ويتبين السفه والرشد - بعد البلوغ - وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة ، ولا يحتاج إلى تحديد مفهومة بالنصوص . فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك ، وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة ؛ فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ ، الذي يعبر عنه النص بكلمة : " النكاح " وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ :
( وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا )
ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد . كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم ، بمجرد تبين الرشد - بعد البلوغ - وتسليمها لهم كاملة سالمة ، والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها ، وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها ! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها - إذا كان الولي غنيا - والأكل منها في أضيق الحدود - إذا كان الولي محتاجا - ومع وجوب الأشهاد في محضر التسليم . . وختام الآية : التذكير بشهادة الله وحسابه : ( وكفى بالله حسيبا ) . .
كل هذا التشديد ، وكل هذا البيان المفصل ، وكل هذا التذكير والتحذير . . يشي بما كان سائدا في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد ، ومن بيان وتفصيل ، لا يدع مجالا للتلاعب عن أي طريق . .
وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النقوس والمجتمعات ، ويثبت معالم الإسلام ؛ ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع ، ويثبت ملامح الإسلام . وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده ، وشرائعه وقوانينه ، في ظلال تقوى الله ورقابته ، ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع . ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة : ( وكفى بالله حسيبا ) . .
وقوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } قال مجاهد : يعني : الحُلُم . قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحُلُم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد . وقد روى أبو داود في سننه{[6609]} عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يُتْم بعد احتلام ولا صُمَات يوم إلى الليل " {[6610]} .
وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة : عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتلمَ ، وعن النائم حتى يَسْتيقظ ، وعن المجنون حتى يُفِيق " أو يستكمل{[6611]} خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير{[6612]} .
واختلفوا في إنبات{[6613]} الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشِّعْرة ، هل تَدُل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل{[6614]} على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ؛ لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها . والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جِبِلِّيٌّ يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عَطيَّةَ القُرَظيّ ، رضي الله عنه قال : عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظة فكان من أنْبَتَ قُتل ، ومن لم يُنْبت خَلّي سبيله ، فكنت فيمن لم يُنْبِت ، فخلي سبيلي .
وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه{[6615]} وقال الترمذي : حسن صحيح . وإنما كان كذلك ؛ لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسَبْي الذرية .
وقال الإمام أبو عبيد{[6616]} القاسم بن سلام في كتاب " الغريب " : حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر : أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه : انظروا إليه . فلم يوجد أنبت ، فَدَرَأَ عنه الحَد . قال أبو عُبَيد : ابتهرها : أي قذفها ، والابتهار{[6617]} أن يقول : فعلت بها وهو كاذب{[6618]} فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره .
قبيح بمثلي نعتُ الفَتَاة *** إمَّا ابتهارًا وإمَّا ابتيارا{[6619]}
وقوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } قال سعيد بن جبير : يعني : صَلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة . وهكذا قال الفقهاء متَى بلغَ الغلام مُصْلحًا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه .
وقوله : { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرةً قبل بلوغهم .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } [ أي ]{[6620]} من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه ، ولا يأكل منه شيئا . قال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم .
{ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } نزلت في مال{[6621]} اليتيم .
وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن ، قالت : نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي{[6622]} بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } بقدر قيامه عليه .
ورواه البخاري عن إسحاق عَنْ عبد الله بن نُمَير ، عن هشام ، به .
قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجْرَةَ مثله أو قدر حاجته . واختلفوا : هل يرد إذا أيسر ، على قولين : أحدهما : لا ؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال : " كُلْ من مال يتيمك غير مُسْرِف ولا مُبذر ولا متأثِّل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال : تفدي مالك - بماله " شك حسين{[6623]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير مُسرف " .
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من حديث حسين المعلم{[6624]} به .
وروى أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخَزّاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال : ما كنتَ ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا{[6625]} .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن{[6626]} بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح{[6627]} في إبلي وأفْقر فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهْنَأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقي{[6628]} عليها ، فاشرب غير مُضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .
ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد{[6629]} به .
وبهذا القول - وهو عدمُ أداء البدل{[6630]} - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعيّ ، وعطية العوْفي ، والحسن البصري .
والثاني : نعم ؛ لأن مال اليتيم على الحظْر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرَب قال : قال عمر [ بن الخطاب ]{[6631]} رضي الله عنه : إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرتُ قضيت{[6632]} .
طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال لي عمر ، رضي الله عنه : إني أنزلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احْتَجْتُ أخذت منه ، فإذا أيسَرت رَدَدْتُه ، وإن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ .
إسناد صحيح{[6633]} وروَى البيهقي عن ابن عباس نحوَ ذلك . وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } يعني : القرض . قال : ورُوي عن عُبَيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسّدي نحو ذلك . وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل بثلاث أصابع .
ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مَهْديّ ، حدثنا سفيانُ ، عن الحكم ، عن مقْسم ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه{[6634]} حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم . قال : ورُوي عن مجاهد وميمون بن مِهْران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك .
وقال عامر الشَّعْبِيّ : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [ أكل ]{[6635]} الميتة ، فإن أكل منه قضاه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن وهب : حدثني نافع بن أبي نُعَيْم القَارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فقالا{[6636]} ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق{[6637]} عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء .
وهذا بعيد من السياق ؛ لأنه قال : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني : من الأولياء { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : منهم { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الإسراء : 34 ]أي : لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .
وقوله : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يعني : بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ]{[6638]} فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وهذا أمر الله تعالى للأولياء{[6639]} أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا{[6640]} إليهم أموالهم ؛ لئلا يقع من بعضهم جُحُود وإنكار لما قبضه وتسلمه .
ثم قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى بالله محاسبا وشهيدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم{[6641]} للأموال : هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله . ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تَأَمَّرَن على اثنين ، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم " {[6642]} .
{ وابتلوا اليتامى } اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين ، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف ، بأن يكل إليه مقدمات العقد . وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه . { حتى إذا بلغوا النكاح } حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم ، أو يستكمل خمس عشرة سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة ، كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود " . وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ ، لأنه يصلح للنكاح عنده .
{ فإن آنستم منهم رشدا } فإن أبصرتم منهم رشدا . وقرئ أحستم بمعنى أحسستم . { فادفعوا إليهم أموالهم } من غير تأخير عن حد البلوغ ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذا المتضمنة معنى الشرط ، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل ؛ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال ، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة ، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد . { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم . { ومن كان غنيا فليستعفف } من أكلها . { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر حاجته وأجرة سعيه ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي ، وعنه عليه الصلاة والسلام " أن رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله ؟ قال : كل بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله " وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى . { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة ، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة . { وكفى بالله حسيبا } محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم .
هذه مخاطبة للجميع ، والمعنى : يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء ، والابتلاء : الاختبار ، و { بلغوا النكاح } ، معناه : بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه ، ومعناه : جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم ، و { آنستم } ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم ، كما قال الشاعر : [ الخفيف ]
آنَسَتْ نَبْأَةً وأفزعها القنّاص . . . عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْساءُ
وقرأ ابن مسعود - «أ حسْتم » - بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي : «رشداً » بفتح الراء والشين والمعنى واحد ، ومالك رحمه الله يرى الشرطين : البلوغ ، والرشد المختبر ، وحينئذ يدفع المال ، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة ، ولكنها تجوز قبل الحنث .
قال القاضي أبو محمد : والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط ، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه ، فقال إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك ، لأن التوقيف بالبلوغ جاء ب { إذا } والمشروط جاء ب { إن } التي هي قاعدة حروف الشرط ، و { إذا } ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي به لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً ، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر ، وقال الحسن وقتادة : الرشد في العقل والدين ، وقال ابن عباس : بل في العقل وتدبير المال لا غير ، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا ، والرواية الأخرى : أنه في العقل والدين مروية عن مالك ، وقالت فرقة : دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك ، وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان .
قال القاضي أبو محمد : والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت ، وقوله : { ولا تأكلوها } الآية ، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، والإسراف : الإفراط في الفعل ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق ، ومنه قول الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ما في عَطائِهِمُ مَنٌّ وَلاَ سَرَفُ{[3857]}
أي لا يخطئون مواضع العطاء { وبداراً } : معناه مبادرة كبرهم ، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ، قاله ابن عباس وغيره . و { أن يكبروا } نصب ببدار ، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله : { ومن كان غنياً فليستعفف } الآية ، يقال : عف الرجل عن الشيء واستعف : إذا أمسك ، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم ، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف ، واختلف العلماء في حد المعروف ، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية : إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر ، ولا يتسلف أكثر من حاجته ، وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة والسدي وعطاء : روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال{[3858]} : إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف ، قال الحسن : هي طعمة من الله له ، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلاً بأطراف الأصابع ، ولا يكتسي منه بوجه ، وقال إبراهيم النخعي ومكحول : يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الكتان والحلل ، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي : إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه ، وقالت فرقة : المعروف أنه يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وقال الحسن بن حي : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وقال ابن عباس والنخعي : المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد اليتامى في الحالين ، أي : من كان منهم غنياً فليعف بماله ، ومن كان فقيراً فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد ، وقوله : { فإذا دفعتم } الآية . أمر من الله بالتحرز والحزم ، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها ، إذا كان حبسها أولاً معروفاً ، وقالت فرقة : الإشهاد ها هنا فرض وقالت فرقة : هو ندب إلى الحزم ، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر ، واللفظ يعم هذا وسواه ، والحسيب هنا المحسب ، أي هو كاف من الشهود ، هكذا قال الطبري ، والأظهر { حسيباً } معناه : حاسباً أعمالكم ومجازياً بها ، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق .