في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله ؛ وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله للمسلمين والمشركين ، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية ، وعقيدتهم ليست خالصة لله ، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد ، لا يجوز أن يسوى هؤلاء - لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج - بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته :

( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ? ) . .

( لا يستوون عند الله ) .

وميزان الله هو الميزان وتقديره هو التقدير .

( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .

المشركين الذين لا يدينون دين الحق ، ولا يخلصون عقيدتهم من الشرك ، ولو كانوا يعمرون البيت ويسقون الحجيج .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

ظاهر هذه الآية يقتضي أنّها خطاب لقوم سَوَّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ، وبين الجهاد والهجرة ، في أنّ كلّ ذلك من عمل البرّ ، فتؤذن بأنّها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد ، بعلّة اجتزائهم بالسقاية والعمارة . ومناسبتها للآيات التي قبلها : أنّه لمّا وقع الكلام على أنّ المؤمنين هم الأحقّاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دلّ ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملاً من الأعمال الخاصّة به ، فكان ذلك مثار ظنّ بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساوٍ للقيام بأفضل أعمال الإسلام .

وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية : ما رواه الطبري ، والواحدي ، عن النعمان بن بشير ، قال : كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم « ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلاَّ أنْ أسقي الحاج » ؛ وقال آخر « بل عمارة المسجد الحرام » وقال آخر « بل الجهاد في سبيل الله خير ممّا قلتم » فزجرهم عمر بن الخطاب وقال : « لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صُلِّيَتْ الجمعة دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفيتُه فيما اختلفتم فيه » قال : فأنزل الله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } .

وقد روي أنّه سرى هذا التوهّم إلى بعض المسلمين ، فروي أنّ العباس رام أن يقيم بمكة ويترك الهجرة لأجل الشغل بسقاية الحاجّ والزائِر ؛ وأنّ عثمان بنَ طلحة رام مثل ذلك ، للقيام بحجابة البيت . وروى الطبري ، والواحدي : أن مماراة جرت بين العباس وعلي بن أبي طالب ببدر ، وأن علياً عَيَّر العباس بالكفر وقطيعة الرحم ، فقال العباس : « ما لكم لا تذكرون محاسننا إنّا لنَعْمُر مسجد الله ونحجب الكعبة ونسقي الحاج » فأنزل الله { أجعلتم سقاية الحاج } الآية .

والاستفهام للإنكار .

و ( السقاية ) صيغة للصناعة ، أي صناعة السقي ، وهي السقي من ماء زمزم ، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج .

وكذلك ( العمارة ) صناعة التعمير ، أي القيام على تعمير شيء ، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك ، وهي ، هنا : غير ما في قوله : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [ التوبة : 17 ] وقوله : { إنما يعمر مساجد الله } [ التوبة : 18 ] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد .

وتعريف الحاج تعريف الجنس .

وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية ، والمناصب عشرة ، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب ، وكانت عمارة المسجد ، وهي السدانة ، وتسمّى الحجابة ، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة .

وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدّي العلامة الوزير وهي : الدّيَات والحَملات ، السِّفارة ، الراية ، الرّفادة ، المشُورة ، الأعنة والقبة ، الحكُومة وأموالُ الآلهة ، الأيْسار .

فأما الديات والحَمالات : فجمع دِيَة وهي عوض دم القتيلِ خطأ أو عمداً إذا صولح عليه ؛ وجمع حَمالة بفتح الحاء المهملة وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم ، وكانت لبني تَيْم بن مُرَّةَ بن كعب . ومُرّة جدّ قصَي ، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق .

وأمّا السِفارة بكسر السين وفتحها فهي السعي بالصلح بين القبائِل . والقائم بها يسمّى سفيراً . وكانت لبني عدي بن كعب أبناء عمّ لقصي وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب .

وأمّا الراية ، وتسمّى : العُقاب بضم العين لأنّها تخفق فوق الجيش كالعُقاب ، فهي راية جَيش قريش . وكانت لبني أمية ، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب .

وأمّا الرّفادة : فهي أموال تخرجها قريش إكراماً للحجيج فيطعمونهم جميعَ أيّام الموسم يشترون الجُزُر والطعام والزبيب للنبيذ وكانت لبني نوفل بن عبد مناف ، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل .

وأمّا المَشُورَة : فهي ولاية دار النَّدْوة وكانت لبني أسد بن عبد العُزّى بن قصيّ . وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زَمْعَة .

وأمّا الأعنّة والقُبة فقبّة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش وسميت الأعنّة وكانت لبني مخزوم . وهم أبناء عم قُصَي ، وجاء الإسلام وهي بيد خالد بن الوليد .

وأمّا الحُكومة وأموالُ الآلاهة ولم أقف على حقيقتها فأحسب أنّ تسميتها الحكومة لأنّ المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم أو في الإحرام . وأمّا تسميتها أموال الآلهة لأنّها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع . فكانت لبني سهم وهم أبناء عمّ لقصي . وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم .

وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها فكانت لبني جُمح وهم أبناء عمّ لقُصي ، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أميةَ بننِ خَلَف .

وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب ، عدا السدانة والسقاية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع « ألا إنّ كل مأثُرة من مآثر الجاهلية تحت قَدَمَيَّ هاتين إلاّ سِقاية الحاج وسَدانة البيت »{[245]}

وكانت مناصب العرب التي بيد قصي بن كلاب خمسة : الحجابة ، والسقاية ، والرفادة ، والندوة ، واللواء فلمّا كبر قصي جعل المناصب لابنه عبد الدار ، ثم اختصم أبناء قصي بعد موته وتداعَوا للحرب ، ثم تداعَوا للصلح ، على أن يعطوا بني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة ، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة ، وأحدثت مناصب لبعضضٍ من قريش غيرِ أبناء قصي فانتهت المناصب إلى عشرة كما ذكرنا .

وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لأنّه محلّ التسوية المردودة عليهم لأنّهم لم يدَّعوا التسوية بين السقاية أو العمارة بدون الإيمان ، بل ذِكر الإيمان إدماج ، للإيماء إلى أنّ الجهاد أثَرُ الإيمان ، وهو ملازم للإيمان ، فلا يجوز للمُؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام . وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جَعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان ، بل لَجعلوها أعظم . وإنّما توهّموا أنهما عملان يَعْدِلانِ الجهاد ، وفي الشغل بهما عذر للتخلّف عن الجهاد ، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين .

وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه ، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبّه به ، على أنّ العملين ومَن عملهما لا يساويان العملَين الآخرين ومَن عملهما . فوقع احتباك في طرفي التشبيه ، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين . والتقدير : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله ، وجعلتم سقاية الحاجّ وعمّار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله . ولما ذكرت التسوية في قوله : { لا يستوون عند الله } أسندت إلى ضمير العاملين ، دون الأعمال : لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات .

وجملة { لا يستوون } مستأنفة استئنافاً بيانياً : لبيان ما يُسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله : { أجعلتم } الآية .

وجملة { والله لا يهدي القوم الظالمين } تذييل لجملة { أجعلتم سقاية الحاج } إلخ ، وموقعهُ هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك ، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنْزل قبلها ، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها ، فإنّه لم يبق يومئذٍ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد ، حتى يُرَد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه . وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء .

فالوجه عندي في موقع جملة { والله لا يهدي القوم الظالمين } أنّ موقعها الاعتراض بين جملة { أجعلتم سقاية الحاج } وجملة { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا } [ التوبة : 20 ] إلخ .

والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان ، إعلاماً بأنّه دليل إلى الخيرات ، وقائد إليها . فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد ، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ ، فلم يهدهم الله إلى الخير ، وذلك برهان على أنّ الإيمان هو الأصل ، وأنّ شُعَبَه المتولّدة منه أفضل الأعمال ، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل ، لأنّها ليست من شعب الإيمان ، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلاّ إذا كان مع الإيمان ، وخاصّة الجهاد .

وفيه إيماء إلى أنّه : لولا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين ، فإنّ إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيششِ الفتح إذ آمن العباس بن عبد المطلب وهو صاحب السقاية ، وآمن عثمان بن طَلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام .

فأمّا ما رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس : من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر ، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس ، فموقع التذييل بقوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } واضح : أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام ، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك . فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد ، وتنازعهم في ذلك ، خطأ من النظر ، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرعِ بالأصل ، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان ، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون ، والمشاهدة دلّت على خلاف ذلك : فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين . فالهداية شاع إطلاقها مجازاً باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب ، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه مَن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله ، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة .

وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل .

والمعنى : والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم .

ونسب إلى ابن وردان أنّه روي عن أبي جعفر أنّه قرأ : { سُقَاةَ الحاج } بضم السين جمع الساقي وقرأ { وعَمَرَة } بالعين المفتوحة وبدون ألف وبفتح الراء جمع عامر وقد اختلف فيها عن ابن وَردان .


[245]:- رواه ابن الأثير في النهاية في مادة، أثر ومادة سقى.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية...

حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: ثني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عن النعمان بن بشير الأنصاريّ، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته فيما اختلفتم فيه قال: ففعل، فأنزل الله تبارك وتعالى:"أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ..." إلى قوله: "وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ"...

عن ابن عباس قوله: "أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... "إلى قوله: "الظّالِمِينَ" وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: "قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ على أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ" يعني أنهم يستكبرون بالحرم، وقال: «به سامرا» لأنهم كانوا يسمرون ويهجرون القرآن والنبيّ صلى الله عليه وسلم. فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه، قال الله: "لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ" يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة، فسماهم الله «ظالمين» بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا...

فتأويل الكلام إذن: أجعلتم أيها القوم سقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملاً. "واللّهُ لا يَهْدِي القَوْم الظّالِمِينَ" يقول: والله لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافرا ولتوحيده جاحدا...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

خاطب الله تعالى بهذه الآية قوما جعلوا القيام بسقي الحجيج وعمارة المسجد الحرام من الكفار مع مقامهم على الكفر مساويا أو أفضل من إيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فأخبر تعالى أنهما لا يستويان عند الله في الفضل لأن الذي آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله أفضل ممن يسقي الحجيج ولم يفعل ذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوي بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{والله لا يهدي القوم الظالمين} فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه. وأيضا ظلموا المسجد الحرام، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعا لعبادة الله تعالى، فجعلوه موضعا لعبادة الأوثان، فكان هذا ظلما.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما بين سبحانه الصالح لذلك من غيره، أنكر على من لم يفرق بين الصنفين فقال: {أجعلتم سقاية الحاج} أي مجردة عن الإيمان {وعمارة المسجد الحرام} أي كذلك كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد، وأهل السقاية والعمارة من غير إيمان في موالاتهم والكف عن معاداتهم {كمن آمن بالله} أي الحامل اعتقاد كماله على كل كمال {واليوم الآخر} أي الحاث خوفه على كل خير {وجاهد في سبيل الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء ولما كان كأنه قيل: كنا نظن ذلك فما حالهم؟قال: {لا يستوون عند الله} أي الذي له الكمال كله لأن المشركين ظلموا بترك الإيمان {والله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم الظالمين} أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها، والكفر أعظم الظلم، فلا توجبوا لهم الهداية ولا المساواة بالمهتدين وإن باشروا جميع أفعال المهتدين ما عدا الإيمان، ومن فعل ذلك منكم كان ظالماً وخيف عليه سلب موجب الهداية.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

والاستفهام في {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} للإنكار {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي: لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة، التي يدّعيها المشركون، أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

...هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته وسقاية الحاج فيه، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ـ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. [فدخل بعد الصلاة فاستفتاه]، فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} ـ إلى قوله ـ لا يهدي القوم الظالمين}.

وروى الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس: أي عم ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} الآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني (أي الأسير) فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج}. وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد، فقال علي رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} الآية كلها. فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات، وإن لم تكن أسبابا.

والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه ـ من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة ـ وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال. وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع، وينصر الحق ويخذل الباطل. وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فهي وإن كانت أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر. في الإيمان والجهاد، فلذلك قال: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله؛ وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله للمسلمين والمشركين، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، لا يجوز أن يسوى هؤلاء -لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج- بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته وميزان الله هو الميزان وتقديره هو التقدير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ظاهر هذه الآية يقتضي أنّها خطاب لقوم سَوَّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أنّ كلّ ذلك من عمل البرّ، فتؤذن بأنّها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بعلّة اجتزائهم بالسقاية والعمارة. ومناسبتها للآيات التي قبلها: أنّه لمّا وقع الكلام على أنّ المؤمنين هم الأحقّاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دلّ ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملاً من الأعمال الخاصّة به، فكان ذلك مثار ظنّ بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساوٍ للقيام بأفضل أعمال الإسلام.

... والاستفهام للإنكار.

و (السقاية) صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.

وكذلك (العمارة) صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي، هنا: غير ما في قوله: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} [التوبة: 17] وقوله: {إنما يعمر مساجد الله} [التوبة: 18] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد.

وتعريف الحاج تعريف الجنس.

وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمّى الحجابة، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة...

وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل لجملة {أجعلتم سقاية الحاج...}، وموقعهُ هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنْزل قبلها، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها، فإنّه لم يبق يومئذٍ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد، حتى يُرَد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه. وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.

فالوجه عندي في موقع جملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أنّ موقعها الاعتراض بين جملة {أجعلتم سقاية الحاج} وجملة {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا} [التوبة: 20] إلخ.

والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان، إعلاماً بأنّه دليل إلى الخيرات، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ، فلم يهدهم الله إلى الخير، وذلك برهان على أنّ الإيمان هو الأصل، وأنّ شُعَبَه المتولّدة منه أفضل الأعمال، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل، لأنّها ليست من شعب الإيمان، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلاّ إذا كان مع الإيمان، وخاصّة الجهاد.

وفيه إيماء إلى أنّه: لولا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين، فإنّ إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيش الفتح إذ آمن العباس بن عبد المطلب وهو صاحب السقاية، وآمن عثمان بن طَلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام.

فأمّا ما رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس: من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس، فموقع التذييل بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين} واضح: أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك. فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد، وتنازعهم في ذلك، خطأ من النظر، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرعِ بالأصل، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون، والمشاهدة دلّت على خلاف ذلك: فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين. فالهداية شاع إطلاقها مجازاً باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه مَن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة.

وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل.

والمعنى: والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم.