إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع . . إنها الكعبة الحرام ، والأشهر الحرام ، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الأحياء من جميع الأنواع والأجناس . . بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات . . فتحل الطمأنينة محل الخوف ، ويحل السلام محل الخصام ، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام . وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي - لا في عالم المثل والنظريات - على هذه المشاعر وهذه المعاني ؛ فلا تبقى مجرد كلمات مجنحة ورؤى حالمة ، تعز على التحقيق في واقع الحياة :
( جعل الله الكعبة البيت الحرام ، قياما للناس ، والشهر الحرام ، والهدي والقلائد . ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . اعلموا أن الله شديد العقاب ، وأن الله غفور رحيم ، ما على الرسول إلا البلاغ ؛ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . .
لقد جعل الله هذه الحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام ، وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم . كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب . . ولقد ألقى الله في قلوب العرب - حتى في جاهليتهم - حرمة هذه الأشهر . فكانوا لا يروعون فيها نفسا ، ولا يطلبون فيها دما ، ولا يتوقعون فيها ثأرا ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه ، فكانت مجالا آمنا للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق . . جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة - بيت الله الحرام - أن تكون مثابة أمن وسلام . تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع . كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منظقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان . ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان ، فجعله حقا للهدي - وهو النعم - الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة ؛ فلا يمسه أحد في الطريق بسوء . كما جعله لمن يتقلد من شجر الحرم ، معلنا احتماءه بالبيت العتيق .
لقد جعل الله هذه الحرمات منذ بناء هذا البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل ؛ وجعله مثابة للناس وأمنا ، حتى لقد امتن الله به على المشركين أنفسهم ؛ إذ كان بيت الله بينهم مثابة لهم وأمنا ، والناس من حولهم يتخطفون ، وهم فيه وبه آمنون ، ثم هم - بعد ذلك - لا يشكرون الله ؛ ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد ؛ ويقولون للرسول [ ص ] إذ يدعوهم إلى التوحيد : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . فحكى الله قولهم هذا وجبههم بحقيقة الأمن والمخافة : ( وقالوا : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون )
وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ ص ] يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرام ، لا يعضد شجرة ، ولا يختلى خلاه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف " .
ولم يستثن من الأحياء مما يجوز قتله في الحرم وللمحرم إلا الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : " أمر رسول الله [ ص ] بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " . .
" وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - زيادة الحية . "
كذلك حرمت المدينة لحديث علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور " . . وفي الصحيحين من حديث عباد بن تميم أن رسول الله [ ص ] قال :
إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة .
وبعد ، فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما . وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما . . إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري . . ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية . . هذا المصطرع الذي يثور ويفور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان ، وعلى الإنسان والحيوان ! . . إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع ، حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان . وهما - في غير هذه المنطقة - حل للإنسان . ولكنهما هنا في المثابة الآمنة . في الفترة الآمنة . في النفس الآمنة . . إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملأ الأعلى ؛ وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى . .
ألا ما أحوج البشرية المفزعة الوجلة ، المتطاحنة المتصارعة . . إلى منطقة الأمان ، التي جعلها الله للناس في هذا الدين ، وبينها للناس في هذا القرآن ! ( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الله بكل شيء عليم ) . .
تعقيب عجيب في هذا الموضع ؛ ولكنه مفهوم ! إن الله يشرع هذه الشريعة ، ويقيم هذه المثابة ، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . . ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم وهتاف أرواحهم . وأنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات ، والاستجابة للأشواق والمكنونات . . فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته ؛ وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شيء عليم .
إن هذا الدين عجيب في توافيه الكامل مع ضرورات الفطرة البشرية وأشواقها جميعا ؛ وفي تلبيته لحاجات الحياة البشرية جميعا . . إن تصميمه يطابق تصميمها ؛ وتكوينه يطابق تكوينها . وحين ينشرح صدر لهذا الدين فإنه يجد فيه من الجمال والتجاوب والأنس والراحة ما لا يعرفه إلا من ذاق !
ثم ذَّكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل ، ذكر تعالى في قوله تعالى : { جعل الله } الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي » قوام و «القلائد » قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم ، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها ، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه ، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس ، فرآه النبي ، قال : هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة ، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه ، وقال : ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم{[4733]} .
و[ جعل ] في هذه الآية بمعنى صير ، والكعبة بيت مكة ، وسمي كعبة لتربيعه ، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة ، ومنه قول الأسود بن يعفر :
أهل الخورنق والسدير وبارق *** والبيت ذي الكعبات من سنداد{[4734]}
قالوا : كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية ، وقال قوم : سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض ، ومنه كعب ثدي الجارية ، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة ، و { قياماً } معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم ، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها ، وقد يستعمل القوام على الأصل ، قال الراجز :
قوام دنيا وقوام دين . . . وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى { قياماً للناس } أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام ، ومع الهدي والقلائد ، وقرأ ابن عامر وحده «قيماً » دون ألف ، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه ، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله ، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد ، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها ، ويحتمل «قيماً » أن تحذف الألف وهي مرادة ، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير َسَعة ، وقرأ الجحدري «قيِّماً » بفتح القاف وشد الياء المكسورة .
{ والشهر } هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب ، وشهر مضر{[4735]} وهو رجب الأصم ، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد ، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح ، وهو شهر قريش ، وله يقول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا *** إذا سيقت مدرجها الدماء{[4736]}
وسماه النبي عليه السلام شهر الله أي شهر آل الله ، وكان يقال لأهل الحرم آل الله ، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه{[4737]} وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه ، وأما { الهدي } فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما { القلائد } فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئاً فكان ذلك أماناً له ، وكان الأمر في نفوسهم عظيماً مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئاً خوفاً من الله ، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم ، وقوله تعالى : { للناس } لفظ عام ، وقال بعض المفسرين أراد العرب .
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه لهذا التخصيص ، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً ، ثم شدد ذلك بالإسلام ، وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياماً ، والمعنى َفَعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وقوله تعالى : { بكل شيء عليم } عام عموماً تاماً في الجزئيات ودقائق الموجودات ، كما قال عز وجل { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها }{[4738]} والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر .
استئناف بياني لأنّه يحصل به جواب عمّا يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام ، بأنّ ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حُرّمت أرضُ الحرم لأجل تعظيمها ، وتذكيرٌ بنعمة الله على سكّانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها .
والجعل يطلق بمعنى الإيجاد ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كما في قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ، في سورة الأنعام ( 1 ) ، ويطلق بمعنى التصيير فتعدّى إلى مفعولين ، وكلا المعنيين صالح هنا . والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة ، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياماً للناس . فقوله : { قياماً } منصوب على الحال ، وهي حال مقدّرة ، أي أوجدها مقدّراً أن تكون قياماً . وإذا حمل { جعل } على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيتَ عبادة فصيّرها الله قياماً للناس لطفاً بأهلها ونسلهم ، فيكون { قياماً } مفعولاً ثانياً ل { جعل } . وأمّا قوله : { البيت الحرام } يصحّ جعله مفعولاً .
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { إنّ أوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكة } في سورة آل عمران ( 96 ) . قالوا : إنّه علم مشتقّ من الكَعَب ، وهو النتوء والبروز ، وذلك محتمل . ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة ، تشبيهاً بالبيت الحرام ، إذ كان أول بيت عندهم ، وكانوا من قبله أهل خيام ، فصار البيت مثلاً يمثّل به كلّ بارز . وأمّا إطلاق الكعبة على ( القليس ) الذي بناه الحبشة في صنعاء ، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية ، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله :
فَكعْبَةُ نَجرَان حَتْم عليكِ *** حتى تُناخي بأبوابها
فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه ، كما سمّى بنو حنيفة مسَليمة رحمان .
وقوله : { البيت الحرام } بيان للكعبة . قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم ، إذ شأن البيان أن يكون موضّحاً للمبيّن بأن يكون أشهر من المبيّن . ولمّا كان اسم الكعبة مساوياً للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبّر به عن الكعبة في قوله تعالى : { ولا آمِّين البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] فتعيّن أنّ ذكر البيان للتعظيم ، فإنّ البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك . ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب . وذكر البيت هنا لأنّ هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علماً بالغلبة على الكعبة .
والحرام في الأصل مصدر حَرُم إذا مُنِع ، ومصدره الحرام ، كالصلاح من صلُح ، فوصف شيء بحرام مبَالغة في كونه ممنوعاً . ومعنى وصف البيت بالحرام أنّه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة . وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه ، وقد تقدّم أنّه يقال رجل حرام عند قوله تعالى : { غير محلّي الصيد وأنتم حُرُم } في هذه السورة ( 1 ) ، وأنّه يقال : شهر حرام ، عند قوله تعالى :
{ ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] فيها أيضاً ، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه ، وهو في كلّ موصوف يدلّ على أنّه ممّا يتجنّب جانبه ، فيكون تجنّبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك ، فيكون وصفَ مدح ، ويكون تجنّبه للتنزّه عنه فيكون وصف ذمّ ، كما تقول : الخمر حرام .
وقرأ الجمهور { قياماً } بألف بعد الياء . وقرأه ابن عامر { قيماً } بدون ألف بعد الياء .
والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقلّ على رجليه ، ويستعار للنشاط ، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح ، لأنّ شأن من يعمل عملاً مهمّاً أن ينهض له ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة ( 3 ) . ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره : هو قيّم عليه أو قائم عليه ، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع . وأمّا قراءة ابن عامر { قيما } فهو مصدر ( قام ) على وزن فِعَل بكسر ففتح مثل شِبَع . وقد تقدّم أنّه أحد تأويلين في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما } في سورة النساء . وإنّما أعلّت واوه فصارت ياء لشدّة مناسبة الياء للكسرة . وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فِعَل من الواوي العين . وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، وهو إسناد مجازي ، لأنّ الكعبة لمّا جعلها الله سبباً في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم ، جُعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنّها سبب القيام لهم .
والناس هنا ناس معهودون ، فالتعريف للعهد . والمراد بهم العرب ، لأنّهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم . وأمّا ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السّكان لا لكون البيت حراماً ، إلاّ إذا أريد التسبّب البعيد ، وهو أنّه لولا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحجّ لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك .
وإنّما كانت الكعبة قياماً للناس لأنّ الله لمّا أمر إبراهيم بأن يُنزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل ، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة ( وهم ذرية إسماعيل ) في ذلك المكان لينشأوا أمّة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب ، لأنّه قدّر أن تكون تلك الأمّة هي أول من يتلقّى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها ، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحقّ والأخلاق الفاضلة . فأقام لهم بلداً بعيداً عن التعلّق بزخارف الحياة ؛ فنشأوا على إباء الضيم ، وتلقّوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه ؛ وأقام لهم فيه الكعبة معلماً لتوحيد الله تعالى ، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه حرمته .
ودعا مجاوريهم إلى حجّه ما استطاعوا ، وسخّر الناس لإجابة تلك الدعوة ، فصار وجود الكعبة عائداً على سكان بلدها بفوائد التأنّس بالوافدين ، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق ، وبما يجلب التجّار في أوقات وفود الناس إليه ؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء . وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفاناً . وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله : { ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون } [ إبراهيم : 37 ] . فكانت الكعبة قياماً لهم يقوم به أوَد معاشهم . وهذا قيام خاصّ بأهله .
ثم انتشرت ذرّية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهِلت بلاد العرب . وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم ؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يَحدُث بين الأمّة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني ، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة ، وهو رجب الذي سنَّتْهُ مُضَرُ ( وهم معظم ذرية إسماعيل ) وتبعهم معظم العرب . وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إيّاهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائداً بينهم مدة ثلث العام ، يصلحون فيها شؤونهم ، ويستبقون نفوسهم ، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم ، فيما نجم من تِراتٍ وإحَنٍ . فهذا من قيام الكعبة لهم ، لأنّ الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة .
وقد جعل إبراهيم للكعبة مكاناً متّسعاً شاسعاً يحيط بها من جوانبها أميالاً كثيرة ، وهو الحرم ، فكان الداخل فيه آمناً . قال تعالى : { أوَ لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطَّف الناس مِنْ حولهم } [ العنكبوت : 67 ] . فكان ذلك أمناً مستمراً لسكّان مكة وحرمها ، وأمناً يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذاً ، ولتحقيق أمنه أمَّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس ، فكانت الكعبة قياماً لكلّ عربي إذا طرقه ضيم .
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء ، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب ، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه ، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد ، فلتعطّلت التجارة والمنافع . ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار ، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللَّتين قال الله تعالى فيهما : { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } [ قريش : 1 ، 2 ] . وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها ، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وحملِها إلى الأمم ، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده .
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل : إنّ الكعبة كانت قياماً للناس وهم العرب ، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية ، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها .
فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال ، وبه تكفّر الذنوب ، فكانت الكعبة من هذا قياماً للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياماً .
وعَطْفُ { الشهرَ الحرامَ } على { الكعبةَ } شبْه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها ، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلاّ من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت . فالتعريف في { الشهر } للجنس كما تقدّم في قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] . ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر . وكذلك عطف { الهدي } و { القلائد } . وكون الهدي قياماً للناس ظاهر ، لأنّه ينتفع ببيعه للحاج أصحابُ المواشي من العرب ، وينتفع بلحومه من الحاج فقراءُ العرب ، فهو قيام لهم .
وكذلك القلائد فإنّهم ينتفعون بها ؛ فيتّخذون من ظفائرها مادّة عظيمة للغزل والنسج ، فتلك قيام لفقرائهم ، ووجه تخصيصها بالذكر هنا ، وإن كانت هي من أقلّ آثار الحج ، التنبيهُ على أنّ جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس ، حتى أدنى العلائق ، وهو القلائد ، فكيف بما عداها من جِلال البدْن ونعالها وكسوة الكعبة ، ولأنّ القلائد أيضاً لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجِلال والنعال . ونظير هذا قول أبي بكر « والله لو منعوني عِقالاً » إلخ . . .
وقوله : { ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } الآية ، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله { لتعلموا } . وتوسّط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار إليه ، وهو الجعل المأخوذ من قوله : { جعل الله الكعبة } ، فتوسّط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسّط ضمير الفصل ، فلذلك كان الكلام شبيهاً بالمستأنف وما هو بمستأنف ، لأنّ ماصْدَقَ اسم الإشارة هو الكلام السابق ، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق ، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غير التعليل ، والتعليل اتّصال وليس باستئناف ، لأنّ الاستئناف انفصال . وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلّق به لام التعليل إلاّ قوله { جعل } . وليست الإشارة إلاّ للجعل المأخوذ من قوله { جعل } .
والمعنى : جعل الله الكعبة قياماً للناس لتعلموا أن الله يعلم الخ . . ، أي أنّ من الحكمة التي جعل الكعبة قياماً للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم . فَجَعْل الكعبة قياماً مقصود منه صلاح الناس بادىء ذي بدء لأنّه المجعولة عليه ، ثم مقصود منه عِلم الناس بأنّه تعالى عليم . وقد تكون فيه حكم أخرى لأنّ لام العلّة لا تدلّ على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدّد العلل للفعل الواحد ، لأنّ هذه علل جعلية لا إيجادية ، وإنّما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدّة الاهتمام بها ، لأنّها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمّة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك .
فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياماً لأجلها .
والمقصود أنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض قبل وقوعه لأنّه جعل التعليل متعلّقاً بجعل الكعبة وما تبعها قياماً للناس . وقد كان قيامها للناس حاصلاً بعد وقت جعلها بمدّة ، وقد حصل بعضُه يتلُو بعضاً في أزمنة متراخية كما هو واضح . وأمّا كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنّه أولى ، ولأنّ كثيراً من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها .
ووجه دلالة جَعْل الكعبة قياماً للناس وما عطف عليها ، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، أنّه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم ، فلم يدر أحد يومئذٍ إلاّ أنّ إبراهيم اتّخذها مسجداً ، ومكة يومئذٍ قليلة السكّان ، ثم إنّ الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين إليها ، ووقّت للناس أشهراً القصد فيها ، وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضارّ كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة ، كما بيّنّاه آنفاً . فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام . فلا شك أنّ الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمّة كبيرة ، وأن ستحمد تلك الأمّة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها . وكان ذلك تمهيداً لما علمه مِن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ، وجعلِهم حملة شريعته إلى الأمم ، وما عقب ذلك من عِظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام . ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة ، أو بالترفّع عن النقص فلا جرم أن يكون عالماً بما في السماوات ، لأنّ السموات إمّا أن تكون مساوية للأرض في أنّه تعالى ليس بمستقرّ فيها ، ولا هي أقرب إليه من الأرض ، كما هو الاعتقاد الخاصّ ، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة ؛ وإمّا أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم ، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض ، لأنّها أقرب إليه وهو بها أعني ، فيتمّ الاستدلال للفريقين .
وأمّا دلالة ذلك على أنّه بكلّ شيء عليم فلأنّ فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرّر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعاً من المعلومات جليلة ودقيقة ؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة ، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها ، فيكون ذلك الجهل معطّلاً لعلمه بكثير ممّا يتوقّف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياماً وما نشأ عن ذلك إلاّ عن عموم علمه بالأشياء ولولا عمومه ما تمّ تدبير ذلك المقدّر .