يئس إخوة يوسف من محاولة تخليص أخيهم الصغير ، فانصرفوا من عنده ، وعقدوا مجلسا يتشاورون فيه . وهم هنا في هذا المشهد يتناجون . والسياق لا يذكر أقوالهم جميعا . إنما يثبت آخرها الذي يكشف عما انتهوا إليه :
( فلما أستيأسوا منه خلصوا نجيا . قال كبيرهم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف ؟ فلن أبرح الارض حتى يأذن لي أبي ، أو يحكم الله لي ، وهو خير الحاكمين . ارجعوا إلى أبيكم فقولوا : يا أبانا إن ابنك سرق ، وما شهدنا إلا بما علمنا ، وما كنا للغيب حافظين . واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ، وإنا لصادقون ) . .
إن كبيرهم ليذكرهم بالموثق المأخوذ عليهم ، كما يذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل . ويقرن هذه إلى تلك ، ثم يرتب عليهما قراره الجازم : ألا يبرح مصر ، وألا يواجه أباه ، إلا أن يأذن له أبوه ، أو يقضي الله له بحكم ، فيخضع له وينصاع .
يخبر تعالى عن إخوة يوسف : أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين ، الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوه على ذلك ، فامتنع عليهم ذلك ، { خَلَصُوا } أي : انفردوا عن الناس { نَجِيًّا } يتناجون فيما بينهم .
{ قَالَ كَبِيرُهُمْ } وهو رُوبيل ، وقيل : يهوذا ، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله ، قال لهم : { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } لتردنَّه إليه ، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ } أي : لن أفارق هذه البلدة ، { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } في الرجوع إليه راضيًا عني ، { أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } قيل : بالسيف . وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } {[15250]} .
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع ، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه ، ويبرءوا مما وقع بقولهم .
وقوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال عكرمة وقتادة : ما [ كنا ]{[15251]} نعلم أن ابنك سرق{[15252]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق{[15253]} له شيئا ، إنما سألنا{[15254]} ما جزاء السارق ؟
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } قيل : المراد مصر . قاله قتادة ، وقيل : غيرها ، { وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : التي رافقناها ، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما أخبرناك به ، من أنه سرق وأخذوه بسرقته .
{ فلما استيأسوا منه } يئسوا من يوسف وإجابته إياهم ، وزيادة السين والتاء للمبالغة . { خلطوا } انفردوا واعتزلوا . { نجيّاً } متناجين ، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنته كما قيل هم صديق ، وجمعه أنجية كندية وأندية . { قال كبيرهم } في السن وهو روبيل ، أو في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا . { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله } عهدا وثيقا ، وأنما جعل حلفهم بالله موثوقا منه لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته . { ومن قبل } ومن قبل هذا . { ما فرّطتم في يوسف } قصرتم في شأنه ، و{ ما } مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في موضع النصب بالعطف على مفعول تعلموا ، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف ، أو على اسم { أن } وخبره في { يوسف } أو { من قبل } أو الرفع بالابتداء والخبر { من قبل } وفيه نظر ، لأن { قبل } إذا كان خبرا أو صلة لا يقطع عن الإضافة حتى لا ينقص وأن تكون موصولة أي : ما فرطتموه بمعنى ما قدمتوه في حقه من الجناية ومحله ما تقدم . { فلن أبرح الأرض } فلن أفارق أرض مصر . { حتى يأذن لي أبي } في الرجوع . { أو يحكم الله لي } أو يقضي لي بالخروج منها ، أو بخلاص أخي منهم أو بالمقابلة معهم لتخليصه . وروي : أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل : أيها الملك والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل ، ووقفت شعور جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف عليه السلام لابنه : قم إلى جنبه فسمه ، وكان بنو يعقوب عليه السلام إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه . فقال روبيل من هذا إن في هذا البلد لبزرا من برز يعقوب . { وهو خير الحاكمين } لأن حكمه لا يكون إلا بالحق .
{ استيأسوا } بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد ، ومثلها { فاستجاب له ربه } [ سورة يوسف : 34 ] { واستعصَم } .
واليأس منه : اليأس من إطلاقه أخاهم ، فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة .
وقرأ الجمهور { استيأسوا } بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف . وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب في المكان ثم إبدال الهمزة .
و { خلصوا } بمعنى اعتزلوا وانفردوا . وأصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط . ومنه قول عبد الرحمان بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في آخر حجة حجّها حيث عزم عمر رضي الله عنه على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحمة في الخلافة بغير حق ، قال عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه : « يا أمير المؤمنين إن المَوسم يجمع رَعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه . . . » إلخ .
والنجيّ : اسم من المناجاة ، وانتصابه على الحال . ولما كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى : { وإذْ هم نجوى } . والمعنى : انفردوا تناجيا . والتناجي : المحادثة سراً ، أي متناجين .
وجملة { قال كبيرهم } بدل من جملة { خلصوا نجيا } وهو بدل اشتمال ، لأن المناجاة تشتمل على أقوال كثيرة منها قَول كبيرهم هذا ، وكبيرهم هو أكبرهم سناً وهو رُوبين بِكرُ يعقوب عليه السلام .
والاستفهام في { ألم تعلموا } تقريري مستعمل في التذكير بعدم اطمئنان أبيهم بحفظهم لابنه .
وجملة { ومن قبل ما فرطتم } جملة معترضة . و { ما } مصدرية ، أي تفريطكم في يوسف عليه السلام كان من قبل المَوثق ، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من أخذ بنيامين في سرقة الصُّوَاع . وفرع عليه كبيرهم أنه يبقى في مصر ليكون بقاؤه علامة عند يعقوب عليه السلام يعرف بها صدقهم في سبب تخلف بنيامين ، إذ لا يرضى لنفسه أن يبقى غريباً لولا خوفه من أبيه ، ولا يرضى بقية أشقائه أن يكيدوا له كما يكيدون لغير الشقيق .
وقوله : { أو يحكم الله لي } ترديد بين ما رسمه هو لنفسه وبين ما عسى أن يكون الله قد قدره له مما لا قبل له بدفعه ، فحذف متعلّق { يحكم } المجرور بالباء لتنزيل فعل { يحكم } منزلة ما لا يطلب متعلقاً .
واللام للأجل ، أي يحكم الله بما فيه نفعي . والمراد بالحكم التقدير .
وجملة { وهو خير الحاكمين } تذييل . و { خير الحاكمين } إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه ، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته .
وعدم التعرّض لقول صدَر من بنيامين يدافع به عن نفسه يدل على أنه لازم السكوت لأنه كان مطلعاً على مراد يوسف عليه السلام من استبقائه عنده ، كما تقدم في قوله : { آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك } [ يوسف : 69 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما استيئسوا منه}، يقول: يئسوا من بنيامين، {خلصوا نجيا}، يعنى خلوا يتناجون بينهم على حدة، وقال بعضهم لبعض: {قال كبيرهم}، يعنى عظيمهم في أنفسهم وأعلمهم...: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله}، يعني في أمر بنيامين لنأتينَّه به، {ومن قبل} بنيامين {ما فرطتم في يوسف}، يعني ضيعتم، {فلن أبرح الأرض}، يعنى أرض مصر، {حتى يأذن لي أبي}، في الرجعة، {أو يحكم الله لي} فيرد علي بنيامين، {وهو خير الحاكمين} يعني أفضل القاضين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره:"فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ": فلما يئسوا منه من أن يخلي يوسف عن بنيامين ويأخذ منهم واحدا مكانه وأن يجيبهم إلى ما سألوه من ذلك. وقوله: "اسْتَيْأَسُوا"... من يئس الرجل من كذا ييأس... عن ابن إسحاق: "فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ": يئسوا منه ورأوا شدّته في أمره.
وقوله: "خَلَصُوا نَجِيّا "يقول بعضهم لبعض: يتناجون، لا يختلط بهم غيرهم. والنجيّ: جماعة القوم المنتجين يسمى به الواحد والجماعة... أي خلا بعضهم ببعض، ثم قالوا: ماذا ترون.
وقوله: "قالَ كَبِيرُهُمْ ألَمْ تَعْلَمُوا أنّ أباكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقا مِنَ اللّهِ "يقول: ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهود الله ومواثيقه لنأتينه به جميعا، إلاّ أن يُحاط بكم، ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف يقول: أو لم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف...
وقوله: "فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ" التي أنا بها وهي مصر فأفارقها، "حتى يَأْذَنَ لي أبي" بالخروج منها...
وقوله: "أوْ يَحْكُمَ اللّهُ" لي: أو يقضَي لي ربي بالخروج منها وترك أخي بنيامين، وإلاّ فإني غير خارج.
"وَهُوَ خَيْرُ الحاكمينَ" يقول: والله خير من حكم وأعدل من فصَل بين الناس...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أهل التأويل: (كبيرهم) في العقل، ليس في السن، وهو فلان... ولكن لا نعلم من كان قائل هذا لهم، ولا نحتاج إلى معرفة ذلك سوى أن فيه: (قال كبيرهم) إما أن كبيرهم في العقل وإما كبيرهم في السن...
(ألم تعلموا أن أباكم)... كأنه قال ذلك على التقرير والتنبيه؛ أي قد علمتم... (أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ). هذا يدل أن التأويل في قوله: (إلا أن يحاط بكم) هو أن يعمكم أمر ويجمعكم، فتهلكوا فيه جميعا وليس كما قال بعض أهل التأويل: إلا أن يجيء ما يمنعكم عن رده، إلا أن تغلبوا فتعجزوا عن رده؛ لأنه قد جاء ما يمنعهم عن رده، ثم أبى أكبرهم الرجوع إلى أبيه. دل أن التأويل هو هذا...
وأهل هذا التأويل يقولون: إن قوله: (ارجعوا إلى أبيكم) ليس على الأمر، ولكن على الخبر: إذا رجعتم (إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) وكذلك يخرج قوله: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) ليس على الأمر، ولكن على الخبر: لو سألت أهل القرية وأهل العير لأخبروك أنه كما قلنا...
وقوله تعالى: (من قبل ما فرطتم) أي من قبل ما ضيعتم أمر أبيكم في يوسف، أو ضيعتم أمر الله ووعده...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{استيأسوا}: يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم. و النجي على معنيين: يكون بمعنى المناجي، كالعشير والسمير بمعنى: المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل النجوى بمعناه. ومنه قيل: قوم نجى، كما قيل {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال: هم نجى، كما قيل: هم صديق...
ومعنى {خَلَصُواْ} اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم {نَجِيّاً} ذوي نجوى أو فوجا نجياً، أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً. وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً؛ لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه بجدّ واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أيّ صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور...
{مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} فيه وجوه: أن تكون «ما» صلة، أي: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم. وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو {مِن قَبْلُ} ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفاً على مفعول {أَلَمْ تَعْلَمُواْ} وهو {أَنَّ أَبَاكُمْ} كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين. {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} فلن أفارق أرض مصر {حتى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الانصراف إليه {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب.
{وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أو يحكم الله لي} لفظ عام بجميع ما يمكن أن يرده من القدر كالموت أو النصرة وبلوغ الأمل وغير ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أيأسهم بما قال عن إطلاق بنيامين، حكى الله تعالى ما أثمر لهم ذلك من الرأي فقال: {فلما} دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات {استيئسوا منه} أي تحول رجاءهم لتخلية سبيله لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله {خلصوا} أي انفردوا من غيرهم حال كونهم {نجياً} أي ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، من المناجاة وهي رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه في خفاء، من النجو وهو الارتفاع عن الأرض -قاله الرماني، أو تمحضوا تناجياً لإفاضتهم فيه بجد كأنهم صورة التناجي، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قال كبيرهم} في السن وهو روبيل: {ألم تعلموا} مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتد توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم {أن أباكم} أي الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه.
ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام، قال: {قد أخذ عليكم} أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر {موثقاً} ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه- كما مضى -كان كأنه منه، فقال: {من الله} أي أيمان الملك الأعظم: لتأتنه به إلا أن يحاط بكم {ومن قبل} أي قبل هذا {ما فرطتم} أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً، فإن زيادة "ما "تدل على إرادته لذلك {في} ضياع {يوسف} فلا يصدقكم أبوكم أصلاً، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعاً، وأصل معنى التفريط،: التقدم، من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض".
ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف، أكده ب" ما "النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطاً لا شك فيه {فلن أبرح} أي أفارق هذه {الأرض} بسبب هذا، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها {حتى يأذن لي أبي} في الذهاب منها {أو يحكم الله} أي الذي له الكمال كله ووثقنا به {لي} بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها {وهو} أي ظاهراً وباطناً {خير الحاكمين} إذا أراد أمراً بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أي يئسوا من يوسف وإجابتِه لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال... {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ} كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِراً عليهم: ألم تعلموا {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ موْثِقًا منَ الله} عهداً يوثق به... مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعاً في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول، ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفادُ الثاني...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {خير الحاكمين} إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ولما أدرك إخوة يوسف اليأس من نجاح محاولتهم في استرداد بنيامين، أو تعويضه بآخر منهم، اجتمعوا وتناجوا فيما بينهم ماذا يكون موقفهم تجاه أبيهم يعقوب، وماذا يبررون به حجز أخيهم بنيامين، وبقاءه في مصر دونهم، وكان من شدة وقع هذه الحادثة في أنفسهم أن انفصل عنهم أخ ثالث هو أكبرهم جميعا، إذ أحس بثقل المسؤولية، وتذكر الموثق الذي واثقوا عليه أباهم يعقوب، ولم يعد يستطيع أن يواجه أباه، خجلا منه، وخوفا من مؤاخذته، فقرر البقاء في مصر، إلى أن يسمح له أبوه ويأذن له بالعودة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} أي انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضا {قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، ومن قبل ما فرطتم في يوسف، فلن أبرح الأرض} يريد الموضع الذي وقعت فيه الحادثة {حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ} فإذا كنتم لا ترون في هذا الميثاق الذي أخذتموه على أنفسكم، أمام الله ما يلزمكم بالبقاء، لملاحقة قضية أخينا، والحفاظ عليه، فإني أرى نفسي ملزماً بمتابعتها، ما أمكنني ذلك، ولن أعيد التجربة السابقة في التفريط بأخي هذا، {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} وبعتموه بثمن بخس، وتركتم مصيره للضياع، فلا نعلم الآن عنه شيئاً. وربما يتكرر الأمر مع أخيه، فيضيع في أجواء الاسترقاق، كما ضاع أخوه...