في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

285

ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا ، لا حيوانا ولا حجرا ، ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو ، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :

( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدرا ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته ؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .

ثم الشطر الثاني من هذا التصور :

( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !

وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :

( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) . .

وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه ؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .

( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .

فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم ؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله [ ص ] : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .

( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) . .

وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم( السبت )أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم ، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) . . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول [ ص ]( ونيسرك لليسرى ) .

على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !

إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .

ودعاء المؤمنون : ( ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .

( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) . .

وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .

ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :

( واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ) .

فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله [ ص ] : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .

وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .

وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي إراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :

( أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين ) . .

إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلا ما تسعه قدرتها فضلا ورحمة ، أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه . { لها ما كسبت } من خير . { وعليها ما اكتسبت } من شر لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعاصيها غيرها ، وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب فيه احتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير . { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط وقلة مبالاة ، أو بأنفسهما إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلا فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك -وإن كان خطأ- فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة ، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه . ويؤيد ذلك مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " . { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } عبأ ثقيلا يأصر صاحبه ، أي يحبسه في مكانه . يريد به التكاليف الشاقة . وقرئ { ولا تحمل } بالتشديد للمبالغة . { كما حملته على الذين من قبلنا } حملا مثل حملك إياه على { من قبلنا } ، أو مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لإصرا ، والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة ، وخمسين صلاة في اليوم والليلة ، وصرف ربع المال للزكاة . أو ما أصابهم من الشدائد والمحن . { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من البلاء والعقوبة . أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية وهو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه ، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني . { واعف عنا } وامح ذنوبنا . { واغفر لنا } واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة . { وارحمنا } وتعطف بنا وتفضل علينا . { أنت مولانا } سيدنا . { فانصرنا على القوم الكافرين } فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء ، أو المراد به عامة الكفرة .

روي أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة فعلت . وعنه عليه السلام " أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة . كتبها الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل " . وعنه عليه الصلاة والسلام : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " . وهو يرد قول من استكره أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام " السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ، ولن يستطيعها البطلة قيل : يا رسول الله وما البطلة ؟ قال : السحرة " .