( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ )
وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة :
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى ، وثبات على تكاليف الدعوة ، وأداء لتكاليف الحق ، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر ، وقبول لحكمه ورضاء . .
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود ، وترفع عن الضعف ؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق ، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة .
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية ؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه .
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال ؛ وانفلات من ربقة الشح ؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية ؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس !
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة . . ولفظة " الأسحار " بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر . الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن ؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة ! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء . وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارىء الكون وبارىء الإنسان .
هؤلاء الصابرون ، الصادقون ، القانتون ، المنفقون ، المستغفرون بالأسحار . . لهم ( رضوان من الله ) . . وهم أهل لهذا الرضوان : ظله الندي ومعناه الحاني . وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع . .
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض . . وشيئا فشيئا يرف بها في آفاق وأضواء ، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة ، وفي رفق ورحمة . وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها . وفي مراعاة لضعفها وعجزها ، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها ، ودون ما كبت ولا إكراه . ودون ما وقف لجريان الحياة . . فطرة الله . ومنهج الله لهذه الفطرة . . ( والله بصير بالعباد ) . .
ثم قال : { الصَّابِرِين } أي : في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات { وَالصَّادِقِينَ } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة
{ وَالقَانِتِينَ } والقنوت : الطاعة والخضوع{[4890]} { والْمُنفِقِينَ } أي : من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام والقرابات ، وسد الخَلات ، ومواساة ذوي الحاجات { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار .
وقد قيل : إن يعقوب ، عليه السلام ، لما قال لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف : 98 ] أنه أخرهم إلى وقت السحر . وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند{[4891]} والسنن ، من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر{[4892]} فيقولُ : هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه ؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ ؟ " الحديث{[4893]} وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءًا على حدة{[4894]} فرواه من طرق متعددة .
وفي الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ أوْترَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ ، فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ{[4895]} .
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ، هل جاء السَّحَر ؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن حُرَيْث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا ابن مسعود ، رضي الله عنه{[4896]} .
وروى ابن مَرْدُويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر في آخر السحر سبعين مرة .
{ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب ، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب ، والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما ، وإما بالبدن ، وهو إما قولي وهو الصدق وإما فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة ، وإما بالمال وهو الإنفاق في سبل الخير ، وإما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منهما وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها ، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة ، لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين . قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون .
والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعلى المعاصي والشهوات ، والصدق معناه في الأقوال والأفعال ، والقنوت ، الطاعة والدعاء أيضاً ، وبكل يتصف المتقي . والإنفاق معناه في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها ، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة . والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ، وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ، ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ، من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر{[3020]} .
وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام : سوف أستغفر لكم ربي ، أنه أخر الأمر إلى السحر{[3021]} ، وروى إبراهيم بن حاطب{[3022]} عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي ، فنظرت فإذا ابن مسعود{[3023]} ، وقال أنس بن مالك : أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة{[3024]} ، وقال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع آسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر{[3025]} ، فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة ، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة ، وقال قتادة : المراد بالآية المصلون بالسحر ، وقال زيد بن أسلم : المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة وهذا كله يقترن به الاستغفار ، والسحر ، بفتح الحاء وسكونها آخر الليل ، قال الزجاج وغيره : هو قبل طلوع الفجر ، وهذا صحيح لأن ما بعده الفجر هو من اليوم لا من الليلة ، وقال بعض اللغوين : السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر .
قال الفقيه الإمام : والحديث في التنزل و هذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا ، وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر نحو قول إمرىء القيس : [ المتقارب ]
يَعُلُّ بهِ بَرْدَ أنْيابِها . . . إذا غَرَّدَ الطَّائِرُ المُسْتَحِرْ{[3026]}
يقال : أسحر واستحر إذا دخل في السحر ، وكذلك قولهم : نسيم السحر ، يقع لما بعد الفجر ، وكذلك قول الشاعر : [ ربيع بن زياد ] {[3027]}
تجد النساء حواسراً يندبنه . . . قد قمن قبل تبلج الأسحار
فقد قضى أن السحر يتبلج بطلوع الفجر ، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود ، ومن سحور الصائم ، ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى السحر .