( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ) .
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى : ( واللذان يأتيانها منكم . . . ) هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة . وهو قول مجاهد - رضي الله عنه - وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما : ( فآذوهما ) : هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال !
( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) . .
فالتوبة والإصلاح - كما سيأتي - تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك . ومن ثم تقف العقوبة ، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين . وهذا هو الاعراض عنهما في هذا الموضع : أي الكف عن الإيذاء .
( إن الله كان توابا رحيما ) . .
وهو الذي شرع العقوبة ، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح . ليس للناس من الأمر شيء في الأولى ، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة . إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه . وهو تواب رحيم . يقبل التوبة ويرحم التائبين .
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة ، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق . وإذا كان الله توابا رحيما ، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء ؛ أمام الذنب الذي سلف ، وأعقبه التوبة والإصلاح . إنه ليس تسامحا في الجريمة ، وليس رحمة بالفاحشين . فهنا لا تسامح ولا رحمة . ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين ، وقبولهم في المجتمع ، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه ، وتطهروا منه ، وأصلحوا حالهم بعده ، فينبغي - حينئذ - مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها ؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس ، واللجاج في الخطيئة ، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة . والإفساد في الأرض ، وتلويث المجتمع ، والنقمة عليه في ذات الأوان .
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك - فما بعد - فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : [ قال رسول الله [ ص ] : " من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ] .
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة ؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة : فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة الله ، وتتولاها بالتنفيذ . فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) كما ورد في سورة المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . . . ( والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين ) . . وكرر هذا القول في سورة المعارج .
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ، ولم تكن له فيها سلطة ؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنه في مكة ، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافيةلمكافحة الجريمة ، وصيانة المجتمع من التلوث . لأن الإسلام دين واقعي ، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة . وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية ، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير ، بلا سلطة وبلا تشريع ، وبلا منهج محدد ، ودستور معلوم !
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة ، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب ، وتطهرها وتزكيها . فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة معلومة ، وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة ، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب - إلى جانب التوجيه والموعظة - فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير ، إنما هو - إلى جانب ذلك - سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة .
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله . على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة ، وبغير نظام ، وبغير سلطان . . كلا ! فالدين منهج للحياة . منهج واقعي عملي . يدين الناس فيه لله وحده ، ويتلقون فيه من الله وحده . يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية ، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية . وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس ، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم ، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية . لتكون الدينونة لله وحده ، ويكون الدين كله لله . أي لا تكون هناك آلهة غيره - في صورة من الصور - آلهة تشرع للناس ، وتضع لهم القيم والموازين ، والشرائع والأنظمة . فالإله هو الذي يصنع هذا كله . وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس . . وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلها ، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ، ويباشرها . . ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا ، بلا شريعة عملية ، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة !
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي ؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ ، والعقوبة والتأديب . على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة ، والتي عدلت فيما بعد ، ثم استقرت على ذلك التعديل . كما أرادها الله .
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة ؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة . فالسمة الأولى للجاهلية - في كل زمان - كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض - هي الفوضى الجنسية ، والانطلاق البهيمي ، بلا ضابط من خلق أو قانون . واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر " الحرية الشخصية " لا يقف في وجهها إلا متعنت ! ولا يخرج عليها إلا متزمت !
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم " الإنسانية " كلها ، ولا يتسامحون في حريتهم " البهيمية " هذه ! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها !
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية ، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية ، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها ، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط ، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها ، وضوابط المجتمع ورقابته ، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية ، وعلى تمجيد هذهالشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري !
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها . وهي هي بعينها سمة كل جاهلية . . والذي يراجع إشعار امرىء القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في إشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية . . كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا ! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع ، وتبذل المرأة ، ومجون العشاق ، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة ، ويجدها تنبع من تصورات واحدة ، وتتخذ لها شعارات متقاربة !
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية ، والحضارة الرومانية ، والحضارة الفارسية قديما - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوروبية وفي الحضارة الأمريكية كذلك ، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية . الأمر الذي يفزع العقلاء هناك . وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر !
مع أن هذه هي العاقبة ، فإن الجاهليين - في كل زمان وفي كل مكان - يندفعون إلى الهاوية ، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم " الإنسانية " كلها أحيانا ، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم " البهيمية " . ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني !
وهو ليس انطلاقا ، وليس حرية . إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة ! بل هم أضل ! فالحيوان محكوم - في هذا - بقانون الفطرة ، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان ، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال . فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد ! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله ؛ وضبط عقله بعقيدته . فمتى انطلق من العقيدة ، ضعف عقله أمام الضغط ، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه . ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس ، إلا بعقيدة تمسك بالزمام ، وسلطان يستمد من هذه العقيدة ، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة . وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام " الإنسان " الكريم على الله .
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، تعيش بلا عقيدة ، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية . وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها ، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها ! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان ! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان !
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة ، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة . مهما بدا من متانة هذه الحضارة ، وضخامة الأسس التي تقوم عليها . " فالإنسان " - بلا شك - هو أضخم هذه الأسس . ومتى دمر الإنسان ، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ، ولا على الإنتاج !
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ، ندرك جانبا من عظمة الإسلام ، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية " الإنسان " من التدمير ؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل . كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها ، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها ، وتسمية ذلك أحيانا " بالفن " وأحيانا " بالحرية " وأحيانا " بالتقدمية " . . وكل وسيلة من وسائل تدمير " الإنسان " ينبغي تسميتها باسمها . . جريمة . . كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة ! . .
وهذا ما يصنعه الإسلام . والإسلام وحده ؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم .
{ واللذان يأتيانها منكم } يعني الزانية والزاني . وقرأ ابن كثير { واللذان } بتشديد النون وتمكين مد الألف ، والباقون بالتخفيف من غير تمكين . { فآذوهما } بالتوبيخ والتقريع ، وقيل بالتعيير والجلد . { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } فاقطعوا عنهما الإيذاء ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر . { إن الله كان توابا رحيما } علة الأمر بالإعراض وترك المذمة . قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد . وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين ، والزانية والزاني في الزناة .
{ واللذان } - تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات . قال أبو علي : حذفت الياء تخفيفاً إذ قد أمن من اللبس في اللذان ، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين ، وقرأ ابن كثير «اللذانّ » بشد النون ، وتلك عوض من الياء المحذوفة ، وكذلك قرأ و < فذانك> و بالتشديد في جميعها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك ، وشدد أبو عمرو ، «فذانك » وحدها ولم يشدد غيرها ، { واللذان } رفع بالابتداء ، وقيل على معنى : فيما يتلى عليكم «اللذان » واختلف في الأذى ، فقال عبادة والسدي : هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة : هو السبُّ والجفاء دون تعيير ، وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه ، قال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة لهن ، محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال ، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه ، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى { من نسائكم } وقوله في الثانية { منكم } ، وقال السدي وقتادة وغيرهما : الآية الأولى في النساء المحصنات ، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا القول تام ، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه ، وقد رجحه الطبري ، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم » وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور ، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما ، إلا من قال : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد ، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم ، وكذلك عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفاً ، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد ، ثم ورد بالخبر المتواتر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ولم يجلد ، فمن قال : إن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخاً لجلد الثيب ، وهذا الذي عليه الأئمة : أن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، إذ هما جميعاً وحي من الله ، ويوجبان جميعاً العلم والعمل ، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز ، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز ، وفي حديث الغامدية ، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس{[3890]} ، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن ، قال : إنما يكون حكم القرآن موقفاً ، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تخيل لا يستقيم ، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ ، ولا يرد ذلك نظر ، ولا ينخرم منه أصل ، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها : إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه ، وفي قوله تعالى : { الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمهوها }{[3891]} البتة ، وهذا نص في الرجم ، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة ، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث بكماله في مسلم{[3892]} . وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي قال له : فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لأقضين بينكما بكتاب الله » ثم أمر أنيساً برجم المرأة إن هي اعترفت ، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن ، وأجمعت الأمة على رفع لفظه ، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى ، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد ، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما ، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها ، وقال : أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه ، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية : فقوا ولا تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول : الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه ، وإذا لم يستقل فليس بناسخ ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها ، بل تنبني مع الجلد وتجتمع ، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت ، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله : لا تجلدوا الثيب ، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد ، واختلف في نفيه ، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة : لا نفي اليوم ، وقالت جماعة : ينفى وقيل : نفيه سجنه ، ولا تنفى المرأة ولا العبد ، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء ، وقوله : { فأعرضوا عنهما } كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة ، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه ، فأمر الله تعالى المؤمنين ، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى ، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا » وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأن تركهم إنما هو إعراض ، ألا ترى إلى قوله تعالى :{ وأعرض عن الجاهلين }{[3893]} وليس الإعراض في الآيتين أمراً بهجرة ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة ، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى ، والله تعالى تواب ، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة .