق عليه عصا الطاعة غلام أبيه المسمى يربعام وتحزب الأسباط عدا سبطي يهوذا وبنيامين مع يربعام وقد هم رحبعام أن يقاتل من خرج عنه فنهاه النبيء شمعيا وبذلك كف رحبعام عن القتال ورضي بمن بقي معه ( إصحاح 12 ملوك أول) ولما مات رحبعام وولى ابنه جمع جيشا لقتال يربعام عبد جده وصارت بينهم مقاتلات كثيرة في جبل ( أفرام) قيل إن القتلى من الفريقين بلغت خمسمائة ألف ( صحاح 13 الأيم الثاني) ثم نشأت بينهم حروب سنة (40) للمسيح.