لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها ، والسماء بشواظها ورجومها . فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء ، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى : عسلا وطيرا . . ولكن البنية النفسية المفككة ، والجبلة الهابطة المتداعية ، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر ، ومن أجلها ضربوا في الصحراء . . لقد أخرجهم الله - على يدي نبيهم موسى - عليه السلام - من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة ، وليرفعهم من المهانة والضعة . . وللحرية ثمن ، وللعزة تكاليف ، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية . ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن ، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف ، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية . حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة . حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم ، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة ، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة . إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر . يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء . . وما إليها ! وهذا ما يذكرهم القرآن به . وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة :
( وإذ قلتم : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . قال : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم . . وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤوا بغضب من الله ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . .
ولقد تلقى موسى - عليه السلام - طلبهم بالاستنكار :
( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ) . .
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية ؟
( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) . .
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد ، لا يستحق الدعاء ؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار ، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها . . وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها . . عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة . إلى حياتكم الخانعة الذليلة . . حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء ! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها . . ويكون هذا من موسى - عليه السلام - تأنيبا لهم وتوبيخا .
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين ، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى :
( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ) . .
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وعودتهم بغضب الله ، لم يكن - من الناحية التاريخية - في هذه المرحلة من تاريخهم ؛ إنما كان فيما بعد ، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها :
( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
وقد وقع هذا منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال . إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء ! فناسب أن يكون قول موسى لهم ، ( اهبطوا مصرا ) هو تذكير لهم بالذل في مصر ، وبالنجاة منه ، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان !
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ، طعامًا طيبًا نافعًا هنيئًا سهلا واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم{[1888]} وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيّة من البقول ونحوها مما سألتم . وقال الحسن البصري رحمه الله : فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم{[1889]} الذي كانوا فيه ، وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا : { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } [ وهم يأكلون المن والسلوى ، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد ]{[1890]} . فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة . وأما " الفوم " فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود " وثومها " بالثاء ، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم ، عنه ، بالثوم . وكذا الربيع بن أنس ، وسعيد بن جبير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { وَفُومِهَا } قال : قال ابن عباس : الثوم .
قالوا : وفي اللغة القديمة : فَوِّمُوا لنا بمعنى : اختبزوا . وقال ابن جرير : فإن كان ذلك صحيحًا ، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم : وقعوا في " عاثُور شَرّ ، وعافور شر ، وأثافي وأثاثي ، ومغافير ومغاثير " . وأشباه{[1891]} ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ، والله أعلم .
وقال آخرون : الفوم الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب قراءة ، حدثني نافع بن أبي نعيم : أن ابن عباس سئِل عن قول الله : { وَفُومِهَا } ما فومها ؟ قال : الحنطة . قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا *** وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم{[1892]}
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كُرَيْب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : { وَفُومِهَا } قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم .
وكذا قال علي بن أبي طلحة ، والضحاك{[1893]} وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم : الحنطة .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد وعطاء : { وَفُومِهَا } قالا وخبزها .
وقال هُشَيْم عن يونس ، عن الحسن ، وحصين ، عن أبي مالك : { وَفُومِهَا } قال : الحنطة .
وهو قول عكرمة ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، والله أعلم{[1894]} .
[ وقال الجوهري : الفوم : الحنطة . وقال ابن دريد : الفوم : السنبلة ، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز . قال : وقال بعضهم : هو الحمص لغة شامية ، ومنه يقال لبائعه : فامي مغير عن فومي ]{[1895]} .
وقال البخاري : وقال بعضهم : الحبوب التي تؤكل كلها فوم .
وقوله تعالى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } فيه تقريع لهم وتوبيخ{[1896]} على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .
وقوله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور بالصرف .
قال ابن جرير : ولا أستجيز{[1897]} القراءة بغير ذلك ؛ لإجماع المصاحف على ذلك .
وقال ابن عباس : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قال : مصرًا من الأمصار ، رواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعيد{[1898]} البقال سعيد بن المرزبان ، عن عكرمة ، عنه .
قال : وروي عن السدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك .
وقال ابن جرير : وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : " اهبطوا مصر " من غير إجراء يعني من غير صرف . ثم روى عن أبي العالية ، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وعن الأعمش أيضًا .
وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضًا . ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف ، كما في قوله تعالى : { قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا } [ الإنسان : 15 ، 16 ] . ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟
وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره ، والمعنى على ذلك لأن موسى ، عليه السلام يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ؛ ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي : ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم{[1899]} هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه ، لم يجابوا إليه ، والله أعلم .
يقول تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } أي : وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا ، أي : لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم ، وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون{[1900]} .
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } قال : هم أصحاب النيالات{[1901]} يعني أصحاب الجزية .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون{[1902]} ، وقال الضحاك : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } قال : الذل . وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين . ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة الفاقة . وقال عطية العوفي : الخراج . وقال الضحاك : الجزية .
وقوله تعالى : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } قال الضحاك : استحقوا الغضب من الله ، وقال الربيع بن أنس : فحدَثَ عليهم غضب من الله . وقال سعيد بن جبير : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } يقول : استوجبوا سخطًا ، وقال ابن جرير : يعني بقوله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال : باؤوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء . ومنه قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما ، قد صارا عليك دوني . فمعنى الكلام إذًا : فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله سخط .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم{[1903]} بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى{[1904]} أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كبْر أعظم من هذا ، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكبر بَطَر الحق ، وغَمْط الناس " {[1905]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : قال ابن مسعود : كنت لا أحجب عن النَّجْوى ، ولا عن كذا ولا عن كذا قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته{[1906]} من آخر حديثه ، وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ليس ذلك من البغي ، ولكن البغي مَنْ بطر - أو قال : سفه الحق - وغَمط الناس " . يعني : رد الحق وانتقاص الناس ، والازدراء بهم والتعاظم عليهم . ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا{[1907]} .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي ، أو قتل نبيًا ، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين " {[1908]} .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ، أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به . والله أعلم .
{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى . وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد ، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه .
{ فادع لنا ربك } سله لنا بدعائك إياه { يخرج لنا } يظهر ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة .
{ مما تنبت الأرض } من الإسناد المجازي ، وإقامة القابل مقام الفاعل ، ومن للتبعيض .
{ من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها } تفسير وبيان وقع موقع الحال ، وقيل بدل بإعادة الجار . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل ، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا ، وقيل الثوم وقرئ قثائها بالضم ، وهو لغة فيه .
{ قال } أي الله ، أو موسى عليه السلام . { أتستبدلون الذي هو أدنى } أقرب منزلة وأدون قدرا . وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة ، وقرئ " أدنأ " من الدناءة . { بالذي هو خير } يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي .
{ اهبطوا مصرا } انحدروا إليه من التيه ، يقال هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج منه ، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين ، وقيل أراد به العلم ، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود . وقيل أصله مصراتم فعرب .
{ فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصقت بهم ، من ضرب الطين على الحائط ، مجازاة لهم على كفران النعمة . واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين ، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم .
{ وباؤوا بغضب من الله } رجعوا به ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به ، وأصل البوء المساواة .
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب .
{ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } بسبب كفرهم بالمعجزات ، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر ، وإظلال الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار العيون من الحجر . أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل والفرقان ، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم ، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم ، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات ، وقتل النبيين . فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها ، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها . وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر ، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل ، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدا على تأويل ما ذكر ، أو تقدم للاختصار ، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع .