في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (5)

فأما مسألة التبني ، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم ، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخلفي بناء الأسرة ، وفي بناء المجتمع كله .

ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي ، والاعتزاز بالنسب ، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع ، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور .

كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء ! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه . يدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه ، فيتوارث وإياه توارث النسب .

وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون . ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه ، ويتبناه ، ويلحقه بنسبه ، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه ، ويدخل في أسرته . وكان هذا يقع بخاصة في السبي ، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات ؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه ، وأطلق عليه اسمه ، وعرف به ، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها .

ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي . وهو من قبيلة عربية . سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية ؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة - رضي الله عنها - فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له . ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاختار رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأعتقه ، وتبناه ، وكانوا يقولون عنه : زيد بن محمد . وكان أول من آمن به من الموالي .

فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها ، ويحكم روابطها ، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه . . أبطل عادة التبني هذه ؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية . . علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية . وقال : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) . . ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) . . والكلام لا يغير واقعا ، ولا ينشئ علاقة غير علاقة الدم ، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة ، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي !

( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) . .

يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل . ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم ، لا على كلمة تقال بالفم . ( وهو يهدي السبيل )المستقيم ، المتصل بناموس الفطرة الأصيل ، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر ، يصنعونه بأفواههم . بكلمات لا مدلول لها من الواقع . فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل .

( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) . .

وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه . عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية . وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه ، ويرثه ويورثه ، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة ، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده . وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه ؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري ، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد ؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة ، ولا يعطيه مزاياها . ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها !

وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة . ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع . وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق . . وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل ، ضعيف ، مزور الأسس ، لا يمكن أن يعيش !

ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك ، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب ، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان ، فقد يسر الإسلام الأمر - وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة ، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها - فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية ، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه :

( فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) . .

وهي علاقة أدبية شعورية ؛ لا تترتب عليها التزامات محددة ، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات - وهي التزامات النسب بالدم ، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني - وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني .

وهذا النص : ( فإن لم تعلموا آباءهم ) . . يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي . وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية . هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة . وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة .

وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح :

( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ؛ ولكن ما تعمدت قلوبكم ) . .

وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة ، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون :

( وكان الله غفورا رحيما ) . .

ولقد شدد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي . وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر . قال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم . حدثنا ابن علية . عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال أبو بكر - رضي الله عنه - قال الله عز وجل : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) . . فأنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا من إخوانكم في الدين . . قال أبي [ من كلام عيينة بن عبد الرحمن ] : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه . وقد جاء في الحديث : " من ادعى إلى غير أبيه - وهو يعلم - إلا كفر " . . وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل ؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت . ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (5)

ولما كان كأنه قيل : فما تقول ؟ اهدنا إلى سبيل الحق في ذلك ، أرشد إلى أمر التبني إشارة إلى أنه هو المقصود في هذه السورة لما يأتي بعد من آثاره التي هي المقصودة{[55046]} بالذات بقوله : { ادعوهم } أي الأدعياء { لآبائهم } أي إن علموا ولداً قالوا : زيد بن حارثة ؛ ثم علله بقوله : { هو } أي هذا الدعاء { أقسط } أي أقرب إلى العدل من التبني وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المتبني والإحسان إليه { عند الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال ، فلا ينبغي أن يفعل في ملكه إلا ما هو أقرب إلى الكمال ، وفي هذا بالنسبة إلى ما مضى بعض التنفيس عنهم ، وإشارة إلى أن ذلك التغليظ بالنسبة إلى مجموع القولين المتقدمين .

ولما كانوا قد يكونون{[55047]} مجهولين ، تسبب عنه قوله : { فإن لم تعلموا آباءهم } لجهل أصلي{[55048]} أو طارئ { فإخوانكم في الدين } إن كانوا دخلوا في دينكم { ومواليكم } أي أرقاؤكم مع بقاء الرق أو مع العتق على كلتا الحالتين ، ولذا قالوا : سالم مولى أبي حذيفة . ولما نزل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " - أخرجه الشيخان{[55049]} عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما .

ولما كانت عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم ، أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ ، وساقه على وجه يعم ما بعد النهي أيضاً{[55050]} فقال : { وليس عليكم جناح } أي إثم وميل واعوجاج ، وعبر بالظرف ليفيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه ، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثماً ، ولكنه عفا عنه فقال : { فيما أخطأتم به } أي من الدعاء بالبنوة والمظاهرة أو في شيء قبل النهي أو بعده ، ودل قوله : { ولكن ما } أي الإثم فيما { تعمدت قلوبكم } على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان أو سبق اللسان ، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يتعمده{[55051]} بعد البيان الشافي{[55052]} إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة ، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينه المتعمد .

ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدمه ، عم سبحانه بقوله : { وكان الله } أي لكونه لا أعظم منه ولا{[55053]} أكرم منه { غفوراً رحيماً * } أي من صفته الستر البليغ على المذنب التائب ، والهداية العظمية للضال الآئب ، والإكرام بإيتاء الرغائب .


[55046]:من م ومد، وفي الأصل وظ: المقصود.
[55047]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يكونوا.
[55048]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أصل.
[55049]:البخاري في باب من ادعى إلى غير أبيه من كتاب الفرائض ـ راجع صحيحه 3/1001، ومسلم في باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، من كتاب الإيمان ـ راجع صحيحه 1/57.
[55050]:زيد من ظ وم ومد.
[55051]:في ظ وم ومد: لا يتعمد.
[55052]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الثاني.
[55053]:سقط من ظ وم ومد.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (5)

قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

نزلت هذه الآية في زيد بن حارثة كما بيناه آنفا . وفي ذلك كان ابن عمر يقول : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد . وهذا يدل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية وبعض من الوقت في الإسلام . وكانوا يتوارثون به ويتناصرون حتى نسخ الله ذلك بقوله : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ }

أي انسبوا هؤلاء الأدعياء الذين ألحقتم أنسابهم بكم – لآبائهم . فوجب بذلك أن يُنسب زيد لأبيه حارثة ، فلا يدعي : زيد بن محمد . وذلك عند الله أعدل وأصوب وأصدق من دعائكم إياهم لغير آبائهم .

قوله : { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } يعني إذا لم تعلموا من هم أدعيائكم لتنسبوهم إليهم فهم إخوانكم في الدين ؛ أي ينادي أحدكم الدعي بقوله : يا أخي . والمقصود أخوة العقيدة والدين لا أخوة النسب . { وَمَوَالِيكُمْ } أي أولياؤكم في الدين . فليقل أحدكم : هذا أخي وهذا مولاي . ويا أخي ويا مولاي ، يريد بذلك الأخوة في الدين والولاية فيه .

قوله : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي لا بأس عليكم ، ولا إثم فيما وقعتم فيه من الخطأ بنسبة بعض الأدعياء إلى آبائهم وأنتم تحسبون أنهم أبناؤهم وهم في الحقيقة أبناء لغيرهم . فلو دعوت رجلا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فلا بأس عليك في ذلك .

قوله : { وَلَكِنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } { مَّا } ، في موضع رفع على الابتداء . وتقديره : ولكن ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به . وقيل : في موضع جر بالعطف على { مَّا } في قوله تعالى : { فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } {[3693]}

والمعنى : ولكن الإثم والحرج عليكم فيما نسبتموه إلى غير أبيه ، وأنتم تعلمون أنه ابن لغير ما تنتسبونه إليه .

قوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } الله يستر الذنب على من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول ، وكذلك يستره على من ادعى ولد غيره ابنا له ، إذا تابا وأنابا وانتهيا عن قول المنكر والزور من الكلام . الله جل وعلا يتجاوز بفضله عن سيئاتهما ويرحمهما برحمته فلا يعاقبهما على ما بدر منهما بعد توبتهما{[3694]} .


[3693]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 264.
[3694]:الكشاف ج 3 ص 250 وفتح القدير ج 3 ص 260 وتفسير الطبري ج 21 ص 76 وتفسير القرطبي ج 14 ص 119-120.