وفجأة تدب فيهم الحياة . فلننظر ولنسمع :
( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . قال قائل منهم : كم لبثتم ? قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم . قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، ولن تفلحوا إذن أبدا ) . .
إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة ، فيعرض هذا المشهد ، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم ، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل : كم لبثتم ? كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . ( قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ) !
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها ، ويدعو أمرها لله - شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله - وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة : ( قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) . . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .
{ وكذلك بعثناهم } وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا . { ليتساءلوا بينهم } ليسأل بعضهم بعضا فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى ، ويستبصروا به أمر البعث ويشركوا ما أنعم الله به عليهم . { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى . { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وهذا إنكار الآخرين عليهم . وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف . وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغما وغير مدغم ، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده ، وحملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين والمدينة طرسوس . { فلينظر أيُّها } أي أهلها . { أزكى طعاما } أحل وأطيب أو أكثر وأرخص . { فليأتكم برزقٍ منه وليتلطّف } وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن ، أو في التخفي حتى لا يعرف . { ولا يشعرنّ بكم أحداً } ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور .
الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكر الله في جهتهم ، والعبرة التي فعلها فيهم ، و «البعث » التحريك عن سكون ، واللام في قوله { ليتساءلوا } لام الصيرورة ، لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم ، وقول القائل { كم } لبثتم يقتضي أنه هجس في خاطره طول نومهم ، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني ، لا تباين التي ناموا فيها ، وأما أن يجدد الأمر جداً فبعيد ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم «بورِقكم » بكسر الراء وقرأ أبو عمرو وحده وأبو بكر عن عاصم «بورْقكم » بسكون الراء وهما لغتان ، وحكى الزجاج قراءة «بوِرْقكم » بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، وإنما هو إخفاء ، لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر ، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف قال أبو حاتم : وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء ، وقرأ علي بن أبي طالب «بوارقكم » ، اسم جمع كالحامل والباقر ، وقرأ أبو رجاء ، «بورقكم » بكسر الواو والراء والإدغام ، ويروى أنهم انتبهوا جياعاً ، وأن المبعوث هو تلميخا ، وروي أنهم صلوا كأنما ناموا ليلة واحدة ، وبعثوا تلميخا في صبيحتها ، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه بطول السنين ، وروي أن راعياً هدمه ليدخل فيه غنمه ، فأخذ تلميخاً ثياباً رثة منكرة ولبسها ، وخرج من الكهف ، فأنكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه ، ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير ، وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تاماً ، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة ، فرأى على بابها أمارة الإسلام ، فزادت حيرته وقال كيف هذا بلد دقيوس ، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا ، فنهض إلى باب آخر فرأى نحواً من ذلك ، حتى مشى الأبواب كلها ، فزادت حيرته ، ولم يميز بشراً ، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى ، فاستراب بنفسه وظن أنه جن ، أو انفسد عقله ، فبقي حيران يدعو الله تعالى ، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذه الورق ، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع{[7772]} فيما ذكر ، فعجب لها البياع ، ودفعها إلى آخر بعجبه ، وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك ، من أين أنت ، وكيف وجدت هذا الكنز ؟ فجعل يبهت ويعجب ، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبيته ، فقال : ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون ، اذهبوا به إلى الملك ، ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به الملك ، فلما لم ير دقيوس الكافر تأنس ، وكان ذلك الملك مؤمناً فاضلاً يسمى ببدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز ؟ فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل الجلوس ، فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي : لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه ، فسار وروي أنه أو بعض جلسائه قال : هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقيوس الملك ، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة ، فسار الملك إليهم ، وسار الناس معه ، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا : أدخل عليهم لئلا يرعبوا ، فدخل عليهم ، فأعلمهم بالأمر ، وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سُرُّوا وخرجوا إلى الملك ، وعظموه وعظمهم ، ثم رجعوا إلى كهفهم ، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا ، فانتظرهم الناس فلما أبطأ خروجهم ، دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل ، ثم أقدموا فوجدوهم موتى ، فتنازعوا بحسب ما يأتي في تفسير الآية التي بعد هذه ، وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف ، فاختصرته ، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ هذه الآية ، واعتمدت الأصح ، والله المعين برحمته ، وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها ، وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلاً عند عثمان رضي الله عنهم{[7773]} ، وقرأ الجمهور «فلْينظر » بسكون لام الأمر ، وقرأ الحسن «فلِينظر » بكسرها ، و { أزكى } معناه أكثر فيما ذكر عكرمة ، وقال قتادة معناه خير ، وقال مقاتل : المراد أطيب ، وقال ابن جبير : المراد أحل .
قال أبو القاضي أبو محمد : وهو من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك فروي أنه أراد شراء زبيب ، وقيل بل شراء تمر ، وقوله { وليتلطف } أي في اختفائه وتحيله ، وقرأ الحسن «ولِيتلطف » بكسر اللام .