يتألف هذا الجزء من بقية سورة آل عمران ، ومن أوائل سورة النساء ، إلى قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء . . . ) .
وهذه البقية من سورة آل عمران تتألف من أربعة مقاطع رئيسية ، تكمل خط سير السورة ، الذي أفضنا في الحديث عنه في مطلعها - في الجزء الثالث - بما لا مجال لإعادته هنا ، فيرجع إليه هناك . .
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) .
لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة ، وكل شبهة ، وكل حيلة ، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية ، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب . . فلما قال القرآن : إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون : فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل ؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها . . وهي محرمة على بني إسرائيل . وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين .
وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة ، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرما على بني إسرائيل . . هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - وإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - وتقول الروايات إنه مرض مرضا شديدا ، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن - تطوعا - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه . فقبل الله منه نذره . وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم . . كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها . وأشير إلى هذه المحرمات في آية " الأنعام " : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) . .
وكانت قبل هذا التحريم حلالا لبني إسرائيل .
يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة ، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل ، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم . فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض ، ولا الشك في صحة هذا القرآن ، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة .
ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة ، وأن يأتوا بها ليقرأوها ، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم ، وليست عامة .
{ كل الطعام } أي المطعومات والمراد أكلها . { كان حلا لبني إسرائيل } حلالا لهم ، وهو مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى : { لا هن حل لهم } . { إلا ما حرم إسرائيل } يعقوب . { على نفسه } كلحوم الإبل وألبانها . وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه . وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء . واحتج به من جوز للنبي أن يجتهد ، وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء . { من قبل أن تنزل التوراة } أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا ، وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات } وقوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيتين ، بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا ، وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقة إبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها . { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرما . روي : أنه عليه السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة . وفيه دليل على نبوته .
قوله تعالى : { كل الطعام } الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }{[3324]} .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة { إلا ما حرم إسرائيل } في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ بن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها .
قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : { حرمنا عليهم }{[3325]} وقوله صلى الله عليه وسلم : ( حرمت عليهم الشحوم ) {[3326]} إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : { حِلاًّ } معناه : حلالاً ، و { إسرائيل } هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه{[3327]} ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إن هذه تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك{[3328]} : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراماً ، فقاله ابن عباس : إنها ليست عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم ؟ والله تعالى يقول في كتابه { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل ؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء{[3329]} فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم{[3330]} ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقرباً إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر{[3331]} ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد{[3332]} ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق ، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران .