في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

1

ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء - وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن - قبل أن يستكمل الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها :

( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ، فكلوه هنيئا مريئا )

وهذه الآية تنشىء للمرأة حقا صريحا ، وحقا شخصيا ، في صداقها . وتنبى ء بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى . واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه ؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها ! وواحدة منها كانت في زواج الشغار . وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته ، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر . واحدة بواحدة . صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين . كما تبدل بهيمة ببهيمة ! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية ؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار ، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي ! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده ، لتقبضه المرأة فريضة لها ، وواجبا لا تخلف فيه . وأوجب أن يؤديه الزوج " نحلة " - أي هبة خالصة لصاحبتها - وأن يؤديه عن طيب نفس ، وارتياح خاطر . كما يؤدي الهبة والمنحة . فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها - كله أو بعضه - فهي صاحبة الشأن في هذا ؛ تفعله عن طيب نفس ، وراحة خاطر ؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه ، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا . فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل ، والاختيار المطلق ، والسماحة النابعة من القلب ، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك .

وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها ، وحقها في نفسها وفي مالها ، وكرامتها ومنزلتها . وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات ، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون ؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة ، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة .

فإذا انتهى من هذا الاستطراد - الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء - عاد إلى أموال اليتامى ؛ يفصل في أحكام ردها إليهم ، بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

وقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النحلة : المهر .

وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : نحلة : فريضة . وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة : أي فريضة . زاد ابن جريج : مسماه . وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون{[6589]} تسمية الصداق كذبا بغير حق .

ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حَتمًا ، وأن يكون طيب النفس بذلك ، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبًا بها ، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك ، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبًا ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[6590]} { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة ، عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئًا ، فَلْيسأل امرأته ثلاثة{[6591]} دراهم أو نحو ذلك ، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئًا مريئًا شفاء مباركا .

وقال هُشَيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، ونزل : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان عن عمير{[6592]} الخثعمي ، عن عبد الملك{[6593]} بن المغيرة الطائفي ، عن عبد الرحمن بن البَيْلَمَاني{[6594]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قالوا : يا رسول الله ، فما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهْلوهُم " {[6595]} .

وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق حَجَّاج بن أرْطاة ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البَيْلمَاني{[6596]} عن عمر بن الخطاب قال : خَطَبَ{[6597]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنكحوا الأيامى " ثلاثا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، ما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " .

ابن البَيْلمَاني{[6598]} ضعيف ، ثم فيه انقطاع أيضًا{[6599]} .


[6589]:في ر: "تكون".
[6590]:زيادة من ر، أ.
[6591]:في أ: "بثلاثة".
[6592]:في أ: "عمر".
[6593]:في ر: "عبد الله".
[6594]:في جـ، ر، أ: "عبد الرحمن السلماني".
[6595]:ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/239) وابن أبي شيبة في المصنف (14/184) وأبو داود في المراسيل برقم (215).
[6596]:في جـ، ر، أ: "السلماني".
[6597]:في جـ، ر، أ: "خطبنا".
[6598]:في جـ، ر، أ: "السلماني".
[6599]:ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/186) وسعيد بن منصور في السنن برقم (619) "الأعظمي" والبيهقي في السنن الكبرى (7/239) كلهم من طريق حجاج بن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن البيلماني مولى عمر بن الخطاب قال: فذكره مرسلا، وأظن أن "مولى" تصحفت في النسخ إلى "عن" وأكاد أجزم بذلك لقول الحافظ ابن كثير "فيه انقطاع"، فإن الانقطاع بإرساله، ولو كان عن عمر لكان موصولا.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

{ وآتوا النساء صدقاتهن } مهورهن . وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف ، وبضم الصاد وسكون الدال ، جمع صدقة كغرفة ، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة . { نحلة } أي عطية يقال نحلة كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو ، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة . وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلا منه عليهن فتكون حالا من الصدقات . وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له ، أو حال من الصدقات أي دينا من الله تعالى شرعه ، والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم . { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } للصداق حملا على المعنى أو جرى مجرى اسم الإشارة كقول رؤبة :

كأنه في الجلد *** توليع البهق

إذ سئل فقال : أردت كأن ذاك . وقيل للإيتاء ، ونفسا تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيب نفس ، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز ، وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب { فكلوه هنيئا مريئا } فخذوه وأنفقوه حلالا بلا تبعة . والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص ، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالا من الضمير وقيل الهنيء ما يلذه الإنسان ، والمريء ما تحمد عاقبته .