( فالق الإصباح ، وجعل الليل سكنا ، والشمس والقمر حسبانا . ذلك تقدير العزيز العليم )
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضا ، وهو الذي جعل الليل للسكون ، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدرا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء ، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة ، كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة ، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء ، والحركة والسكون ، في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس ؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض ؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من ( العزيز ) ذي السلطان القادر( العليم ) ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو ، ولما انبثق النبت والشجر ، من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة ، ودرجة هذه الحياة ، ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب
والذين يقولون : إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم : إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة ! . . إلى آخر ذلك اللغو ، الذي يسمونه أحيانا " علمًا ! " ويسمونه أحيانا " فلسفة " ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته !
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفا ألا يواجهوها ! . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه ! وكلما سلكوا طريقا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها ، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى . ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك !
إنهم مساكين ! بائسون ! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) . . ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرآن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضا . . فإلى أين الفرار ؟ . .
يقول " فرانك أللن " العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة :
" إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام ، فيكون في ذلك تتابع الفصول ، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغارات اللازمة للحياة ، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير [ يزيد على 500ميل ] .
" ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميا إلينا ، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب ، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة " . .
إن الأدلة " العلمية " تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزا كاملا عن تعليل نشأة الحياة ، بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق ، ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . .
وقوله : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا } أي : خالق الضياء والظلام ، كما قال في أول السورة : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح ، فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بدآدئه{[10980]} وظلام رواقه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كما قال [ تعالى ]{[10981]} { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [ الأعراف : 54 ] ، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله : { وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا } أي : ساجيا مظلما تسكن فيه الأشياء ، كما قال : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [ الضحى : 1 ، 2 ] ، وقال { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 ، 2 ] ، وقال { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 3 ، 4 ] .
وقال صهيب الرومي [ رضي الله عنه ]{[10982]} لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب ، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه ، وإذا ذكر النار طار نومه ، رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } أي : يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل كل منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ، كما قال [ تعالى ]{[10983]} { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ]{[10984]} } الآية [ يونس : 5 ] ، وكما قال : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، وقال { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] .
وقوله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم بكل شيء ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وكثيرًا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 37 ، 38 ] .
ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة { حم } السجدة ، قال : { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 12 ] .
{ فالق الإصباح } شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار ، أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح . وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ { فالق الإصباح } بالنصب على المدح . { وجاعل الليل سكنا } يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئنافا به ، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى : { لتسكنوا فيه } ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به ، فإن في معنى الماضي . ويدل عليه قراءة الكوفيين { وجعل الليل } حملا على معنى المعطوف عليه ، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به ، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون { والشمس والقمر } عطفا على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدرا . وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان { حسبانا } أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان ، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب . وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان . { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك التيسير بالحساب المعلوم . { تقدير العزيز } الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص . { العليم } بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما .
{ فالق الإصباح } يجوز أن يكون خبراً رابعاً عن اسم ( إنّ ) ، ويجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة المخبر به عن اسم الإشارة ، فيكون قوله : { فأنّى تؤفكون } اعتراضاً .
والإصباح بكسر الهمزة في الأصل مصدر أصبح الأفُق ، إذا صار ذا صباح ، وقد سمّي به الصباح ، وهو ضياء الفجر فيقابل اللّيلَ وهو المراد هنا .
وفلْق الإصباح استعارة لظهور الضّياء في ظلمة اللّيل ، فشبّه ذلك بفلق الظلمة عن الضّياء ، كما استعير لذلك أيضاً السّلخ في قوله تعالى : { وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار } [ يس : 37 ] . فإضافة { فالق } إلى { الإصباح } حقيقيّة وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز . وسنبيّنه في الآية الآتية لأنّ اسم الفاعل له شائبة الاسميّة فيضاف إضافة حقيقيّة ، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظيّة . وهو هنا لمّا كان دالاً على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنّه إنّما يشبه المضارع في الوزن وزمننِ الحال أو الاستقبال . وقد يعتبر فيه المفعوليّة على التّوسّع فحُذف حرف الجرّ ، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض ، ولذلك سمَّوْا الصّبح فَلَقاً بفتحتين بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكَن ، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلْق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أنّ المفلوق هو الليل ولذلك فسّروه فالق ظلمة الإصباح ، أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة الغَبَش ، فإنّ فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنّة بالنعمة ، لأنّ الظلمة عدم والنور وجود . والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهراً للقدرة إلاّ إذا تسلّط على موجود وهو الإعدام ، وفلق الإصباح نعمة أيضاً على النّاس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم .
{ وجاعل اللّيل سكناً } عطف على { فالق الإصباح } .
وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل وجرّ { اللّيلِ } لمناسبة الوصفين في الاسميّة والإضافة . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلَف . { وجَعَل } بصيغة فعل الماضي وبنصب { اللّيل } .
وعُبّر في جانب اللّيل بمادة الجعل لأنّ الظلمة عدم فتعلّق القدرة فيها هو تعلّقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق . والمعنى أنّ الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النّور مستمراً في الأفق فجعله عارضاً مجزءاً أوقاتاً لتعود الظّلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النّصَب والعمل فيستجمّوا راحتهم .
والسكَن بالتَّحريك على زنة مُرادف اسم المفعول مثل الفَلَق على اعتباره مفعولاً بالتوسّع بحذف حرف الجرّ وهو ما يسكن إليه ، أي تسكن إليه النّفس ويطمئنّ إليه القلب ، والسّكون فيه مجاز . وتسمّى الزّوجة سكَناً والبيتُ سكناً قال تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } [ النحل : 80 ] ، فمعنى جَعْل اللّيل سكناً أنّه جعل لتحصل فيه راحة النّفس من تعب العمل .
وعُطف { الشمس والقمر } على { اللّيل } بالنّصب رعياً لمحلّ اللّيل لأنّه في محلّ المفعول ل { جاعل } بناء على الإضافة اللّفظيّة . والعطف على المحلّ شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم ( إنّ ) ، ونصب المعطوف على خبَر ليس المجرور بالباء .
والحسبان في الأصل مصدر حَسَب بفتح السّين كالغُفران ، والشُّكران ، والكفران ، أي جعلها حساباً ، أي علامة حساببٍ للنّاس يحسبون بحركاتها أوقات اللّيل والنّهار ، والشّهور ، والفصول ، والأعوام . وهذه منّة على النّاس وتذكير بمظهر العلم والقدرة ، ولذلك جعل للشّمس حسبان كما جُعل للقمر ، لأنّ كثيراً من الأمم يحسبون شهورهم وأعوامهم بحساب سير الشّمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها . والعرب يحسبون بسير القمر في منازله . وهو الذي جاء به الإسلام ، وكان العرب في الجاهليّة يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة ، فموقع المنّة أعمّ من الاعتبار الشّرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري ، وإنّما استقام ذلك للنّاس بجعل الله حركات الشّمس والقمر على نظام واحد لا يختلف ، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته ، وهذا بحسب ما يظهر للنّاس منه ولو اطّلعوا على أسرار ذلك النّظام البديع لكانت العبرة به أعظم .
والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنّه في معنى اسم الفاعل ، أي حاسبين . والحاسب هم النّاس بسبب الشّمس والقمر .
والإشارة ب { ذلك } إلى الجعل المأخوذ من { جاعل } .
والتّقدير : وضع الأشياء على قدْر معلوم كقوله تعالى : { وخلق كلّ شيء فقدّره تقديراً } [ الفرقان : 2 ] .
والعزيز : الغالب ، القاهر ، والله هو العزيز حقّاً لأنّه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلّها . والعليم مبالغة في العلم ، لأنّ وضع الأشياء على النّظام البديع لا يصدر إلاّ عن عالم عظيم العلم .