في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا} (16)

وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم ؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه ، وذكرها بفحواها لا بألفاظها :

( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) . .

يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا : ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة ، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم ، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء . . ( لنفتنهم فيه ) . . ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون .

وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة ، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه . ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني ، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها .

وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق ، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن ، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها .

والحقيقة الأولى : هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله ، وبين إغداق الرخاء وأسبابه ؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه . وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة . وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة ، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء . ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية . .

وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة . وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف ، حتى استقاموا على الطريقة ، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء ، وتتدفق فيها الأرزاق . ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا . وما يزالون في نكد وشظف ، حتى يفيئوا إلى الطريقة ، فيتحقق فيهم وعد الله .

وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على حقيقة الله ، ثم تنال الوفر والغنى ، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها ، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء . وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته [ كما سبق بيانه في سورة نوح ] . .

والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية : هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة . ونبلوكم بالشر والخير فتنة . والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة ! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى . . فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها ، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة ؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به ، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره . فأما الرخاء فينسي ويلهي ، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس ، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان !

إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة . . نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر ، مع السرف أو مع البخل ، وكلاهما آفة للنفس والحياة . . . ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور ، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس ، والتهجم على حرمات الله . . ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية . . ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين . . وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله . .

والحقيقة الثالثة إن الإعراض عن ذكر الله ، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء ، مؤد إلى عذاب الله . والنص يذكر صفة للعذاب ( يسلكه عذابا صعدا ) . . توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد . وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد . فجاء في موضع : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . وجاء في موضع : سأرهقه صعودا . وهي حقيقة مادية معروفة . والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا} (16)

وقوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين :

أحدهما : وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها ، { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : كثيرًا . والمراد بذلك سَعَة الرزق . كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ المائدة : 66 ] وكقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الأعراف : 96 ] وعلى هذا يكون معنى قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

أي : لنختبرهم ، كما قال مالك ، عن زيد بن أسلم : { لِنَفْتِنَهُمْ } لنبتليهم ، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية ؟ .

ذكر من قال بهذا القول : قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يعني بالاستقامة : الطاعة . وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } قال : الإسلام . وكذا قال سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والسدي ، ومحمد بن كعب القرظي .

وقال قتادة : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا .

وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الحق . وكذا قال الضحاك ، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما ، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنبتليهم به .

وقال مقاتل : فنزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين .

والقول الثاني : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } الضلالة { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا ، كما قال : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] وكقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد ؛ فإنه في قوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الضلالة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس ، وزيد بن أسلم ، والكلبي ، وابن كيسان . وله اتجاه ، وتيأيد بقوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

وقوله : { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } أي : عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن زيد : { عَذَابًا صَعَدًا } أي : مشقة لا راحة معها .

وعن ابن عباس : جبل في جهنم . وعن سعيد بن جبير : بئر فيها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا} (16)

وأن لو استقاموا أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس أو كلاهما على الطريقة أي على الطريقة المثلى لأسقيناهم ماء غدقا لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب .