ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى ، ولدهشة المفاجأة في نفسه ، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها :
( قال : رب اجعل لي آية . . . ) . .
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي ؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس ؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه :
( قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . واذكر ربك كثيرا . وسبح بالعشي والإبكار )
ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلا . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة ؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر ! ! !
{ قال رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار . { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا ، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره ، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال . { إلا رمزا } إشارة بنحو يد أو رأس ، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير . وقرئ { رمزا } بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزا كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله :
متى ما تلقني فردين ترجف *** روانف أليتيك وتستطارا
{ واذكر ربك كثيرا } في أيام الحبسة ، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه ، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار . { وسبح بالعشي } من الزوال إلى الغروب . وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل . { والإبكار } من طلوع الفجر إلى الضحى . وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار .
«الآية » العلامة ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إن زكرياء قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق ، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها ، فعوقب على هذا الشك في أمر الله ، بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس ، وقالت فرفة من المفسرين : لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له { كذلك الله يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى .
واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير{[3152]} ، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث ، وقال الربيع وغيره : عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام ، وقال قوم من المفسرين : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، ثم استثنى الرمز ، وهو استثناء منقطع{[3153]} ، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها ، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، أنه منقطع ، وقرأ جمهور الناس { رَمْزاً } بفتح الراء وسكون الميم ، وقرأ علقمة بن قيس : «رُمزاً » بضمها ، وقرأ الأعمش «رَمْزاً » بفتحها ، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز ، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به ، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز ، ومنه قول جؤية بن عائد{[3154]} :
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزاً . . . وَغَمْغَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الْهَدِيرِ{[3155]}
وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعاً من الرمز في تفسيره هذه الآية ، فقال مجاهد : { إلا رمزاً } معناه إلا تحريكاً بالشفتين ، وقال الضحاك : معناه إلا إشارة باليد والرأس ، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير ، وقال الحسن : أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه ، وقال قتادة : { إلا رمزاً } ، معناه إلا إيماء ، وقرأ جمهور الناس : { ألا تكلم الناس } بنصب الفعل بأن ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «ألا تكلمُ » برفع الميم ، وهذا على أن تكون «أن » مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس ، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه السلام : } لا صمت يوماً إلى الليل{[3156]} { قول ظاهر الفساد من جهات ، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيراً لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه ، وقال محمد بن كعب القرظي : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه السلام حيث قال : «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً » ، لكنه قال له : { واذكر ربك كثيراً } ، وقوله تعالى : { وسبح } معناه قل سبحان الله ، وقال قوم معناه : صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس ، و«العشي » في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي{[3157]} ، و«العشي » من حين يفيء الفيء ، ومنه قول حميد بن ثور{[3158]} :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولا الفيء من برد العشيِّ تذوق
و«العشي » اسم مفرد عند بعضهم ، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين ، و{ الإبكار } مصدر أبكر الرجل «إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس ، وتتمادى البكرة شيئاً بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة{[3159]} : [ الطويل ]
أَمِنْ آلِ نُعْمى أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ . . . ومن الثاني قول جرير : [ الطويل ]
أَلاَ بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا . . . وشقَّ العَصَا بَعْدَ اجتماعٍ أمِيرُها{[3160]}
وقال مجاهد في تفسير { الإبكار } : أول الفجر ، والعشي ميل الشمس حتى تغيب .