وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان :
( ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم . سيدخلهم اللّه في رحمته . إن اللّه غفور رحيم )
فهو الإيمان باللّه واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق ، لا الخوف من الناس ، ولا الملق للغالبين ، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس !
وهذا الفريق المؤمن باللّه واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من اللّه ؛ ويتطلب صلوات الرسول . . أي دعواته . . الدالة على رضاه [ ص ] ، المقبولة عند اللّه ، وهو يدعو بها للمؤمنين باللّه واليوم الآخر ، المنفقين ابتغاء القربى من اللّه ورضاه .
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند اللّه :
ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من اللّه حقاً :
( سيدخلهم اللّه في رحمته ) . .
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم ؛ وذلك في مقابل تجسيم ( دائرة السوء )على الفريق الاخر ، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بالمؤمنين الدوائر .
يقبل التوبة ، ويتقبل النفقة ، ويغفر ما كان من ذنب ، ويرحم من يبتغون الرحمة .
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُربات عند الله } سبب { قربات } وهي ثاني مفعولي { يتخذ } ، وعند الله صفتها أو ظرف ل { يتخذ } . { وصلوات الرسول } وسبب صلواته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى الله عليه وسلم " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره . { إلا إنها قُربة لهم } شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش { قربة } بضم الراء . { سيدخلهم الله في رحمته } وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : { إن الله غفور رحيم } لتقريره . وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه .
وقوله تعالى : { ومن الأعراب من يؤمن بالله } الآية ، قال قتادة : هذه ثنية الله تعالى من الأعراب{[5851]} ، و { يتخذ } في هذه الآية أيضاً هي بمعنى يجعله مقصداً ، والمعنى ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عز وجل واستغنام دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم ، ف { صلوات } على هذا عطف على { قربات } ، ويحتمل أن يكون عطفاً على ما ينفق ، أي ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة ، والأولى أبين ، و { قربات } جمع قرْبة أو قرُبه بسكون الراء وضمها وهما لغتان و «الصلاة » في هذه الآية الدعاء إجماعاً .
وقال بعض العلماء : الصلاة من الله رحمة ومن النبي والملائكة دعاء ، ومن الناس عبادة ، والضمير في قوله { إنها } يحتمل أن يعود على النفقة وهذا في انعطاف { الصلوات } على { القربات } ، ويحتمل أن يعود على { الصلوات } وهذا في انعطافه على ما ينفق ، وقرأ نافع «قرُبة » بضم الراء ، واختلف عنه وعن عاصم والأعمش ، وقرأ الباقون «قرْبة » بسكون الراء ولم يختلف { قربات } ، ثم وعد تعالى بقوله { سيدخلهم الله في رحمته } الآية ، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة وقاله مجاهد ، وأسند الطبري إلى عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال : كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت فينا { ومن الأعراب من يؤمن بالله } إلى آخر الآية .
قال القاضي أبو محمد : وقوله عشرة ولد مقرن يريد الستة أولاد مقرن لصلبة أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن ، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر}، يعني يصدق بالله أنه واحد لا شريك له، {واليوم الآخر}، يعني يصدق بالتوحيد وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {ويتخذ ما ينفق} في سبيل الله {قربات عند الله وصلوات الرسول}، يعني واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم، ويتخذ النفقة والاستغفار قربات، يعني زلفى عند الله... يقول: {ألا إنها قربة لهم} عند الله، ثم أخبر بثوابهم، فقال: {سيدخلهم الله في رحمته} يعني جنته، {إن الله غفور} لذنوبهم {رحيم} بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يصدق الله ويقرّ بوحدانيته وبالبعث بعد الموت والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ"، القربات: جمع قُرْبة، وهو ما قربه من رضا الله ومحبته. "وَصَلوَاتِ الرّسُولِ"، يعني بذلك: ويبتغي بنفقة ما ينفق -مع طلب قربته من الله- دعاء الرسول واستغفاره له.
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن من معاني الصلاة الدعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع...
"سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رحْمَتِهِ "يقول: سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة، "إن الله غفور" لما اجترموا، "رحيم" بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر في الآية أن (وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) ليعلم أن قوله (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) [التوبة: 97] كان في طائفة مشار إليها لا كل الأعراب، لأنه ذكر ههنا أن منهم من ينفق (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) وذكر في الآية الأولى أن منهم (من يتخذ ما ينفق مغرما) [التوبة: 98] أي لا يراه حقا واجبا، ولكن غرما يلحقه، ومنهم من يرى ذلك حقا لله واجبا في أموالهم، فيجعلون ذلك قربة لهم عند الله...
وقوله تعالى: (وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ)...
وقال بعضهم: جعلوا ما أنفقوا وصلوات الرسول قربات عند الله، ويكون لهم ما أنفقوا قربة عند الله وصلوات الرسول طمأنينة وبراءة من النفاق لأن الرسول كان لا يدعو لأهل الكفر والنفاق، فإذا دعا لهؤلاء وصلى عليهم كان ذلك طمأنينة لقلوبهم وعلما لهم بالبراءة من النفاق.
وعلى ذلك يخرج قوله: (إن صلواتك سكن لهم) [التوبة: 103] أي تسكن قلوبهم بصلاة الرسول، وتطمئن بأنهم ليسوا من أهل النفاق وأنهم بُرآء من ذلك، والله أعلم.
ذكر هذا مقابل ما ذكر في الآية الأولى، وهو قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أخبر -هاهنا- أن ما يتربصون هم بهم من الدوائر عليهم ذلك، وهاهنا أخبر أن ما ينفق المؤمنون ويطلبون بذلك قربة عند اللَّه أنها قربة لهم.
ثم وعدهم الجنة بقوله: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ)، أي: جنته، سمى جنته رحمة؛ لما برحمته يدخلون، لا استيجابًا لهم منه بذلك، بل رحمة منه وفضلًا.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لما كان منهم من المساوئ والشرك إذا تابوا وآمنوا، (رَحِيمٌ): حيث لم يؤاخذهم بذلك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والقربة هي طلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة...
" سيدخلهم الله في رحمته "وعد منه لهم بأن يرحمهم ويدخلهم فيها، وفيه مبالغة، فان الرحمة وسعتهم وغمرتهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله {وصلوات الرسول} لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله:"اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى" وقال تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات {ألا إِنَّهَا} شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك {سَيُدْخِلُهُمُ} وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدلّ هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها...
اعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين:
فالأول: كونه مؤمنا بالله واليوم الآخر، والمقصود التنبيه على أنه لا بد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان، وفي الجهاد أيضا كذلك.
والثاني: كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
لما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنماً، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان، وهو اتخاذه ما ينفق مغرماً وتربصه بالمؤمنين الدوائر. والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة..
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمِنَ الأعراب} أي من جنسهم على الإطلاق {مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ} أي يأخذ لنفسه على وجه الاصطفاءِ والادخارِ...
{قربات} أي ذرائعَ إليها وللإيذان بما بينهما من كمال الاختصاصِ جُعل كأنه نفسُ القرُبات، والجمعُ باعتبار أنواعِ القرُباتِ أو أفرادِها...
والتعرُّضُ لوصف الإيمان بالله واليوم الآخر في الفريق الأخيرِ مع أن مساقَ الكلامِ لبيان الفرقِ بين الفريقين في شأن اتخاذِ ما ينفقانه حالاً ومآلاً وأن ذكرَ اتخاذِه ذريعةً إلى القربات والصلوات مغنٍ عن التصريح بذلك لكمال العنايةِ بإيمانهم وبيانِ اتصافِهم به وزيادةِ الاعتناءِ بتحقيق الفرق بين الفرقين من أول الأمرِ، وأما الفريقُ الأولُ فاتصافُهم بالكفر والنفاقِ معلومٌ من سياق النظم الكريمِ صريحاً...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{أَلا إِنَّهَا قُرْبَة لهُمْ}...أخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً بإسمية الجملة، وحرفي التنبيه والتحقيق، وفي هذا من التطييب لخواطرهم، والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره، مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً، والتوبيخ له بأبلغ وجه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما ذكر حال هؤلاء الأعراب المنافقين، عطف عليه بيان حال المؤمنين الصادقين منهم فقال: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الأخر} إيمانا صادقا إذعانيا تصدر عنه آثاره من العمل الصالح... والنص يشمل جميع المؤمنين الصادقين منهم ومن غيرهم من الأعراب، وقد ذكر من وصفهم ضد ما ذكره في وصف من قبلهم في أمر النفقة في سبيل الله فقال: {ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول} أي يتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين عظيمين: أولها القربات والزلفى عند الله عز وجل، وثانيهما صلوات الرسول، أي أدعيته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم، ولم يثبت في النص انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح، والسنة الحسنة يتبع فيها، فهذا القصد في اتخاذ الصدقات ضد اتخاذ المنافقين إياها مغرما.
والقربات كالقرب جمع قربة (بضم القاف) وهي في المنزلة والمكانة كالقرب في المكان والقرابة، والقربى في الرحم، والأصل في الكل واحد وهو الدنو من الشيء مطلقا، فقصد القربة في العمل هو الإخلاص وابتغاء مرضاة الله ورحمته ومثوبته فيه، وجمعها باعتبار تعدد النفقات ففيه إيماء إلى إخلاصهم في كل فرد منها. والصلوات جمع صلاة، ومعناها أو أحد معانيها في أصل اللغة الدعاء، وإطلاقها على العبادة المخصوصة من أركان الإسلام شرعي وجهه أن الدعاء هو روحها الأعظم لأنه مخ العبادة، وسرها الذي تتحقق به العبودية على أكمل وجوهها، وهو في الفاتحة فريضة، وفي السجود فضيلة، ويأتي قريبا بيان هذه الصلوات على المتصدقين في تفسير الآية (103).
وقد بين الله تعالى جزاء هؤلاء الأعراب على ما شهد لهم به من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله، وأدائهم به حق الله، وهو قصد القربة عنده، وحق الرسول وهو طلب دعائه لهم بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها، فقال بأسلوب الاستئناف المشعر بالاهتمام: {ألا إنها قربة لهم} وهو إخبار بقبوله تعالى لنفقتهم مؤكد بافتتاحه بأداة التنبيه الدالة على الاهتمام بما بعدها وهي (ألا) وب [إن] الدالة على تحقيق مضمون الجملة وبالجملة الاسمية فقوله تعالى: [إنها قربة] راجع إلى النفقة المأخوذة من قوله: [ما ينفق] فإفراد القربة لأنها خبر الضمير المفرد.
وقوله: {سيدخلهم الله في رحمته} تفسير لهذه القربة والمراد بالرحمة هنا الرحمة الخاصة بمن رضي الله عنهم، وهي هداية الصراط المستقيم وما تنهي إليه من دار النعيم، ومعنى إدخالهم فيها أن يكونوا مغمورين فيها وتكون هي محيطة بهم شاملة لهم، وهذا أبلغ من مثل {يبشرهم ربهم برحمة منه} [التوبة: 21]، والسين في قوله [سيدخلهم) لتأكيد الوعد وتحقيقه... وعلله بقوله: {إن الله غفور رحيم} أي واسع المغفرة والرحمة يغفر للمخلصين في أعمالهم ما يلمون به من ذنب أو تقصير، ويرحم الصادقين في إيمانهم فيهديهم به إلى أحسن العمل وخير المصير، وفي الآية من بلاغة الإيجاز ما يدل على علو مقام هؤلاء الأعراب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} تقربهم إلى اللّه، وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة.
وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه، وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها: أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الأحوال.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنما، ولا تكون مغرما.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان: (ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول. ألا إنها قربة لهم. سيدخلهم اللّه في رحمته. إن اللّه غفور رحيم) فهو الإيمان باللّه واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق، لا الخوف من الناس، ولا الملق للغالبين، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس! وهذا الفريق المؤمن باللّه واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من اللّه؛ ويتطلب صلوات الرسول.. أي دعواته.. الدالة على رضاه [ص]، المقبولة عند اللّه، وهو يدعو بها للمؤمنين باللّه واليوم الآخر، المنفقين ابتغاء القربى من اللّه ورضاه. لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند اللّه: (ألا إنها قربة لهم). ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من اللّه حقاً: (سيدخلهم اللّه في رحمته).. ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم؛ وذلك في مقابل تجسيم (دائرة السوء) على الفريق الاخر، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً، ويتربص بالمؤمنين الدوائر. (إن اللّه غفور رحيم). يقبل التوبة، ويتقبل النفقة، ويغفر ما كان من ذنب، ويرحم من يبتغون الرحمة.
ولقائل أن يقول: ألا يعلم من يقدم الزكاة والصدقة قربى، أنه سبحانه غير مستفيد من هذا العمل؟ ألا يعلم أنها قربى له شخصيّا؟ نعم إنه يعلم، ويعلم أن الله يثيبه على أمر ينتفع به الفقراء، وفي هذه إشارة إلى أن كل تكليف من الله إنما يعود نفعه إلى المكلّف لا إلى المكلّف. وما دام العائد إلى المكلّف؛ فالله يدعوك لصالح ذاته وإلى خير لك.
ومن اعتبرها قربى إلى الله لهم القول الحق: {ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته} وقد قال ذلك للأعراب الذين أنفقوا قربى لله، وطمعا في دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوضح لهم سبحانه أنها قربى لهم؛ لأنهم المنتفعون بها، وأنه سيدخلهم في رحمته. ورحمة الله هي نعيم مقيم، وهي دائمة وباقية ببقاء الله الذي لا يحدّ، أما الجنة فباقية وخالدة بإبقاء الله لها. إذن: فدخولك في رحمة الله أعلى من دخولك جنته. فحين يقال "دخل في الرحمة "فمعنى ذلك أن الرحمة ستظله إلى ما لا نهاية..
{إن الله غفور رحيم} لعل واحدا ممن يسمع هذا، يظن أن الجزاء والقربى والدخول في رحمة الله خاص بمن لم يذنب أبدا، فيوضح له القول: اطمئن. إن كانت قد حصلت منك هفوة أو غفلة، فاعلم أن الله غفور رحيم، فلا يعكر ذنبك إيمانك بأنك سوف تدخل في رحمة الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... إنّ التأكيدات المتوالية والمكررة التي تلاحظ في هذه الآية تجلب الانتباه حقّاً، فإنّ (ألا) و (إِن) يدل كلاهما على التأكيد، ثمّ جملة (سيدخلهم الله في رحمته) خصوصاً مع ملاحظة (في) التي تعني الدخول والغوص في الرحمة الإِلهية، وبعد ذلك الجملة الأخيرة التي تبدأ ب (إنَّ) وتذكر صفتين من صفات الرحمة وهما (غفور رحيم) كل هذه التأكيدات تبيّن منتهى اللطف والرحمة الإِلهية بهذه الفئة.
وربّما كان هذا الاهتمام بهؤلاء لأنّهم رغم حرمانهم من التعليم والتربية، وعدم الفهم الكافي لآيات الله وأحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّهم قبلوا الإِسلام وآمنوا به بكل وجودهم، ورغم قلّة إمكانياتهم المالية التي يحتمها وضع البادية فإنّهم لم يمتنعوا عن البذل والإِنفاق في سبيل الله، ولذلك استحقوا كل تقدير واحترام، وأكثر ممّا يستحقه سكان المدينة المتمكنون.
ويجب الالتفات إِلى أنّ القرآن قد استعمل (عليهم دائرة السوء) في حق الأعراب المنافقين، التي تدل على إِحاطة التعاسة وسوء العاقبة بهم، أمّا في حق المؤمنين فقد ذكرت عبارة (في رحمته) لتبيّن إِحاطة الرحمة الإِلهية بهؤلاء، فقسم تحيط به الرحمة الإِلهية، والآخر تحيط به الدوائر والمصائب.
يبدو بوضوح ـ من الآيات المذكورة ـ مدى الأهمية التي يوليها الإِسلام للمجتمعات الكبيرة، والأماكن المزدحمة بالسكان، والجميل في الأمر أنّ الإِسلام قد نهض وبزغ نوره من محيط متخلف، محيط لا تشم منه رائحة التمدن والتطور، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يهتم اهتماماً خاصّاً بالعوامل البناءة التي تنهض بالمجتمع، وتحلّق به في أجواء التطور والرقي، فنراه يقرر أنّ هؤلاء الذين يعيشون في مناطق نائية عن المدينة أكثر تخلفاً من أهل المدن، لأنّهم لا يملكون الوسائل الكافية للتعليم والتربية فتخلفوا...
إِلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني أن يتجه كل الناس إِلى المدن، ويتركوا القرى ـ التي هي أساس عمران المدن ـ تعبث بها يد الخراب، بل يجب السّعي في إيصال علم وتقدم المدينة إِلى القرية، وتقوية أُسس التربية والتعليم وأُصول الدين والوعي ونشرها بين صفوف القرويين.
ولا شك أنّ سكان القرى إِذا تُركوا على حالتهم ولم تفتح عليهم نافذة من العلوم المدنية وآيات الكتب السماوية، وتعليمات وتوجيهات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والهداة الكرام، فسيحل بهم الكفر والنفاق سريعاً ويأخذ منهم مأخذاً عظيماً. إنّ هؤلاء لهم استعداد أكبر لقبول التربية السليمة والتعليم الصحيح لصفاء قلوبهم، وبساطة أفكارهم، وقلّة انتشار المكر والمراوغة التي تعم المدن بينهم.
إِنّ كلمة (الأعرابي) وإِن كانت تعني ساكن البادية، إلاّ أنّها استعملت بمعنى أوسع في الأخبار والرّوايات الإِسلامية، وبتعبير آخر: فإنّ مفهومها الإِسلامي لا يرتبط أو يتحدد بالمنطقة الجغرافية التي يشغلها الأعراب، بل تعبر عن منهجية في التفكير، فإنّ من كان في منآى عن الآداب والسنن والتربية الإِسلامية فهو من الأعراب وإن كان من سكان المدن، أمّا سكّان البادية الملتزمون بالآداب والسنن الإِسلامية فليسوا بأعراب...
ـ نطالع في الآية المذكورة أعلاه الواردة في حق المؤمنين من الأعراب، أنّ هؤلاء يعتبرون إنفاقهم أساس القرب من الله تعالى، خاصّة وأنّ هذه الكلمة قد وردت بصيغة الجمع (قربات)، وهي توحي أنّ هؤلاء لا يبتغون من إِنفاقهم قربة واحدة، بل قربات...