هؤلاء الغافلون عما حولهم ، العميُ عما يحيط بهم . . يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول . كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد !
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .
لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجىء المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة . . ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم - عليه السلام - وهو جد هؤلاء المشركين ؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم ؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل . حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم ؛ فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم . حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله [ ص ] لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت ؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء ؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى : وقال الذين كفروا : هل ندلكم على رجل ينبئكم ، إذا مزقتم كل ممزق ، إنكم لفي خلق جديد ؟ أفترى على الله كذباً ؟ أم به جنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد . . [ سبأ : 7 - 8 ] .
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها - كما هي وظيفة الأمة المسلمة - إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها . . فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا ، وحدود هذه الأرض الصغيرة ، لا يمكن أن ينشىء أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها !
إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور ، وسعة في النفس ، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة . . كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة ؛ ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة ، عن المضي في التبشير بالخير ، وفعل الخير والقيادة إلى الخير ، على الرغم من النتائج القريبة ، والتضحيات الأليمة . . وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة . .
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس " الإنسان " ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك " الحيوان " ! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية ، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة !
لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله . . ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح . . حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً . . وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية ، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني !
ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة ، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر :
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ )
إن الساعة غيب ، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه . . ولكن المشركينيسألون الرسول عنها . . إما سؤال المختبر الممتحن ! وإما سؤال المتعجب المستغرب ! وإما سؤال المستهين المستهتر ! ( أيان مرساها ؟ ) أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو ؟ !
والرسول [ ص ] بشر لا يدعي علم الغيب ، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه ، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية ، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها ، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء :
( قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ) .
فهو - سبحانه - مختص بعلمها ، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها ، ولا يكشف غيره عنها .
ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها ، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها ، وإلى الشعور بهولها وضخامتها . . . ألا وإن أمرها لعظيم ، ألا وإن عبئها لثقيل . ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين . وهي - بعد ذلك - لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون :
( ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة ) . .
فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة ؛ فلا ينفع معها الحذر ، ولا تجدي عندها الحيطة ، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها ، وما لم يستعدوا لها ، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية . وما يدري أحد متى تجيء ، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع ، وألا يضيع بعد ساعة ، قد تفجؤه بعدها الساعة !
ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة . . إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ ولا يعرفون حقيقة الألوهية ، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم .
أي كأنك دائم السؤال عنها ! مكلف أن تكشف عن موعدها ! ورسول الله [ ص ] لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه :
( قل : إنما علمها عند الله ) . .
قد اختص سبحانه به ؛ ولم يطلع عليه أحداً من خلقه .
( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وليس الأمر أمر الساعة وحده . إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب . لا يطلع على شيء منه إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء ، في الوقت الذي يشاء . . لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . . فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم ، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم . وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم ، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم ! وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير ؛ ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ) . .
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ! % ومن أين والغايات بعد المذاهب
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول . ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم ، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد ، وأمام ستر الغيب المسدل ، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب .
يقول تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } [ الأحزاب : 63 ] قيل : نزلت في قريش . وقيل : في نفر من اليهود . والأول أشبه ؛ لأن الآية مكية ، وكانوا يسألون عن وقت الساعة ، استبعادًا لوقوعها ، وتكذيبًا بوجودها ؛ كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الأنبياء : 38 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [ الشورى : 18 ]
وقوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " منتهاها " أي : متى محطها ؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة ؟
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة ، أن يرُدَّ علمها إلى الله تعالى ؛ فإنه هو الذي يجليها لوقتها ، أي : يعلم جلية أمرها ، ومتى يكون على التحديد ، [ أي ]{[12445]} لا يعلم ذلك [ أحد ]{[12446]} إلا هو تعالى ؛ ولهذا قال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }
قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون . قال معمر : قال الحسن : إذا جاءت ، ثقلت على أهل السماوات والأرض ، يقول : كَبُرَت عليهم .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة .
وقال ابن جُرَيْج : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : إذا جاءت انشقت السماء{[12447]} وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وكان ما قاله الله ، عز وجل{[12448]} فذلك ثقلها .
واختار ابن جرير ، رحمه الله : أن المراد : ثَقُلَ علم وقتها على أهل السماوات والأرض ، كما قال{[12449]} قتادة .
وهو كما قالاه ، كقوله تعالى : { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض ، والله أعلم .
وقال السدي [ في قوله تعالى ]{[12450]} { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : خفيت في السماوات والأرض ، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل .
{ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [ قال ]{[12451]} يبغتهم قيامها ، تأتيهم على غفلة .
وقال قتادة في قوله تعالى : { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قضى الله أنها { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال{[12452]} " إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه " {[12453]}
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما{[12454]} بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه . ولتقومَنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يَطْعَمُه . ولتقومَنّ الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه . ولتقومَنّ الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " {[12455]}
وقال مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تقوم الساعة والرجل يحلب اللِّقْحَة ، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة . والرجلان{[12456]} يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم . والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم " {[12457]}
وقوله [ تعالى ]{[12458]} { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه : كما قال{[12459]} العوفي عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول : كأن بينك وبينهم مودة ، كأنك صديق لهم . قال ابن عباس : لما سأل الناس محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم ، فأوحى الله إليه : إنما علمها عنده ، استأثر بعلمها ، فلم يطلع الله عليها ملكًا مقربًا ولا رسولا .
وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا متى الساعة . فقال الله ، عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، والسُّدِّي ، وهذا قول . والصحيح عن مجاهد - من رواية ابن أبي نَجِيح وغيره - : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } قال : استَحْفَيت عنها السؤال ، حتى علمت وقتها .
وكذا قال الضحاك ، عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول : كأنك عالم بها ، لست تعلمها ، { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ }
وقال معمر ، عن بعضهم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها ، وقد أخفى الله علمها على خلقه ، وقرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [ لقمان : 34 ] .
ولهذا القول أرجح في المعنى من الأول ، والله أعلم ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
ولهذا لما جاء جبريل ، عليه السلام ، في صورة أعرابي ، يعلم الناس أمر دينهم ، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد ، وسأله عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، ثم قال : فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " أي : لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية{[12460]}
وفي رواية : فسأله عن أشراط الساعة ، ثم قال : " في خمس لا يعلمهن إلا الله " . وقرأ هذه الآية ، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب : " صدقت " ؛ ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم{[12461]} دينكم " {[12462]}
وفي رواية قال : " وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها ، إلا صورته هذه " .
وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد ، في أول شرح صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة{[12463]}
ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : يا محمد ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاء{[12464]} - على نحو من صوته - قال : يا محمد ، متى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك إن الساعة آتية ، فما أعددت لها ؟ " قال : ما أعددت لها كبير{[12465]} صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المرء مع من أحب " . فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث{[12466]}
وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : " المرء مع من أحب " {[12467]} وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين .
ففيه أنه ، عليه السلام ، كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه ، أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم ، وهو الاستعداد لوقوع ذلك ، والتهيؤ له قبل نزوله ، وإن لم يعرفوا تعيين وقته .
ولهذا قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألوه عن الساعة : متى الساعة ؟ فنظر{[12468]} إلى أحدث إنسان{[12469]} منهم فقال : " إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم " {[12470]} يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة .
ثم قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهَرَم حتى تقوم الساعة " . انفرد به مسلم{[12471]}
وحدثنا حجاج بن الشاعر ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي{[12472]} عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ؛ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : متى الساعة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هُنَيهة ، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة ، فقال : " إن عُمِّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " - قال أنس : ذلك الغلام من أترابي{[12473]}
وقال : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أنس قال : مر غلام للمغيرة بن شعبة - وكان من أقراني{[12474]} - فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " {[12475]}
ورواه البخاري في كتاب " الأدب " من صحيحه ، عن عمرو بن عاصم ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رجلا من أهل البادية قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ فذكر الحديث ، وفي آخره : " فمر غلام للمغيرة بن شعبة " ، وذكره{[12476]}
وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب " ساعتكم " في حديث عائشة ، رضي الله عنها .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل{[12477]} أن يموت بشهر ، قال : " تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله . وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة ، تأتي عليها مائة سنة " رواه مسلم{[12478]}
وفي الصحيحين ، عن ابن عمر مثله ، قال ابن عمر : وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، أنبأنا العوام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفَازة{[12479]} عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن رسول الله{[12480]} صلى الله عليه وسلم قال : " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى " ، قال : " فتذاكروا أمر الساعة " ، قال : " فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، عليه السلام ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال عيسى : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، عز وجل ، وفيما عهد إليَّ ربي ، عز وجل ، أن الدجال خارج " ، قال : " ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص " ، قال : " فيهلكه الله ، عز وجل ، إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافرًا تعالى فاقتله " . قال : " فيهلكهم الله ، عز وجل ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم " ، قال : " فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيطئون بلادهم ، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه " ، قال : " ثم يرجع الناس إليَّ فيشكونهم ، فأدعو{[12481]} الله ، عز وجل ، عليهم فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجْوَى الأرض من نتن ريحهم - أي : تُنْتِن - " قال : " فينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في{[12482]} البحر " .
قال أحمد : قال يزيد بن هارون : ثم تنسف الجبال ، وتمد الأرض مد الأديم - ثم رجع إلى حديث هشيم قال : ففيما عهد إلي ربي ، عز وجل ، أن ذلك إذا كان كذلك ، فإن{[12483]} الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها{[12484]} ليلا أو نهارا{[12485]}
ورواه ابن ماجه ، عن بُنْدَار عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حَوْشَب بسنده ، نحوه{[12486]}
فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ، ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين ، وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام ، فتكلم على أشراطها ؛ لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذًا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتل المسيح الدجال ، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه ، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر{[12487]} حدثنا عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط{[12488]} قال : سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال : " علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم{[12489]} بمشاريطها ، وما يكون بين يديها : إن بين يديها فتنة وهرجًا " ، قالوا : يا رسول الله ، الفتنة قد عرفناها ، فالهرج ما هو ؟ قال بلسان الحبشة : " القتل " . قال{[12490]} وَيُلقَى بين الناس التَّنَاكرُ ، فلا يكاد أحد يعرف أحدًا " {[12491]} لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه .
وقال وَكِيع : حدثنا ابن أبي خالد ، عن طارق بن شهاب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن{[12492]} الساعة حتى نزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } الآية [ النازعات : 42 ] .
ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[12493]} وهذا إسناد جيد قوي .
فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم [ محمد ]{[12494]} صلوات الله عليه وسلامه{[12495]} نبي الرحمة ، ونبي التوبة ، ونبي الملحمة ، والعاقب والمُقَفَّي ، والحاشر الذي تحشر{[12496]} الناس على قدميه ، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد ، رضي الله عنهما : " بعثت أنا والساعة كهاتين " {[12497]} وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها . ومع هذا كله ، قد أمره الله تعالى أن يَرُد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين وقت الساعة .
ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم } [ الأعراف : 185 ] سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا ، وهو الاستئصال ، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة ، فإن الكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين .
وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم ، البعثَ وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل مُمزقٍ إنكم لفي خلقٍ جديدٍ أفترى على الله كذباً أم به جنةٌ } [ سبأ : 7 ، 8 ] ، وقد جعلوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزاً له ، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يومٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ] .
فالسائلون هم المشركون ، وروي ذلك عن قتادة ، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا ، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن ، كقوله تعالى في سورة النازعات ( 42 ) { يسألونك عن الساعة أيّانَ مرساها } وقوله { عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 1 3 ] يعني البعثَ والساعة ، ومن المفسرين من قال : المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الساعة ، وهذا لا يكون سبب نزول الآية ، لأن هذه السورة مكية ، قيل كلها ، وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة ، ولم يعُدوا هذه الآية ، فيما اختُلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضاً نازلة قبل هذه السورة .
والساعة معرّفةً باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي ، وتسمى : يومَ البعث ، ويومَ القيامة .
و { أيّان } اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من ( أي ) الاستفهامية و ( آنَ ) وهو الوقت ، ثم خففت ( أي ) وقلبت همزة ( آن ) ياء ليتأتى الإدغام ، فصارت ( أيّان ) بمعنى أي زمان ، ويتعين الزمان المسؤول عنه بما بعد ( أيان ) ، ولذلك يتعين أن يكون اسمَ معنى لا اسمَ ذات ، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات ، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت ( متى ) من الاستفهام إلى الشرطية ، وهي توسيعات في اللغة تَصيرُ معاني متجددة ، وقد ذكروا في اشتقاق ( أيان ) احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال ، وكلها غير مرضية ، وما ارتأيناه هنا أحسن منها .
فقوله : { أيان } خبر مقدم لصدارة الاستفهام ، و { مرساها } مبتدأ مؤخر ، وهو في الأصل مضاف إليه آن إذ الأصل أي ( آن ) آن مُرسى الساعة .
وجملة : { أيان مُرساها } في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل { يسألونك } والتقدير : يقولون أيان مرساها ، وهو حكاية لقولهم بالمعنى ، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة : { يسألونك عن الساعة } .
والمُرْسَى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رَسَا الجبل ثُبت ، وأرساه أثبته وأقره ، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل :
وقال رَائدُهم أرْسُوا نزاوِلُها
ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى : { بسم الله مجراها ومرساها } [ هود : 41 ] ، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيهاً لوقوع الأمر الذي كان مترقباً أو متردد فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده .
وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكْم ، إظهاراً لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الشاعة ، وتعليماً للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علْم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمْر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه .
فقد ورد في الصحيح أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال رسول الله ماذا أعْدَدْتَ لها ؟ فقال ما أعددتُ لها كبيرَ عَمل إلاّ أني أحب الله ورسوله فقال أنتَ مع مَن أحببت » .
وعلْمُ الساعة هو علم تحديد وقتها كما يُنبىء عنه السؤال ، وقوله : { لا يُجليها لوقتها إلاّ هو } ، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أيْ علْم وقتها ، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وظرفية ( عند ) مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها .
والحصر حقيقي : لأنه الأصل ، ولما دل عليه توكيده بعَد في قوله : { قل إنما علمها عند الله } ، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة ، لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى .
والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماءٌ إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسؤول ففيه إيماء إلى خطإهم وإلى شبهة خطإهم .
و ( التجلية ) الكشف ، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين ، والكشفَ بالإيقاع ، وكلاهما منفيُ الإسناد عن غير الله تعالى ، فهو الذي يعلم وقْتها ، وهو الذي يُظهرها إذا أراد ، فإذا أظهرها فقد أجلاها .
واللام في قوله : { لوقتها } للتوقيت كالتي في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] .
ومعنى التوقيت ، قريب من معنى ( عندَ ) ، والتحقيقُ : أن معناه ناشىء عن معنى لام الاختصاص .
ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء ، وهو الإظهار ، لأنه الذي إذا حصل تَم كشف أمرها ، وتحقق الناسُ أن القادر على إجلائها كان عالماً بوقت حلولها .
وفصلت جملة : { لا يجليها لوقتها إلاّ هو } لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير .
وقدم المجرور وهو { لوقتها } على فاعل { يجليها } الواقع استثناء مفرغاً للاهتمام به تنبيهاً على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة .
وجملة : { ثقلت في السماوات والأرض } معترضة لقصد الإفادة بهولها ، والإيماء إلى حكمة إخفائها .
وفعل { ثقلت } يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة ، أمرها كقوله : { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } .
ويجوز أن يكون تعجيباً بصيغة فعُل بضم العين فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب ، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل ، فيكون من قبيل قوله : { كُبرت كلمة تخرُج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] .
والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكِبَر ، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيّل لمن خلت به أنه حامل شيئاً ثقيلاً ، ومنه قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] أي شديداً تلقيه وهو القرآن ، ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث ، فوصفها بذلك مجاز عقلي ، والقرينة واضحة ، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفاً للزمان ، ولكنه وصف للأحداث ، فإذا أسند إلى الزمان ، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفاً للأحداث ، كقوله : { وقالَ هذا يومٌ عَصيبٌ } [ هود : 77 ] .
وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض ، من تصادم الكواكب ، وانخرَام سيرها ، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين ، والبحار ، وجفاف المياه ، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي مكان عليه سير العالم ، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات .
ومن بديع الإيجاز تعدية فعل { ثَقُلَت } بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل ، وحذفُ ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف ( إلى ) الذي يدل على ما يقع عليه الفعل ، ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عملية عملية الثقل بمعنى الشدة .
وجملة : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة ، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلاّ لله ، وبأن الله غيرُ مُظهره لأحد ، فدل قوله : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاءٌ متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال ، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سُؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة ، لأن تلك الأمارات ممتدةُ الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها .
و« البغتة » مصدر على زنة المرّة من البغْت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له ، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً } في سورة الأنعام ( 31 ) .
وجملة : { يسألونك كأنك حفي عنها } مؤكدة لجملة : { يسألونك عن الساعة } ومبينة لكيفية سؤالهم فلذيْنك فُصلت .
وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى .
و { حَفي } فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقاً من حَفي به ، مثل غَنيِ فهو غَني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفاً ، ويكون المعنى كأنك أكثرتَ السؤال عن وقتها حتى علمته ، فيكون وصف حَفي كناية عن العالم بالشيء ، لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسؤول عنه ، وبهذا المعنى فسر في « الكشاف » فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم ، لأن السؤال سبب العلم ، كقول السموْأل أوْ عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما :
سَلي إنَ جهلت الناسَ عنا وعنهم *** فليسَ سواءً عَالم وجَهُول
طُلْقت إنَ لم تسألي أي فارس *** حَليلُك إذْ لاقى صُداء وخثْعها
وقول أُنَيْفٍ بن زَبّانَ النبهاني :
فلما التقيْنا بيْنَ السيفُ بيننا *** لسائلةٍ عنّا حَفِيٌّ سؤالها
ويجوز أن يكون مشتقاً من أحفاه إذا ألح عليه في فعل ، فيكون فعيلاً بمعنى مُفعل مثل حَكيم ، أي كأنك مُلح في السؤال عنها ، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله تعالى : { إنْ يسألكموها فيُحْفكم تبخلوا } [ محمد : 37 ] .
وقوله : { كأنك حفي } حال من ضمير المخاطب في قوله : { يسألونك } معترضة بين { يسألونك } ومتعلقه .
ويتعلق قوله : { عنها } على الوجهين بكل من { يسألونك } و { حفيّ } على نحو من التنازع في التعليق .
ويجوز أن يكون { حفيّ } مشتقاً من حَفي به ، كرضي بمعنى بَالغ في الإكرام ، فيكون مستعملاً في صريح معناه ، والتقدير : كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكماً بالمشركين ، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة ، روي عن ابن عباس : كأنك صديق لهم ، وقال قتادة : قالت قريش لمحمد : إن بيننا قرابة فأسِرَّ إليْنا متى الساعة فقال الله تعالى : { يسألونك كأنك حَفي عنها } وعلى هذا الوجه يتعلق { عنها } ب { يسألونك } وحذف متعلق { حفي } لظهوره .
وبهذا تعلم أن تأخير { عنها } للإيفاء بهذه الاعتبارات .
وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة ، إذ لا فائدة له في ذلك ، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلباً لإبطال الحكمة في إخفائها ، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالاً نفسياً يصرفه عن تطلب ذلك ، ولو تطلبه لأعْلمه الله به ، كما صرف موسى عليه السلام عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره ، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده .
وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله : { قل إنما علمها عند الله } تأكيداً لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله : { إنما علمها عند ربي } حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله : { قل إنما علمها عند الله } تأكيداً لكونه حصراً حقيقياً ، وإبطالاً لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول ، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة ، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة ، فإنها تتوهم الحقائق على غيْر ما هي عليه ، وتوقن بما يخيل إليها ، وتجعله أصولاً تبني عليها معارفها ومعاملاتها ، وتجعلها حَكماً في الأمور إثباتاً ونفياً ، وهذا فرط ضلالة ، وإنه لَضغْث على إبَالة بتشديد الباء وتخفيفها ، وقد حكي التاريخ القديم شاهداً مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن ( بُخْتَنَصَّر ) ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها ، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم ، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلاّ الآلهة ، غضب ، واغتاظ ، وأمر بقتلهم ، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في ( بابل ) وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه ، ثم بتعبيرها ، وأن دانيال استنظره مدة ، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه ( عزريا ) و ( ميشاييل ) و ( حننيا ) فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل ، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رءاه الملك فأخبر دانيالُ الملكَ بذلك ، ثم عبر له ، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال .