( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، وهم في فجوة منه . ذلك من آيات الله . من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . وتحسبهم أيقاظا وهم رقود . ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال . وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد . لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، ولملئت منهم رعبا ) .
وهو مشهد تصويري عجيب ، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف ، كما يلتقطها شريط متحرك . والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة . ولفظ( تزاور )تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها . والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه . .
وقبل أن يكمل نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل سياق القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة :
( ذلك من آيات الله ) . . وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب منهم بضوئها . وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون .
( من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) . . وللهدى والضلال ناموس . فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا . ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل ، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن ، ولن تجد له من بعد هاديا .
{ وترى الشمس } لو رأيتهم ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد . { إذا طلعت تزاورُ عن كهفهم } تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم ، لأن الكهف كان جنوبيا ، أو لأن الله تعالى زورها عنهم . وأصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي ، وقرأ الكوفيون بحذفها وابن عامر ويعقوب " تزور " كتحمر ، وقرئ " تزاور " كتحمار وكلها من الزور بمعنى الميل . { ذات اليمين } جهة اليمين وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين . { وإذا غربت تقرضُهم } تقطعهم وتصرم عنهم . { ذات الشمال } يعني يمين الكهف وشماله لقوله : { وهم في فجوةٍ منه } أي وهم في متسع من الكهف ، يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس ، وذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات نعش ، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه ، والشمس إذا كان مدارها مداره تطلق مائلة عنه مقابلة لجانبه الأبيض وهو الذي يلي المغرب ، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه ، ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم . { ذلك من آيات الله } أي شأنهم وإيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك ، أو إخبارك قصتهم ، أو ازورار الشمس عنهم وقرضها طالعة وغاربة من آيات الله . { من يهد الله } بالتوفيق . { فهو المُهتد } الذي أصاب الفلاح ، والمراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل فيها والاستبصار بها . { ومن يضلل } ومن يخذله . { فلن تجد له وليّاً مرشداً } من يليه ويرشده .
بين هاتين الآيتين اقتضاب يبينه ما تقدم من الآيات ، تقديره فآووا وضرب الله على آذانهم ومكثوا كذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تزّاور » بتشديد الزاي وإدغام التاء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تزَاور » بتخفيفها بتقدير تتزاور فحذفت إحدى التاءين ، وقرأ ابن عامر وابن أبي إسحاق وقتادة «تزور » في وزن تحمر ، وقرأ الجحدري وأبو رجاء «تزوار » بألف بعد الواو ، ومعنى اللفظة على كل هذا التصريف تعدل وتروغ وتميل ، وهذه عبارات المفسرين ، أما أن الأخفش قال «تزور » معناه تنتقض والزور الميل{[7760]} ، والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية ، ويستعمل في غير العين كقول ابن أبي ربيعة :
وجنبي خيفة القوم أزور{[7761]} . . . ومن اللفظة قول عنترة : [ الكامل ]
فازور من وقع القنا بلبانه{[7762]} . . . ومنه قول بشر بن أبي حازم : [ الوافر ]
تؤم بها الحداة مياه نخل . . . وفيها عن أبانين ازورار{[7763]}
وفي حديث غزوة مؤتة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سرير جعفر وزيد بن حارثة{[7764]} ، وقرأ الجمهور «تقرضهم » بالتاء ، وفرقة «يقرضهم » بالياء ، أي الكهف كأنه من القرض وهو القطع ، أي يقتطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس ، وجمهور من قرأ بالتاء ، فالمعنى أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة وهو قول ابن عباس ، فيتأولون «تقرضهم » بمعنى تتركهم ، أي كأنها عنده تقطع كلّ ما لا تناله عن نفسها ، وفرقة ممن قرأ بالتاء تأول أنها كانت بالعشي تنالهم ، فكأنها «تقرضهم » أي تقتطعهم مما لا تناله ، وقالوا كان في مسها لهم بالعشي صلاح لأجسامهم ، وحكى الطبري أن العرب تقول : قرضت موضع كذا أي قطعته ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف . . . شمالاً وعن أيمانهن الفوارس{[7765]}
ومنه أقرضني درهماً أي اقطعه لي من مالك ، وهذه الصفة مع { الشمس } تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته ، وحكى الزجاج وغيره قال : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وقاله عبد الله بن مسلم وهذا نحو ما قلناه ، غير أن الكهف كان مستور الأعلى من المطر ، وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك ، وقوله { ذات اليمين وذات الشمال } يحتمل أن يريد ذات يمين الكهف بأن نقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين ، وآخره عن شمال ، ويحتمل أن يريد ذات يمين الشمس وذات شمالها ، بأن نقدر الشعاع الممتد منها إلى الكهف بمثابة وجه إنسان ، والوجه الأول أصح و «الفجوة » المتسع وجمعها فجى ، قال قتادة : في فضاء منه ، ومنه الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنف فإذا وجد فجوة نص{[7766]} ، وقال ابن جبير : { في فجوة } في مكان داخل ، وقوله { ذلك من آيات الله } الإشارة إلى الأمر بجملته ، وعلى قول الزجاج إن الشمس كانت تزاور وتقرض دون جحاب تكون الإشارة إلى هذا المعنى خاصة ثم تابع بتعظيم الله عز وجل والتسليم له وما يقتضي صرف الآمال إليه .