وبعد استعراض مشهد الميثاق الكوني بالتوحيد ؛ واستعراض مثل المنحرف عن هذا الميثاق وعن آيات الله بعد إذ آتاه الله إياها . . يعقب بالتوجيه الآمر بإهمال المنحرفين - الذين كانوا يتمثلون في المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام بالشرك - الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها ، فيسمون بها الشركاء المزعومين :
( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يعملون ) .
والإلحاد هو الإنحراف أو التحريف . . وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى ، فسموا بها آلهتهم المدعاة . . حرفوا اسم( الله )فسموا به " اللات " . واسم( العزيز )فسموا به " العزى " . . فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده . وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها ، دون تحريف ولا ميل ؛ وأن يدعوا المحرفين المنحرفين ؛ فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد . فأمرهم موكول إلى الله ؛ وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه . . وياله من وعيد ! . .
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله ؛ لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية ، ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة . . إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره . . ينسحب على الذين يلحدون - أي يحرفون أو ينحرفون - في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق . كالذين يدّعون له الولد . وكالذين يدّعون أن مشيئته - سبحانه - مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية ! وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر - وهو سبحانه ليس كمثله شيء - وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء ، وفي تصريف نظام الكون ، وفي حساب الناس في الآخرة . ولكنه ليس إلهاً في الأرض ، ولا في حياة الناس ، فليس له - في زعمهم - أن يشرع لحياة الناس ؛ إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم - كما يرونها هم - فالناس - في هذا - هم آلهة أنفسهم . أو بعضهم آلهة بعض ! . . وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته . . والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله ؛ والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون !
عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عنه{[12418]} رواه البخاري ، عن أبى اليمان ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد به{[12419]} وأخرجه الترمذي ، عن الجوزجاني ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن شعيب فذكر بسنده مثله ، وزاد بعد قوله : " يحب الوتر " : هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفوّ ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور{[12420]}
ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[12421]} ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث .
ورواه ابن حبان في صحيحه ، من طريق صفوان ، به{[12422]} وقد رواه ابن ماجه في سننه ، من طريق آخر{[12423]} عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة مرفوعا{[12424]} فسرد الأسماء كنحو ما تقدم بزيادة ونقصان .
والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه ، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد : أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك ، أي : أنهم جمعوها من القرآن كما رود{[12425]} عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي ، والله أعلم .
ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين{[12426]} بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، عن يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرزوق ، عن أبي سلمة الجهني ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أعلمته{[12427]} أحدًا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا " . فقيل : يا رسول الله ، أفلا نتعلمها ؟ فقال : " بلى ، ينبغي لكل من سمعها{[12428]} أن يتعلمها " .
وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله{[12429]}
وذكر الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه : " الأحوذي في شرح الترمذي " ؛ أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم ، فالله أعلم .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قال : إلحاد الملحدين : أن دعوا " اللات{[12430]} في أسماء الله .
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قال : اشتقوا " اللات " من الله ، واشتقوا " العزى " من العزيز .
وقال قتادة : { يُلْحِدُونَ } يشركون . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الإلحاد : التكذيب . وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدل عن القصد ، والميل والجور والانحراف ، ومنه اللحد في القبر ، لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر .
هذا خطاب للمسلمين ، فتوسطه في خلال مذام المشركين ؛ لمناسبة أن أفظع أحوال المعدودين لجنهم هو حال إشراكهم بالله غيره ، لأن في ذلك إبطالاً لأخص الصفات بمعنى الإلهية : وهي صفة الوحدانية وما في معناها من الصفات نحو الفرد ، الصمد . وينضوي تحت الشرك تعطيل صفات كثيرة مثل : الباعث ، الحسيب ، والمُعيد ، ونشأ عن عناد أهل الشرك إنكار صفة الرحمن .
فعقبت الآيات التي وصفت ضلال إشراكهم بتنبيه المسلمين للاقبال على دعاء الله بأسمائه الدالة على عظيم صفات الإلهية ، والدوام على ذلك ، وأن يُعرضوا عن شغب المشركين وجدالهم في أسماء الله تعالى .
وقد كان من جملة ما يتورك به المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، أن أنكروا اسمه تعالى الرحمن ، وهو إنكار لم يقدمهم عليه جهلهم بأن الله موصوف بما يدل عليه وصف ( رحمان ) من شدة الرحمة ، وإنما أقدمهم عليه ما يقدم كل معاند من تطلب التغليظ والتخطئة للمخالف ، ولو فيما يعرف أنه حق ، وذكر ابن عطية ، وغيره . أنه روي في سبب نزول قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ، ومرة يقرأ فيذكر الرحمان فقال أبو جهل « محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة » فنزلت هذه الآية .
فعطفُ هذه الآية على التي قبلها عطفُ الإخبار عن أحوال المشركين وضلالهم ، والغرض منها قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } .
وتقديم المجرور المسند على المسند إليه ؛ لمجرد الاهتمام المفيد تأكيد استحقاقه إياها ، المستفاد من اللام ، والمعنى أن اتسامه بها أمر ثابت ، وذلك تمهيد لقوله : { فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } ، وقد التزم مثل هذا التقديم في جميع الآي التي في هذا الغرض مثل قوله في سورة الإسراء ( 110 ) { فله الأسماء الحسنى } وسورة طه ( 8 ) { له الأسماء الحسنى } وفي سورة الحشر ( 24 ) { له الأسماء الحسنى } وكل ذلك تأكيد للرد على المشركين أن يكون بعض الأسماء الواردة في القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أسماء لله تعالى بتخييلهم أن تعدد الاسم تعدد للمسمى تمويهاً على الدهماء .
والأسماء هي الألفاظ المجعولة أعلاماً على الذات بالتخصيص أو بالغلبة فاسم الجلالة وهو ( الله ) علم على ذات الإله الحق بالتخصيص ، شأن الأعلام ، و ( الرحمن ) و ( الرحيم ) اسمان لله بالغلبة ، وكذلك كل لفظ مفرد دل على صفة من صفات الله ، وأطلق إطلاق الأعلام نحو الرب ، والخالق ، والعزيز ، والحكيم ، والغفور ، ولا يدخل في هذا ما كان مركّباً إضافياً نحو : ذو الجلال ، ورب العرش ، فإن ذلك بالأوصاف أشبه ، وإن كان دالاً على معنى لا يليق إلا بالله نحو : { مَلك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
والحسنى مؤنث الأحسن ، وهو المتصف بالحسن الكامل في ذاته ، المقبول لدى العقول السليمة المجردة عن الهوى ، وليس المراد بالحسن الملاءمةَ لجميع الناس ، لأن الملاءمة وصف إضافة نسبي ، فقد يلائم زيداً ما لا يلائم عمراً ، فلذلك فالحسنُ صفة ذاتية للشيء الحسن .
ووصف الأسماء ب { الحسنى } : لأنها دالة على ثبوت صفات كمال حقيقي ، أما بعضها فلأن معانيها الكاملة لم تثبت إلا لله نحو الحي ، والعزيز ، والحكيم ، والغني ، وأما البعض الآخر فلأن معانيها مطلقاً لا يحسن الاتصاف بها إلا في جانب الله نحو المتكبر ، والجبّار ، لأن معاني هذه الصفات وأشباهها كانت نقصاً في المخلوق من حيث أن المتسم بها لم يكن مستحقاً لها لعجزه أو لحاجته ، بخلاف الإله ، لأنه الغني المُطلق ، فكان اتصافُ المخلوق بها منشأ فساد في الأرض ، وكان اتصاف الخالق بها منشأ صلاح ، لأنها مصدر العدالة والجزاء القسطِ .
والتفريع في قوله : { فادعوه بها } تفريع عن كونها أسماء له ، وعن كونها حسنى ، أي فلا حرج في دعائه بها ؛ لأنها أسماء متعددة لمسمى واحد ، لا كما يزعم المشركون ، ولأنها حسنى فلا ضير في دعاء الله تعالى بها . وذلك يشير إلى أن الله يُدعى بكل ما دل على صفاته وعلى أفعاله .
وقد دلت الآية على أن كل ما دل على صفة الله تعالى وشأن من شؤونه على وجه التقريب للأفهام بحسب المعتاد يسوغ أن يُطلق منه اسم لله تعالى ما لم يكن مجيئه على وجه المجاز نحو { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] أو يُوهم معنى نقص في متعارف الناس نحو الماكر من قوله : { واللَّه خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
وليست أسماء الله الحسنى منحصرة في التسعه والتسعين الواردة في الحديث الصحيح عن الأعرج ، وعن أبي رافع ، وعن همام بن منبه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين أسماً مَن أحصاها دخل الجنة " لأن الحديث الصحيح ليس فيه ما يقتضي حصر الأسماء في ذلك العدد ، ولكن تلك الأسماءَ ذات العدد لها تلك المزية ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال يا حنّان يا منّان ولم يقع هذان الاسمان فيما روي من التسعة والتسعين ، وليس في الحديث المروي بأسانيد صحية مشهورة تعيين الأسماء التسعة والتسعين ، ووقع في « جامع الترمذي » من رواية شعيب بن أبي حمزة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة بعد قوله : « دخل الجنة » هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمان الرحيم إلى آخرها ، فعيّن صفات لله تعالى تسعاً وتسعين ، وهي المشهورة بين الذين تصدوا لبيانها ، قال الترمذي : « هذا حديث غريب حدَثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث ، ولا نعلم في شيء من الروايات لها إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث » .
وتعيين هذه الأسماء لا يقتضي أكثر من أن مزيتها أن مَن أحصاها وحفظها دخل الجنة ، فلا يمنع أن تُعد لله أسماء أخرى . وقد عد ابن بَرّحان الإشبيلي في كتابه « أسماء الله الحسنى » مائة واثنتين وثلاثين اسماً مستخرجة من القرآن والأحاديث المقبولة ، وذكر القرطبي : أن له كتاباً سماه « الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » ذكر فيه من الأسماء ما يُنيف على مائتي اسم ، وذكر أيضاً أن أبا بكر بن العربي ذكر عدة من أسمائه تعالى مثل مُتمّ نوره ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، ورابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، والطيب ، والمعلم إلخ .
ولا تخفى سماجة عد نحو رَابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، فإنها وردت في القرآن في سياق المجاز الواضح ولا مناص من تحكيم الذوق السليم ، وليس مجردَ الوقوف عند صورة ظاهرة من اللفظ ، وذكر ابن كثير في « تفسيره » عن كتاب « الأحوذي في شرح الترمذي » لعله يعني « عارضة الأحوذي » « أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم » ولم أجده في نسخ « عارضة الأحواذي » لابن العربي ، ولا ذكره القرطبي وهو من خاصة تلاميذ ابن العربي ، والموجود في كتاب « أحكام القرآن » له أنه حضره منها مائة وستة وأربعون اسماً وساقها في كتاب « الأحكام » ، وسقط واحد منها في المطبوعة ، وذكر أنه أبلغها في كتابه « الآمد » ( أي « الامد الأقصى » ) في شرح الأسماء إلى مائة وستة وسبعين اسماً .
قال ابن عطية : واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ، ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يَرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به ، فنصُ الباقلاني على جواز ذلك ، ونص أبي الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاءُ والجمهور على المنع ، والصواب : أن لا يُسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ، وأن يكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه ، إلا الأقل من أهل العلوم ، فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان ، فادخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً . واختلف في الأفعال التي في القرآن نحو { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] و { مكر اللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ونحو ذلك هل يطلق منها اسم الفاعل ، فقالت فرقة : لا يُطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيّداً بسببه نحو : اللَّهَ ماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً .
والمراد من ترك { الذين يُلحدون في أسمائه } الإمساكُ عن الاسترسال في محاجتهم لظهور أنهم غير قاصدين معرفة الحق ، أو تركُ الإصغاء لكلامهم ؛ لئلا يفتنوا عامة المؤمنين بشبهاتهم ، أي اتركوهم ولا تُغلّبوا أنفسكم في مجادلتهم ، فإني سأجْزيهم وقد تقدم معنى « ذر » عند قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .
والإلحاد : الميل عن وسط الشيء إلى جانبه ، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها ، ولما كان وسط الشيء يشبّه به الحق والصواب ، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد ، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد ، ويُعدى حينئذ ب ( في ) لتنزيل المجرور بها منزلة المكان للإلحاد ، والأكثر أن يكون ذلك عن تعمد للإفساد ، ويقال : لحَد وألحد ، والأشهر ألحد .
وقرأ من عدا حمزة { يُلحدون } بضم الياء وكسر الحاء من ألحد المهموز ، وقرأه حمزة وحده : بفتح الياء والحاء ، من لحد المجرد .
وإضافة الأسماء إلى الله تؤذن بأن المقصود أسماؤه التي ورد في الشرع ما يقتضي تسميته بها .
ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهراً من مظاهر الكفر ، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له ، وهو الأحق بكمال مدلولها فإنهم أنكروا الرحمان ، كما تقدم ، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ، ولمز النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة ، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال ، فحُق بأن يُسمى إلحاداً ؛ لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد .
وهذا يناسب أن يكون حرف ( في ) من قوله : { في أسمائه } مستعملاً في معنى التعليل كقول النبي صلى الله عليه وسلم « دَخلتْ امرأة النار في هرة » الحديث ، وقول عُمر بن أبي ربيعة :
وعصيْتُ فيك أقاربي فتقطعت *** بيني وبينهم عُرى أسبابي
وقد جوّز المفسرون احتمالات أخرى في معنى الإلحاد في أسمائه : منها ثلاثة ذكرها الفخر ، وأنا لا أراها مُلاقية لإضافة الأسماء إلى ضميره تعالى ، كما لا يخفى عن الناظر فيها .
وجملة : { سيُجْزون ما كانوا يعملون } تتنزل منزلة التعليل للأمر بترك الملحدين ، فلذلك فصلت ، أي لا تهتموا بإلحادهم ولا تحزنوا له ، لأن الله سيجزيهم بسوء صنيعهم ، وسمي إلحادهم عملاً ؛ لأنه من أعمال قلوبهم وألسنتهم .
و ( ما ) موصولة عامة أي سيجزون بجميع ما يعملونه من الكفر ، ومن جملة ذلك إلحادهم في أسمائه .
والسين للاستقبال ، وهي تفيد تأكيد .
وقيل : { ما كانوا يعملون } دون ما عملوا أو ما يعملون للدلالة على أن ذلك العمل سنة لهم ومتجدد منهم .