في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

1

ويتبين السفه والرشد - بعد البلوغ - وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة ، ولا يحتاج إلى تحديد مفهومة بالنصوص . فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك ، وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة ؛ فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ ، الذي يعبر عنه النص بكلمة : " النكاح " وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ :

( وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا )

ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد . كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم ، بمجرد تبين الرشد - بعد البلوغ - وتسليمها لهم كاملة سالمة ، والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها ، وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها ! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها - إذا كان الولي غنيا - والأكل منها في أضيق الحدود - إذا كان الولي محتاجا - ومع وجوب الأشهاد في محضر التسليم . . وختام الآية : التذكير بشهادة الله وحسابه : ( وكفى بالله حسيبا ) . .

كل هذا التشديد ، وكل هذا البيان المفصل ، وكل هذا التذكير والتحذير . . يشي بما كان سائدا في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد ، ومن بيان وتفصيل ، لا يدع مجالا للتلاعب عن أي طريق . .

وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النقوس والمجتمعات ، ويثبت معالم الإسلام ؛ ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع ، ويثبت ملامح الإسلام . وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده ، وشرائعه وقوانينه ، في ظلال تقوى الله ورقابته ، ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع . ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة : ( وكفى بالله حسيبا ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

وقوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } قال مجاهد : يعني : الحُلُم . قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحُلُم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد . وقد روى أبو داود في سننه{[6609]} عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يُتْم بعد احتلام ولا صُمَات يوم إلى الليل " {[6610]} .

وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة : عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتلمَ ، وعن النائم حتى يَسْتيقظ ، وعن المجنون حتى يُفِيق " أو يستكمل{[6611]} خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير{[6612]} .

واختلفوا في إنبات{[6613]} الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشِّعْرة ، هل تَدُل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل{[6614]} على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ؛ لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها . والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جِبِلِّيٌّ يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عَطيَّةَ القُرَظيّ ، رضي الله عنه قال : عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظة فكان من أنْبَتَ قُتل ، ومن لم يُنْبت خَلّي سبيله ، فكنت فيمن لم يُنْبِت ، فخلي سبيلي .

وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه{[6615]} وقال الترمذي : حسن صحيح . وإنما كان كذلك ؛ لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسَبْي الذرية .

وقال الإمام أبو عبيد{[6616]} القاسم بن سلام في كتاب " الغريب " : حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر : أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه : انظروا إليه . فلم يوجد أنبت ، فَدَرَأَ عنه الحَد . قال أبو عُبَيد : ابتهرها : أي قذفها ، والابتهار{[6617]} أن يقول : فعلت بها وهو كاذب{[6618]} فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره .

قبيح بمثلي نعتُ الفَتَاة *** إمَّا ابتهارًا وإمَّا ابتيارا{[6619]}

وقوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } قال سعيد بن جبير : يعني : صَلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة . وهكذا قال الفقهاء متَى بلغَ الغلام مُصْلحًا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه .

وقوله : { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرةً قبل بلوغهم .

ثم قال تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } [ أي ]{[6620]} من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه ، ولا يأكل منه شيئا . قال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم .

{ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } نزلت في مال{[6621]} اليتيم .

وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن ، قالت : نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه .

وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي{[6622]} بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } بقدر قيامه عليه .

ورواه البخاري عن إسحاق عَنْ عبد الله بن نُمَير ، عن هشام ، به .

قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجْرَةَ مثله أو قدر حاجته . واختلفوا : هل يرد إذا أيسر ، على قولين : أحدهما : لا ؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وقد قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال : " كُلْ من مال يتيمك غير مُسْرِف ولا مُبذر ولا متأثِّل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال : تفدي مالك - بماله " شك حسين{[6623]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير مُسرف " .

ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من حديث حسين المعلم{[6624]} به .

وروى أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخَزّاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال : ما كنتَ ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا{[6625]} .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن{[6626]} بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح{[6627]} في إبلي وأفْقر فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهْنَأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقي{[6628]} عليها ، فاشرب غير مُضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .

ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد{[6629]} به .

وبهذا القول - وهو عدمُ أداء البدل{[6630]} - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعيّ ، وعطية العوْفي ، والحسن البصري .

والثاني : نعم ؛ لأن مال اليتيم على الحظْر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرَب قال : قال عمر [ بن الخطاب ]{[6631]} رضي الله عنه : إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرتُ قضيت{[6632]} .

طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال لي عمر ، رضي الله عنه : إني أنزلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احْتَجْتُ أخذت منه ، فإذا أيسَرت رَدَدْتُه ، وإن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ .

إسناد صحيح{[6633]} وروَى البيهقي عن ابن عباس نحوَ ذلك . وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } يعني : القرض . قال : ورُوي عن عُبَيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسّدي نحو ذلك . وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل بثلاث أصابع .

ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مَهْديّ ، حدثنا سفيانُ ، عن الحكم ، عن مقْسم ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه{[6634]} حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم . قال : ورُوي عن مجاهد وميمون بن مِهْران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك .

وقال عامر الشَّعْبِيّ : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [ أكل ]{[6635]} الميتة ، فإن أكل منه قضاه . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن وهب : حدثني نافع بن أبي نُعَيْم القَارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فقالا{[6636]} ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق{[6637]} عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء .

وهذا بعيد من السياق ؛ لأنه قال : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني : من الأولياء { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : منهم { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الإسراء : 34 ]أي : لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .

وقوله : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يعني : بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ]{[6638]} فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وهذا أمر الله تعالى للأولياء{[6639]} أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا{[6640]} إليهم أموالهم ؛ لئلا يقع من بعضهم جُحُود وإنكار لما قبضه وتسلمه .

ثم قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى بالله محاسبا وشهيدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم{[6641]} للأموال : هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله . ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تَأَمَّرَن على اثنين ، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم " {[6642]} .


[6609]:في جـ، أ: "بإسناده".
[6610]:سنن أبي داود برقم (2873).
[6611]:في جـ، أ: "ويستكمل".
[6612]:صحيح البخاري برقم (2664) وصحيح مسلم برقم (1868).
[6613]:في ر: "إثبات".
[6614]:في جـ، أ: "فلا يدل بلوغ".
[6615]:المسند (4/310) وسنن أبي داود برقم (4404) (4405) وسنن الترمذي برقم (1584) وسنن النسائي (6/155) وسنن ابن ماجة برقم (2541، 2542).
[6616]:في جـ، أ: "أبو عبد الله".
[6617]:في جـ، ر: "قال: والابتهار".
[6618]:في ر: "كذب".
[6619]:غريب الحديث لأبي عبيد (3/289) والبيت في اللسان أيضا مادة (بهر).
[6620]:زيادة من جـ، أ.
[6621]:في جـ، ر، أ: "والى".
[6622]:في جـ، أ: "الأصبهاني وعلي".
[6623]:المسند (3/186).
[6624]:سنن أبي داود برقم (2872)، وسنن النسائي (6/256) وسنن ابن ماجة برقم (2718).
[6625]:رواه ابن حبان في صحيحه برقم (4244) "الإحسان" ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/4) والطبراني في المعجم الصغير (1/89) كلاهما من طريق أبي عامر الخزاز عن عمرو بن دينار به.
[6626]:في جـ، أ: "الحسين".
[6627]:في أ: "أشبع".
[6628]:في أ: "وتسعى".
[6629]:تفسير الطبري (7/588) وموطأ مالك (2/934) ومن طريق مالك رواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 298) ثم قال: "هذا إسناد صحيح".
[6630]:في جـ: "وهو رد عدم البدل".
[6631]:زيادة من جـ.
[6632]:ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/5) والطبري في تفسيره (7/582) من طريق سفيان وإسرائيل به.
[6633]:ورواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 296) من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق به.
[6634]:في جـ، أ: "على نفسه".
[6635]:زيادة من جـ.
[6636]:في جـ: "قال"، وفي أ: "قالا".
[6637]:في جـ: "تنفق" وفي أ: "انتفق".
[6638]:زيادة من جـ، أ.
[6639]:في جـ: "هذا أمر الله للأولياء".
[6640]:في جـ، ر: "تسلموا"، وفي أ: "ويسلموا".
[6641]:في و: "تسلمهم الأموال".
[6642]:صحيح مسلم برقم (1826).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

{ وابتلوا اليتامى } اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين ، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف ، بأن يكل إليه مقدمات العقد . وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه . { حتى إذا بلغوا النكاح } حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم ، أو يستكمل خمس عشرة سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة ، كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود " . وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ ، لأنه يصلح للنكاح عنده .

{ فإن آنستم منهم رشدا } فإن أبصرتم منهم رشدا . وقرئ أحستم بمعنى أحسستم . { فادفعوا إليهم أموالهم } من غير تأخير عن حد البلوغ ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذا المتضمنة معنى الشرط ، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل ؛ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال ، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة ، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد . { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم . { ومن كان غنيا فليستعفف } من أكلها . { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر حاجته وأجرة سعيه ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي ، وعنه عليه الصلاة والسلام " أن رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله ؟ قال : كل بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله " وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى . { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة ، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة . { وكفى بالله حسيبا } محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

هذه مخاطبة للجميع ، والمعنى : يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء ، والابتلاء : الاختبار ، و { بلغوا النكاح } ، معناه : بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه ، ومعناه : جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم ، و { آنستم } ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم ، كما قال الشاعر : [ الخفيف ]

آنَسَتْ نَبْأَةً وأفزعها القنّاص . . . عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْساءُ

وقرأ ابن مسعود - «أ حسْتم » - بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي : «رشداً » بفتح الراء والشين والمعنى واحد ، ومالك رحمه الله يرى الشرطين : البلوغ ، والرشد المختبر ، وحينئذ يدفع المال ، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة ، ولكنها تجوز قبل الحنث .

قال القاضي أبو محمد : والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط ، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه ، فقال إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك ، لأن التوقيف بالبلوغ جاء ب { إذا } والمشروط جاء ب { إن } التي هي قاعدة حروف الشرط ، و { إذا } ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي به لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً ، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر ، وقال الحسن وقتادة : الرشد في العقل والدين ، وقال ابن عباس : بل في العقل وتدبير المال لا غير ، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا ، والرواية الأخرى : أنه في العقل والدين مروية عن مالك ، وقالت فرقة : دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك ، وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان .

قال القاضي أبو محمد : والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت ، وقوله : { ولا تأكلوها } الآية ، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، والإسراف : الإفراط في الفعل ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق ، ومنه قول الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ما في عَطائِهِمُ مَنٌّ وَلاَ سَرَفُ{[3857]}

أي لا يخطئون مواضع العطاء { وبداراً } : معناه مبادرة كبرهم ، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ، قاله ابن عباس وغيره . و { أن يكبروا } نصب ببدار ، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله : { ومن كان غنياً فليستعفف } الآية ، يقال : عف الرجل عن الشيء واستعف : إذا أمسك ، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم ، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف ، واختلف العلماء في حد المعروف ، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية : إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر ، ولا يتسلف أكثر من حاجته ، وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة والسدي وعطاء : روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال{[3858]} : إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف ، قال الحسن : هي طعمة من الله له ، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلاً بأطراف الأصابع ، ولا يكتسي منه بوجه ، وقال إبراهيم النخعي ومكحول : يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الكتان والحلل ، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي : إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه ، وقالت فرقة : المعروف أنه يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وقال الحسن بن حي : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وقال ابن عباس والنخعي : المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد اليتامى في الحالين ، أي : من كان منهم غنياً فليعف بماله ، ومن كان فقيراً فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد ، وقوله : { فإذا دفعتم } الآية . أمر من الله بالتحرز والحزم ، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها ، إذا كان حبسها أولاً معروفاً ، وقالت فرقة : الإشهاد ها هنا فرض وقالت فرقة : هو ندب إلى الحزم ، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر ، واللفظ يعم هذا وسواه ، والحسيب هنا المحسب ، أي هو كاف من الشهود ، هكذا قال الطبري ، والأظهر { حسيباً } معناه : حاسباً أعمالكم ومجازياً بها ، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق .


[3857]:- شطر البيت لجرير (ديوانه: 174) وصدره: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية والهنيدة: مائة من الإبل، يحدوها: أي يسوقها ثمانية من العبيد. والمن: الفخر بالإحساس واستكثاره.
[3858]:- انظر طبقات ابن سعد 3/ 276.