في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون ، واستثارة تطلعنا إليها ؛ فيعرض نشأة الحياة ، من أصل واحد ، وطبيعة واحدة ، ثم تنوعها ، مع وحدة النشأة والطبيعة :

( والله خلق كل دابة من ماء . فمنهم من يمشي على بطنه ، ومنهم من يمشي على رجلين ، ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء . إن الله على كل شيء قدير ) . .

وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع ، وتفرعت الأجناس . .

ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا . مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية . وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء . فهي ذات أصل واحد . ثم هي - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . منها الزواحف تمشي على بطنها ، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين . ومنها الحيوان يدب على أربع . كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته ، لا عن فلتة ولا مصادفة : يخلق الله ما يشاء غير مقيد بشكل ولا هيئة . فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها : ( إن الله على كل شيء قدير ) .

وإن تملي الأحياء . وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام ، والأصول والأنواع ، والشيات والألوان . وهي خارجة من أصل واحد ، ليوحي بالتدبير المقصود ، والمشيئة العامدة . وينفي فكرة الفلتة والمصادفة . وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ؛ وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في خلقه أنواع [ المخلوقات ]{[21291]} . على اختلاف أشكالها وألوانها ، وحركاتها وسكناتها ، من ماء واحد ، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية وما شاكلها ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كالأنعام وسائر الحيوانات ؛ ولهذا قال : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : بقدرته ؛ لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .


[21291]:- زيادة من ف ، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

{ والله خلق كل دابة } حيوان يدب على الأرض . وقرأ حمزة والكسائي " خالق كل دابة " بالإضافة { من ماء } هو جزء مادته ، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة ، وقيل { من ماء } متعلق ب { دابة } وليس بصلة ل{ خلق } . { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية وإنما سمي الزحف مشيا على الاستعارة أو المشاكلة . { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنس والطير . { ومنهم من يمشي على أربع } كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع ، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة . { يخلق الله ما يشاء } مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته . { إن الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

هذه آية اعتبار ، وقرأ حمزة والكسائي «والله خالق كل » على الإضافة ، وقرأ الجمهور «والله خلق كل » ، و «الدابة » كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلاً أمامه قدماً ، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب ومنه قول الشاعر : «دبيب قطا البطحاء في كل منهل »{[8746]} ، ويدخل في الحوت وفي الحديث «دابة من البحر مثل الظرب »{[8747]} ، وقوله { من ماء } قال النقاش أراد أمنية الذكور ، وقال جمهور النظرة أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين ، وعلى هذا يتخرج قول النبي عليه السلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نحن من ماء . . . »{[8748]} الحديث ، و «المشي علي البطن » للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره ، و «على الرجلين » للإِنسان والطير إذا مشى ، و «الأربع » لسائر الحيوان ، وفي مصحف أبي بن كعب «ومنهم من يمشي على أكثر » فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع ، لكن قال النقاش : إنما اكتفى لقول بذكر ما { يمشي على أربع } عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه .


[8746]:الدبيب: المشي، والقطا: نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتخذ أفحوصه في الأرض، ويطير في جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مرقط، والبطحاء: المكان المتسع يمر به السيل فيترك فيه الرمل والحصى الصغار، والمنهل: المورد، أي الموضع الذي فيه المشرب، وهذا الشطر شاهد على أن الدبيب يكون للطير أيضا كما هو للحيوان.
[8747]:أخر ج النسائي والدرامي في الصيد حديثا عن جابر رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة، فأصابنا جوع حتى أتينا البحر وقد قذف دابة، فأكلنا منها حتى ثابت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضاعا من أضلاعها فوضعه، ثم حمل أطول رجل في الجيش على أعظم بعير في الجيش فمر تحته، هذا معناه)، وليس فيه لفظ الظرب، وقد جاء التشبيه بالظرب في رواية البخاري، والموطأ، وأحمد في مسنده، وفيه: (ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثمانية عشرة ليلة)، ولكن ليس في هذه الرواية لفظ الدابة، والحديث واحد، رواه جابر عن بعث للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الساحل تحت إمرأة أبي عبيدة بن الجراح.
[8748]:من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام حين سأله عن ثلاث خصال، الثالثة منها هي: ومن أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها). أخرجه البخاري في الأنبياء، وأحمد في مسنده (3 ـ 108).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققاً كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيداً لأمرين : التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي . والتجدد بكون الخبر فعلياً .

وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب .

واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله : { يخلق الله ما يشاء } .

وقرأ الجمهور { والله خلق كل دابة } بصيغة فعل المضي ونصب { كل } . وقرأه الكسائي { والله خالق كل دابة } بصيغة اسم الفاعل وجر { كل } بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله .

والدابة : ما دبّ على وجه الأرض ، أي مشى . وغُلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مراداً به الإنسان وغيره مرتين .

وتنكير { ماء } لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار .

وهذا بخلاف قوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه ، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله . وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية { وجعلنا من الماء كل شيء حيّ } [ الأنبياء : 30 ] .

و { من } ابتدائية متعلقة ب { خلق } .

ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشيٍ متمكنةٍ أعجب من الماشي على رجلين ، وهذا المشي زحفاً . أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع . وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد .

وجملة : { يخلق الله ما يشاء } زيادة في العبرة ، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا . فهي جملة مستأنفة .

وجملة : { إن الله على كل شيء قدير } تعليل وتذييل . ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلاماً مستقلاً بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل .