سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون
الواقعة . . اسم للسورة وبيان لموضوعها معا . فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة ، ردا على قولة الشاكين فيها ، المشركين بالله ، المكذبين بالقرآن : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? . .
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة . وصفها بصفتها التي تنهي كل قول ، وتقطع كل شك ، وتشعر بالجزم في هذا الأمر . . الواقعة . . ( إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة ) . . وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم ، حيث تتبدل أقدار الناس ، وأوضاع الأرض ، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض ، كما يبدل القيم غير القيم سواء : خافضة رافعة . . إذا رجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت هباء منبثا . وكنتم أزواجا ثلاثة . . . الخ .
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة : السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أوفى تفصيل ، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع ، لا مجال للشك فيه ، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان . حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين . وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين . وكانوا يصرون على الحنث العظيم . وكانوا يقولون : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون . . وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح . ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب !
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة . ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها ، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول ؛ بلمسات مؤثرة ، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر ، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان ، أيا كانت بيئته ، ودرجة معرفته وتجربته .
يعرض نشأتهم الأولى من مني يمنى . ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى ، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى ، التي يعرفونها جميعا .
ويعرض صورة الحرث والزرع ، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها . إنشاؤها بيد الله وقدرته . ولو شاء الله لم تنشأ ، ولو شاء لم تؤت ثمارها .
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها . وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب . ولو شاء جعله ملحا أجاجا ، لا ينبت حياة ، ولا يصلح لحياة .
وصورة النار التي يوقدون ، وأصلها الذي تنشأ منه . . الشجر . . وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذرا . ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها .
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة ، يلمس بها قلوبهم ، ولا يكلفهم فيها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها .
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن " الواقعة " فيشكون في وعيده . فيلوح بالقسم بمواقع النجوم ، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين .
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار . في لمسة عميقة مؤثرة . حين تبلغ الروح الحلقوم ، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر ؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين ، لا يملكون له شيئا ، ولا يدرون ما يجري حوله ، ولا ما يجري في كيانه . ويخلص أمره كله لله ، قبل أن يفارق هذه الحياة . ويرى هو طريقه المقبل ، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير !
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق ، وتسبيح الله الخالق : ( إن هذا لهو حق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم ) . . فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام . .
( إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة . إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . . . ) .
هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل . وهو يتبع أسلوبا خاصا يلحظ فيه هذا المعنى ، ويتناسق مع مدلولات العبارة . فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها . ( إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة ) . . ولا يقول : ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة ، وهي خافضة رافعة . ولكن يبدأ حديثا جديدا : ( إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . ) . . ومرة أخرى لا يقول : ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم . . فكأنما هذا الهول كله مقدمة ، لا يذكر نتائجها ، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ ، أو تعبر عنها العبارة !
قوله جل ذكره : { بسم الله الرحمان الرحيم } .
" بسم الله " اسم جبار من اعتنى بشأنه أحضره بإحسانه ، فإن أبى إلا تماديا في عصيانه حال بينه وبين اختياره بقهر سلطانه ، وإن لم يلازم هذه الطلعة ألجأه بالبلاء فيأتيها باضطراره .
اسم عزيز أزلي ، جبار صمدي ، قهار أحدي ، للمؤمنين ولي ، وبالعاصين حفي ، ليس لجماله كفي ، ولا في جلاله سمي ، لكنه للعصاة من المؤمنين ولي .
قوله جلّ ذكره : { إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعِتهَا كَاذِبةٌ } .
إذا قامت القيامة لا يردُّها شيءٌ .
{ كَاذِبَةٌ } ها هنا مصدر : كالعافية ، والعاقبة : أي : هي حقَّةٌ لا يدرها شيءٌ ، وليس في وقوعها كذب .
ويقال : إذا وقعت الواقعة فَمَنْ سَلَكَ منهاج الصحة والاستقامة وَصَلَ إلى السلامة ولقي الكرامة ، ومَنْ حادَ عن نهج الاستقامة وَقَعَ في الندامة والغرامة ، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق :
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ *** تَبَيَّنَ مَنْ بكى مِمَّن تباكى
سورة الواقعة مكية ، وآياتها 96 آية ، نزلت بعد سورة طه
وهي سورة تصف أهوال القيامة ومشاهد الآخرة ، وتؤكد وقوع العذاب للمكذبين ، ووقوع النعيم للمؤمنين .
وفي هذا اليوم تتبدل أقدار الناس ، وأوضاع الأرض ، في ظل الهول الذي يبدل القيم غير القيم .
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } . ( الواقعة : 1-3 ) .
عند وقوع القيامة يرتفع شأن المؤمنين ، وينخفض قدر المكذبين ، وينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف :
السابقون المقربون ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال .
وقد فصلت الآيات ( 10-26 ) ما أعد للسابقين في جنات النعيم ، فهم : عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ . ( الواقعة : 15 ) .
مشبكة بالمعادن الثمينة ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ . ( الواقعة : 16 ) . في راحة وخلو بال من الهموم والمشاغل ، ولهم في الجنة ما يشتهون من المتعة والنعيم والحور العين ، وحياتهم كلها سلام : تسلم عليهم الملائكة ، ويسلم بعضهم على بعض ، ويبلغهم السلام من الرحمن .
تصف الآيات ( 27-40 ) ما أعد لأصحاب اليمين ، فهم : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ . ( الواقعة : 28 ) . والسدر شجر النبق الشائك ، ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ . ( الواقعة : 29 ) . والطلح شجر الموز ، منضود معد للتداول بلا كدّ ولا مشقة .
يتمتع أصحاب اليمين بألوان البهجة وصنوف التكريم ، فهم في حدائق من شجر نبق لا شوك فيه ، وشجر موز منتظم الثمر ، وفي ظل منبسط ، وماء يجري بين أيديهم كما يشاءون ، ولديهم فاكهة كثيرة الكم والأنواع ، لا تنقطع عنهم ولا يمنعون من تناولها ، وقد أعدت لهم في الجنة أسرّة عالية ظاهرة ، عليها زوجات طاهرات قد خلقن خلقا جديدا يتسم بالكمال والجمال ، وأنشئن إنشاء جديدا من غير ولادة ، وقد خلقن أبكارا . لم يُمسسن . عُرُبا . متحببات إلى أزواجهن . أتْرابا . كلهن في سن واحدة ، في ريعان الشباب ، وطراوة الصبا .
تصف الآيات ( 41-57 ) ما أعد لأصحاب الشمال ، فهم في : سَمُوم . وهو هواء ساخن ينفذ إلى المسام ويشوي الأجسام ، وَحَميم . ماء متناه في الحرارة ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . ( الواقعة : 43 ) . ظل من دخان أسود ساخن ، لا بارد كسائر الظلال ، ولا كريم ينتفع بهم لأنهم كفروا بالله وانغمسوا في الشهوات ، وأنكروا البعث والجزاء .
تعرض الآيات ( 58-74 ) آثار القدرة الإلهية المبدعة ، وتحرك قلوب المشاهدين لينظروا في أصل خلقتهم ، وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم ، وفي الماء الذي يشربون ، وفي النار التي يوقدون .
وهي طريقة فذة للقرآن حين يلفت نظر الإنسان إلى أبسط مظاهر الحياة ومشاهدها : ليبني له أضخم عقيدة دينية ، وأوسع تصور كوني . هذه المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل والزرع والماء والنار ، فأي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه ؟
من هذه المشاهدات البسيطة الساذجة ، ينشئ القرآن العقيدة لأنه يخاطب كل إنسان في بيئته .
وهذه المشاهدات البسيطة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربانية .
نشأة الحياة الإنسانية . . وهي سر الأسرار
نشأة الحياة النباتية . . معجزة كذلك ، الماء أصل الحياة ، النار المعجزة التي صنعت الحضارة الإنسانية .
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } . ( الواقعة : 58 ، 59 ) .
" إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد أن يُودِع الرجل ما يمنى رحم المرأة ثم ينقطع عمله وعملها ، وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين ، تعمل وحدها في خلقه وتنميته وبناء هيكله ونفخ الروح فيه ، ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله ، والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها ، كما لا يعرفون كيف تقع ، بله أن يشاركوا فيها " i .
يتابع القرآن طرقاته على القلب البشري ليتأمل ، ويخاطب النفوس الإنسانية ليرشدها إلى مواطن القدرة فيما بين يديها .
فهذا الزرع الذي ينبت ويؤتي ثماره . . ما دورهم فيه ؟ إنهم يحرثون ويُلقون الحَبّ والبذور التي صنعها الله . . ثم تصير الحبة في طريقها للنمو سير العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق ، الذي لا يخطئ ولا يضل .
إن يد القدرة التي تتولى خطاها على طول الطريق ، فإذا الحبة عود أخضر ناضر ، وإذا النواة نخلة كاملة سامقة مثمرة .
ويتابع القرآن لمساته لاستثارة التفكير والتأمل ، فيناقش المخاطبين :
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } . ( الواقعة : 68-69 ) .
أي : أخبروني أيها المنكرون الجاحدون عن الماء العذب الذي تشربونه ، هل فكرتم وتدبرتم من الذي صعده من البحار والمحيطات ، وجعله بخارا ثم سحابا متراكما ، ثم صيره ماء عذبا فراتا ؟
ولو شاء الله لجعل ذلك الماء ملحا مرّا لا يُحيي الزرع ولا الضرع ، ولا يُستساغ لمرارته ، فهلا تشكرون ربكم على إنزال المطر عذبا زلالا سائغا لشرابكم أنتم وأنعامكم وزرعكم .
ثم يذكرهم بنعمة النار التي يوقدونها ، من الذي أنبت شجرتها الخضراء من الأرض ، وأودع في الشجرة العناصر الأولية القابلة للاشتعال ، لقد جعل الله النار في الدنيا تذكرة للناس بنار الآخرة ، وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ . ( الواقعة : 73 ) . أي : للمسافرين . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ . ( الواقعة : 74 ) . أي : نزه الله وانسب إليه العظمة والقدرة والخلق والإبداع ، فهو الإله العلي القدير .
وفي الآيات ( 75-80 ) نلمس سمو القرآن وطهارته وعلو شأنه ومنزلته .
وقد مهدت الآيات ببيان آثار القدرة في خلق النجوم وتحديد أماكنها وتنظيم سيرها ، بحيث لا يصطدم نجم بآخر .
قال تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ } . ( الواقعة : 75-77 ) .
" ويقول الفلكيون : إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه ، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر أو يصطدم بكوكب آخر إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد وبعيد جدا ، إن لم يكن مستحيلا " ii .
وليس كما تدعون قول كاهن ولا قول مجنون ولا مفترى على الله من أساطير الأولين ، ولا تنزلت به الشياطين . . إلى آخر هذه الأقاويل ، إنما هو قرآن كريم ، كريم بمصدره ، وكريم بذاته ، وكريم باتجاهاته ، كريم على الله ، كريم على الملائكة ، كريم على المؤمنين .
{ لاَ يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } . ( الواقعة : 79 ) . من دنس الشرك والنفاق ، ودنس الفواحش ، أي : لا تصل أنوار القرآن وبركاته وهدايته إلا إلى القلوب الطاهرة .
ورُوي عن علي رضي الله عنه ، وابن مسعود ، ومالك ، والشافعي ، أن المعنى : لا يمسه من كان على جنابة أو حدث أو حيض .
ورُوي عن ابن عباس ، والشعبي ، وجماعة منهم أبو حنيفة : أن المصحف أو بعضه يجوز للمحدث مسه ، وبخاصة للدرس والتعليم iii .
في الآيات ( 71-96 ) نجد الإيقاع الأخير في السورة . . لحظة الموت ، اللمسة التي ترتجف لها الأوصال ، واللحظة التي تنهي كل جدال ، واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق ، حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النكوص : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ } . ( الواقعة : 83-84 ) .
وإننا لنكاد نسمع صوت الحشرجة ، ونبصر تقبض الملامح ، ونحس الكرب والضيق من خلال قوله تعالى : فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله تعالى : َأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ . هنا في هذه اللحظة وقد فرغت الروح من أمر الدنيا ، وخلفت وراءها الأرض وما فيها ، وهي تستقبل عالما لا عهد لها به ولا تملك من أمره شيئا إلا ما ادخرت من عمل ، وما كسبت من خير أو شر .
فإن كان الميت المحتضر من السابقين في الإيمان فروحه ترى علائم النعيم الذي ينتظرها : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } . ( الواقعة : 89 ) .
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } . ( الواقعة : 90 ) . وهو دون المقربين السابقين في المنزلة والدرجة ، فإن الملائكة تبلغه السلام من الله ومن الملائكة ومن أقرانه أصحاب اليمين .
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ } . ( الواقعة : 92 ) . فنزله عندنا ذلك الحميم الساخن والماء الحار وعذاب الجحيم .
ثم تختم السورة في إيقاع عميق رزين ، يفيد أن ما قصه الله في هذه السورة حق ثابت ، ويقين صادق لا شك فيه .
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } . ( الواقعة : 95 ) . فاتجه لله بالتسبيح والتعظيم . { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } . ( الواقعة : 96 ) .
معظم مقصود السورة هو : ظهور واقعة القيامة ، وأصناف الخلق بالإضافة إلى العذاب والعقوبة ، وبيان حال السابقين بالطاعة ، وبيان حال قوم يكونون متوسطين بين أهل الطاعة وأهل المعصية ، وذكر حال أصحاب الشمال ، والغرقى في بحر الهلاك ، وبرهان البعث من ابتداء الخلقة ، ودليل الحشر والنشر من الحرث والزرع ، وحديث الماء والنار وما في ضمنهما من النعمة والمنة ، ومس المصحف وقراءته في حالة الطهارة ، وحال المتوفى في ساعة السكرة ، وذكر قوم بالبشارة وقوم بالخسارة ، والشهادة للحق سبحانه بالكبرياء والعظمةiv بقوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } . ( الواقعة : 74 ) وقوله : { أفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } . ( الواقعة : 58 ) . وقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ } . ( الواقعة : 63 ) .
بدأ بذكر خلق الإنسان ، ثم بما لا غنى له عنه وهو الحَبّ الذي منه قوته وقوّته ، ثم الماء الذي منه سوغه وعجنه ، ثم النار التي بها نضجه وصلاحهv .
عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " vi .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 ) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ( 6 ) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ( 7 ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 9 ) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( 10 ) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( 11 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 12 ) }
وقعت الواقعة : حدثت وقامت القيامة .
ليس لوقعتها كاذبة : لا تكون نفس مكذِّبة لوقوعها يوم القيامة .
1 ، 2- { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } .
تفتتح السورة هذا الافتتاح الرهيب الذي يعبر عن هول القيامة ، وتسمى الواقعة لتحقق وقوعها لا محالة ، كما قال سبحانه وتعالى : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } . ( الحاقة : 15 ) .
ومن أسماء القيامة : القارعة ، والحاقة ، والآزفة ، والصاخّة ، والساعة ، وكلها تتلاقى على أن في هذا اليوم هولا عظيما .
فهي تسمى ( القيامة ) لأن الناس تقوم من القبور للحساب : { يوم يقوم الناس لربّ العالمين } . ( المطففين : 6 ) .
وتسمى ( الحاقة ) لأن مجيئها حق مؤكد .
وتسمى ( الآزفة ) لأن مجيئها قريب آزف .
قال تعالى : ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا . ( الإسراء : 51 ) .
وقال تعالى : أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . ( النجم : 57-58 ) .
وتسمى ( الصاخة ) لأنها تصخ الآذان بأهوالها ، والصاخة نوع من العذاب ، أو مقدمة للعذاب ، وكذلك القيامة بالنسبة للكافرين .
وفي القيامة أصناف تظل في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله ، وهناك الآمنون المطمئنون يوم الفزع الأكبر ، لا يخافون إذا خاف الناس ، بل هم آمنون مطمئنون لفضل الله الكريم ، وجزائه العظيم .
وقد حذف الجواب لتذهب النفس في تصوره كل مذهب ، أو أن الجواب معروف مما ذكر بعد ذلك ، من قوله تعالى : خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ .
إذا قامت القيامة ووقعت الواقعة الكبرى ، فذلك حق لا شك فيه ولا مراء ، ولا توجد نفس كاذبة منكرة لها ، كما كان ذلك في الدنيا ، بل هو اليقين بأن وعد الله قد تحقق وتأيّد .
سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون ، نزلت بعد سورة طه ، وسميت سورة الواقعة لقوله تعالى { إذا وقعت الواقعة } . والواقعة من أسماء يوم القيامة . وقد اشتملت السورة على تفصيل أحوال الناس يوم القيامة ، فبدأت بالحديث عن وقوع القيامة ، والأحداث التي تصحب وقوعها . ثم أخبرت أن الناس في ذلك اليوم ثلاثة أصناف ، أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والمقرّبون أصحاب الدرجات العالية . ثم فصّلت عما أعد الله لكل صنف من نعيم يلائم منزلته ،
بعد ذلك بينت الآيات مظاهر نعم الله تعالى ، وآثار قدرته في بديع صنعه في خلق الإنسان ، والزرع ، وإنزال الماء من الغمام . وما أودعه الله في الشجر من النار التي تخرج منه ، وما تقتضيه هذه الآثار الباهرة من تعظيم العلي القدير وتقديسه .
ثم يقسم الله تعالى ذلك القسَم العظيم بمواقع النجوم ، { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون ، تنزيل من رب العالمين } ليدل على مكانة القرآن الكريم ، وما يستحقه من تعظيم وتقديس . ثم نعى على الكفار سوء صنيعهم من جحودهم وكفرهم بدلا من أن يشكروا الله تعالى على إيجادهم وخلق كل شيء لهم . ثم جاء الكلام بعد ذلك بإجمال ما فصّلته الآيات عن الأصناف الثلاثة وما ينتظر كل صنف من نعيم أو جحيم .
وخُتمت السورة بتأكيد أن كل ما جاء فيها هو اليقين الصادق ، والحق الثابت ، وأمرت الرسول الكريم والمؤمنين بقوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } وكان ختامها مسك الختام .
{ مكية كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير واستثنى بعضهم قوله تعالى : { ثلة الأولين وثلة من الآخرين } كما حكاه في الإتقان وكذا استثنى قوله سبحانه : { فلا أقسم بمواقع النجوم } إلى { تكذبون } لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى وفي مجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي وسبع وتسعون في البصري وست وتسعون في الكوفي وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار وقال في البحر : مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين وقال بعض الأجلة أنظر إلى اتصال قوله تعالى : { إذا وقعت الواقعة } بقوله سبحانه : { فإذا انشقت السماء } وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكان السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما فيتلك وفي آخر هذه ما فيتلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان ثم صفة يوم القيامة ثم صفة النار ثم صفة الجنة وهذه ابتداؤها بذكر القيامة ثم صفة الجنة ثم صفة النار ثم خلق الإنسان ثم النبات ثم الماء ثم النار ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلكوك المتضمنة لرد العجز على الصدر وجاء في فضلها آثار أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحرث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا وأخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : سورة الواقعة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم .
وأخرج الديلمي عنه مرفوعا «علموا نسائكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى » .
بسْم الله الرحمن الرحيم { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } أي إذا حدثت القيامة على أن { وَقَعَتِ } بمعنى حدثت و { الواقعة } علم بالغلبة أو منقول للقيامة ، وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في ونفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في جاءني جاء فإنه لغو لدلالة كل فعل على فاعل له غير معين ، وقال الضحاك : { الواقعة } الصيحة وهي النفخة في الصور ، وقيل : { الواقعة } صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء ، و { إِذَا } ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر ، والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب بوقعت كسائر أسماء الشرط وليست مضافة إلى الجملة ، والجمهور على إضافتها فقيل : هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولاً به لا ذكر محذوفاً ، وقيل : لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس ، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره .
وقيل : بمحذوف وهو الجواب أي { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } كان كيت وكيت ، قال في «الكشف » هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار اذكر إنما كثر في إذ ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية وإلا لوجب الفاء في ليس ، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك { مَا } وهي لا تعمل ، فكذا ليس فإنه مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان ، والقول : بأنها فعل على سبيل المجاز ، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه ، ثم ذكر نحو ما ذكر «صاحب الكشف » من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية ؛ واعترض دواه أن { مَا } لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل ، ويقال عليها في ذلك ليس ، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد { إِذَا } عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به . وأما { إِذَا } فدخول الفاء في جوابها على خلاف الأصل . وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران ، وبعد القيل والقال الأولى كون العامل محذوفاً وهو الجواب كما سمعت . وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة .
{ 1-12 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
1- سورة " الواقعة " هي السورة السادسة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان نزولها بعد سورة " طه " وقبل سورة " الشعراء " .
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ، فعن ابن عباس قال : قال أبو بكر –رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اله قد شبت . قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت .
وعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا . . . " ( {[1]} ) .
2- وعدد آياتها ست وتسعون آية عند الكوفيين . وسبع وتسعون عند البصريين ، وتسع وتسعون عند الحجازيين والمدنيين .
3- وسورة " الواقعة " من السور المكية الخالصة ، واستثنى بعضهم بعض آياتها ، وعدها من الآيات المدنية ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين ] .
وقوله –سبحانه- : [ فلا أقسم بمواقع النجوم . . . ] إلى قوله –تعالى- : [ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ] .
والذي تطمئن إليه النفس أن السورة كلها مكية ، وأن ما استثنى منها لم يقم دليل يعتد به على صحته .
4- وقد افتتحت سورة " الواقعة " بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أقسام الناس في هذا اليوم . .
قال –تعالى- : [ وكنتم أزواجا ثلاثة ، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ، والسابقون السابقون . . . ] .
5- وبعد أن فصل –سبحانه- الحديث عن كل قسم من هذه الأقسام ، وبين ما أعد له من جزاء عادل . . . أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر قدرته ، وسعة رحمته ، وعظيم فضله ، فقال –تعالى- : [ نحن خلقناكم فلولا تصدقون . أفرأيتم ما تمنون ، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون . . . ] .
[ أفرأيتم ما تحرثون ، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون . . . ] .
[ أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ] .
[ أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنزلون ] .
6- وكما افتتحت السورة الكريمة ببيان أهوال يوم القيامة ، وبيان أنواع الناس في هذا اليوم . . اختتمت –أيضا- بالحديث عن أقسام الناس يوم الحساب ، وعاقبة كل قسم ، قال –تعالى- : [ فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة ونعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين ، فسلام لك من أصحاب اليمين ، وأما إن كان من المكذبين الضالين ، فنزل من حميم ، وتصلية جحيم ، إن هذا لهو حق اليقين ، فسبح باسم ربك العظيم ] .
7- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها قد ساقت بأسلوب بليغ مؤثر ، ما يحمل الناس على حسن الاستعداد ليوم القيامة ، عن طريق الإيمان العميق ، والعمل الصالح ، وما يبين لهم عن طريق المشاهدة مظاهر قدرة الله –تعالى- ووحدانيته ، وما يكشف لهم النقاب عن أقسام الناس في يوم الحساب ، وعن عاقبة كل قسم ، وعن الأسباب التي وصلت بكل قسم منهم إلى ما وصل إليه من جنة أو نار . .
وما يريهم عجزهم المطلق أمام قدرة الله –تعالى- وأمام قضائه وقدره . . فهم يرون بأعينهم أعز إنسان عندهم ، تنتزع روحه من جسده . . ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يفعلوا شيئا . .
وصدق الله إذ يقول : [ فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين ] . .
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من عباده المقربين . . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
افتتحت سورة " الواقعة " بتقرير الحقيقة التى لا شك فيها ، وهى أن يوم القيامة حق وأن الحساب حق ، وأن الجزاء حق . . .
وقد اختير الافتتاح بالظرف المتضمن معنى الشرط ، لأنه ينبه الأذهان ويحرك النفوس لترقب الجواب .
والواقعة من أسماء القيامة كالقارعة ، والحاقة ، والآزفة . . . .
قال الجمل : وفى { إِذَا } هنا أوجه : أحدهما : أنها ظرف محض ، ليس فيها معنى الشرط ، والعامل فيها ليس ، من حيث ما فيها من معنى النفى ، كأنه قيل : ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت .
والثانى : أن العامل فيها اذكر مقدار ، الثالث : أنها شرطية وجوابها مقدر ، أى : إذا وقت الواقعة كان ، كيت وكيت ، وهو العامل فيها .
وقال بعض العلماء : والذى يظهر لى صوابه ، أن إذا هنا : هى الظرفية المتضمنة معنى الشرط ، وأن قوله الآنى : { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } بدل من قوله : { وَقَعَتِ الواقعة } وأن الجواب إذا هو قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة . . } .
وعليه فالمعنى : إذا قامت القيامة ، وحصلت هذه الأحوال العظيمة ، ظهرت منزلة أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة . . .
هذه السورة مكية وآياتها ست وتسعون ، وهي حافلة بأخبار القيامة وما يقع فيها وبين يديها من الأهوال الجسام والبلايا الرعيبة ، ومثل هذه الحقائق المذهلة تتراءى للخيال من الآيات والكلمات التي تضمنتها هذه السورة ، وهي آيات وكلمات تثير من عجائب الذكرى ما ينشر في النفس الفزع والرهبة ، وهذه حقيقة يستيقنها المتدبر وهو يتلو كلمات ربه في قوله : { إذا رجت الأرض رجا 4 وبسّت الجبال بسّا 5 فكانت هباء منبثا } وفي السورة بيان بفئات العباد الثلاث يوم القيامة وهم أهل اليمين ، وأهل الشمال ، والسابقون المقربون ، وما أعده الله لكل فئة من الجزاء ، إلى غير ذلك من ألوان المواعظ والترهيب .
{ إذا وقعت الواقعة 1 ليس لوقعتها كاذبة 2 خافضة رافعة 3 إذا رجت الأرض رجا 4 وبست الجبال بسا 5 فكانت هباء منبثا 6 وكنتم أزواجا ثلاثة 7 فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة 8 وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة 9 والسابقون السابقون 10 أولئك المقربون 11 في جنات النعيم } .
ذلك إعلان من الله بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن هذه حقيقة كائنة لا محالة فلا يصرفها صارف ولا يدفعها دافع ، وأن الناس حينئذ أصناف ثلاثة ، صنفان في الجنة وثالث في النار . وهو قوله : { إذا وقعت الواقعة } والواقعة اسم من أسماء القيامة . وقد سميت بذلك لتحقق وقوعها إذا شاء الله لها أن تقع . على أن التعبير باسم الفاعل في الواقعة ينبه إلى القيامة كائنة حقا وأن وقوعها آت لا شك فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجبار. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون"...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
سورة الواقعة هي مكية بلا خلاف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
مكية بإجماع ممن يعتد بقوله من المفسرين، وقيل إن فيها آيات مدنية أو مما نزل في السفر... فيها ذكر القيامة وحظوظ النفس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه شغل بالاستعداد.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال أبو إسحاق عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبتَ؟ قال: "شيَّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت". رواه الترمذي وقال: حسن غريب... وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري: حدثنا السُّرِّي بن يحيى الشيباني، عن أبي شجاع، عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك من بعدك؟ قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا"..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
شرح أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين من المصارحين والمنافقين من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال ودل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الواقعة.. اسم للسورة وبيان لموضوعها معا. فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة، ردا على قولة الشاكين فيها، المشركين بالله، المكذبين بالقرآن: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟..
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة. وصفها بصفتها التي تنهي كل قول، وتقطع كل شك، وتشعر بالجزم في هذا الأمر.. الواقعة.. (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة).. وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم، حيث تتبدل أقدار الناس، وأوضاع الأرض، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض، كما يبدل القيم غير القيم سواء: خافضة رافعة.. إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا. وكنتم أزواجا ثلاثة... الخ.
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة: السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أوفى تفصيل، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع، لا مجال للشك فيه، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان. حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين. وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه: إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون.. وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح. ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب!
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة. ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول؛ بلمسات مؤثرة، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان، أيا كانت بيئته، ودرجة معرفته وتجربته.
يعرض نشأتهم الأولى من مني يمنى. ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى، التي يعرفونها جميعا.
ويعرض صورة الحرث والزرع، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها. إنشاؤها بيد الله وقدرته. ولو شاء الله لم تنشأ، ولو شاء لم تؤت ثمارها.
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها. وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب. ولو شاء جعله ملحا أجاجا، لا ينبت حياة، ولا يصلح لحياة.
وصورة النار التي يوقدون، وأصلها الذي تنشأ منه.. الشجر.. وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذرا. ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها.
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة، يلمس بها قلوبهم، ولا يكلفهم فيها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها.
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن "الواقعة " فيشكون في وعيده. فيلوح بالقسم بمواقع النجوم، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، وأنه تنزيل من رب العالمين.
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار. في لمسة عميقة مؤثرة. حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين، لا يملكون له شيئا، ولا يدرون ما يجري حوله، ولا ما يجري في كيانه. ويخلص أمره كله لله، قبل أن يفارق هذه الحياة. ويرى هو طريقه المقبل، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير!
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق، وتسبيح الله الخالق: (إن هذا لهو حق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم).. فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... هذه السورة جامعة للتذكير، قال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة اهـ.
التذكير بيوم القيامة وتحقيق وقوعه.
ووصف ما يعرف وهذا العالم الأرضي عند ساعة القيامة.
وصفة أهل النار وما هم فيه من العذاب وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث. وإثبات الحشر والجزاء والاستدلال على إمكان الخلق الثاني بما أبدعه اللام من الموجودات بعد أن لم تكن.
والاستدلال بدلائل قدرة الله تعالى.
والاستدلال بنزع الله الأرواح من الأجساد والناس كارهون لا يستطيع أحد منعها من الخروج، على أن الذي قدر على نزعها بدون مدافع قادر على إرجاعها متى أراد أن يميتهم.
وتأكيد أن القرآن منزل من عند الله وأنه نعمة أنعم بها عليهم فلم يشكروها وكذبوا بما فيه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
سورة الواقعة كما هو واضح من اسمها تتحدّث عن القيامة وخصوصياتها، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الستّ والتسعين. ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.
إلاّ أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام:
بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.
تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف: (أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والمقرّبين).
بحث مفصّل حول مقام المقرّبين، وأنواع الجزاء لهم في الجنّة.
بحث مفصّل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين، وأنواع الهبات الإلهيّة الممنوحة لهم.
بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنّم.
بيان أدلّة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة الله عز وجل، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة، وظهور الحياة في النباتات، ونزول المطر، اشتعال النار.. والتي تدخل أيضاً ضمن أدلّة التوحيد.
وصف حالة الاحتضار والانتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الأخروي والتي تعتبر من مقدّمات يوم القيامة.
وأخيراً نظرة إجمالية كليّة حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذا وقعت الواقعة} يعني إذا وقعت الصيحة، وهي النفخة الأولى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إذَا وَقَعَتِ الوَاقَعةُ": إذا نزلت صيحة القيامة، وذلك حين يُنفخ في الصور لقيام الساعة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(إذا) متعلقة بمحذوف، وتقديره اذكروا (إذا وقعت الواقعة)، قال المبرد: إذا وقعت معناه إذا تقع، وإنما وقع الماضي -ههنا- لأن (إذا) للاستقبال ومعناه إذا ظهرت القيامة وحدثت. والوقوع ظهور الشيء بالحدوث، وقع يقع وقوعا فهو واقع، والأنثى واقعة (وإذا) تقع للجزاء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعِتهَا كَاذِبةٌ}. إذا قامت القيامة لا يردُّها شيءٌ. ويقال: إذا وقعت الواقعة فَمَنْ سَلَكَ منهاج الصحة والاستقامة وَصَلَ إلى السلامة ولقي الكرامة، ومَنْ حادَ عن نهج الاستقامة وَقَعَ في الندامة والغرامة، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وسميت القيامة واقعة؛ لأنه لا بد من وقوعها. والعرب تسمي كل متوقع لا بد منه واقعا، وعن بعضهم: لأنها تقع على غفلة من الناس. فإن قيل: أين جواب قوله: (إذا)؟ ولا بد لهذه الكلمة من جواب، والجواب: أن جوابه قوله: (فأصحاب الميمنة).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَقَعَتِ الواقعة} كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة،... والمراد القيامة: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله. يقال: وقع ما كنت أتوقعه، أي: نزل ما كنت أترقب نزوله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الواقعة}: اسم من أسماء القيامة ك {الصاعقة} [البقرة: 55، النساء: 153] و {الآزفة} [غافر: 18، النجم: 57] و {الطامة} [النازعات: 34] قاله ابن عباس، وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها...
إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد، ولا يتمكن أحد من إنكارها، ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار، وترفع المؤمنين في درجات الجنة، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم.
{إذا وقعت الواقعة} يظهر وقوعها لكل أحد، وكيفية وقوعها، فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله: {خافضة رافعة} معطوف على {كاذبة} نسقا، فيكون كما يقول القائل: ليس لي في الأمر شك ولا خطأ، أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع.
{إذا وقعت الواقعة} يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا، ويحتمل أن يكون المحذوف شيئا غير معين، وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذا وقعت الواقعة} أي التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق للحكم بينهم على الانفراد الظاهر الذي لا مدعى للمشاركة فيه بوجه من الوجوه، ويجوز أن يكون {إذا} منصوباً بالمحذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، فيكون أهول أي إذا وقعت كانت أموراً يضيق عنها نطاق الحصر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة. إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا...). هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل. وهو يتبع أسلوبا خاصا يلحظ فيه هذا المعنى، ويتناسق مع مدلولات العبارة. فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها. (إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة).. ولا يقول: ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة، وهي خافضة رافعة. ولكن يبدأ حديثا جديدا: (إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا.).. ومرة أخرى لا يقول: ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم.. فكأنما هذا الهول كله مقدمة، لا يذكر نتائجها، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ، أو تعبر عنها العبارة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة بالظرف المتضمنِ الشرط، افتتاح بديع لأنه يسترعي الألباب لترقب ما بعد هذا الشرط الزماني مع ما في الاسم المسند إليه من التهويل بتوقع حدث عظيم يحدث. و {إذا} ظرف زمان وهو متعلق بالكون المقدر في قوله: {في جنات النعيم} [الواقعة: 12] الخ وقوله: {في سدر مخضود} [الواقعة: 28] الخ وقوله: {في سموم وحميم} [الواقعة: 42] الخ. وضمّن {إذا} معنى الشرط...
كلمة وقع تدل على أن شيئا سقط من أعلى سقوطا لازما لا يستطيع أحد أن يمنعه، ونقول: إن الجاذبية هي التي أسقطته، وتأتي هذه المادة (وقع) في المسائل الهامة التي فيها هيبة، كما قوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم.. (82)} [النمل] وقال: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118)} [الأعراف] وقال: {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب (71)} [الأعراف].
إذن: وقع تدل على أمر حاسم وحاصل بذاته بأمر الله الذي قدّره وضبطه على أن يقع بهذه الصورة، كما تضبط المنبه ليوقظك لصلاة الفجر، وحين يرن المنبه في وقت الفجر يوقظك لا يكون الفضل والعظمة للمنبه، إنما للذي ضبطه على هذا الوقت، كذلك إذا وقع الحق تكن العظمة لمن أوقعه.
فكلمة (وقعت) يعني: هي أمر واقع لا مرد له، فقال سبحانه: {إذا وقعت الواقعة (1)} [الواقعة] أي: القيامة واقعة أزلا وتدبيرا، كأنها وقعت بالفعل لأن الذي تكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه الذي لا راد لأمره.
لذلك سماها أزلا وقال بعدها {ليس لوقعتها كاذبة (2)} [الواقعة] لأنهم كانوا يكذبون وبها وينكرون الرجعة بعد الموت، فالحق سبحانه يخبر عن القيامة بأنها وقت بالفعل {ليس لوقعتها كاذبة (2)} [الواقعة] كأنها حدثت.
فالله تعالى سماها أزلا الواقعة، ولها أسماء عدة لكل منها معنى، ويعطينا لقطة من هذا اليوم الخطير المفزع، تأمل فهي: الطامة والحاقة والقارعة والصاخة والواقعة، فلكل منها ملحظ وهي جامعة لكل هذه المعاني من زوايا مختلفة في الوقت الواحد.