هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها ؛ وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى ؛ وبمشهد الذي يرجع القهقري مرتدا عن دين الله ؛ وحيرته في التيه بلا اتجاه ؛ وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق ، في الأمر والخلق ؛ وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - ( يوم ينفخ في الصور ) ويبعث من في القبور ؛ ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده ، وأن إليه المصير :
( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، كالذي استهوته الشياطين في الأرض ، حيران ، له أصحاب يدعونه إلى الهدى . ائتنا . قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين . وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) . .
( قل ) . . الإيقاع القوي المتكرر في السورة ؛ الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده ، وأن الرسول [ ص ] إنما هو منذر ومبلغ ؛ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته ؛ وأن الرسول [ ص ] إنما هو مأمور به من ربه .
( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ؟ ) . .
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه ، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا . سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما ، حجرا أو شجرا ، روحا أم ملكا ، شيطانا أم إنسانا . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون ، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .
قل لهم مستنكرا دعوة غير الله ، وعبادة غير الله ، والاستعانة بغير الله ، والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي [ ص ] من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه ! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون ، وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي [ ص ] والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد ؛ وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور ؛ بعيدا عن الموروثات الراسبة ، وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة !
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده ، واتخاذه وحده إلها ، والدينونه له وحده بلا شريك : 1 ( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا ؟ . .
فهو ارتداد على الأعقاب ؛ ورجوع إلى الوراء ؛ بعد التقدم والارتقاء . .
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير :
( كالذي استهوته الشياطين في الأرض ) ( . . حيران . . له أصحاب يدعونه إلى الهدى : ائتنًا ) . .
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد ، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد ، والآلهة المتعددة من العبيد ! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال ، فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس : ( الذي استهوته الشياطين في الأرض )- ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه ، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال ! -
ولكن هناك ، من الجانب الآخر ، أصحاب له مهتدون ، يدعونه إلى الهدى ، وينادون ( ائتنا )- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء( حيران ) لا يدري أين يتجه ، ولا أي الفريقين يجيب !
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك ، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير !
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص . . ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية ، يتمثل فيها هذا الموقف ، ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة ، تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة ، وماذا يعني هذا التعبير !
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي ، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم :
( قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه )
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب ، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية ، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار ، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم :
( قل : إن هدى الله هو الهدى ) . .
هو وحدة الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .
وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير( علم )ولا( هدى )ولا ( كتاب منير ) . .
إن " الإنسان " موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه .
ومن ثم يحتاج هذا " الإنسان " إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا " الإنسان " إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ) .
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو " حتمي " في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي " الحتمية التاريخية " الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ، لا تلك الحتميات المدعاة ! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله ، لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده ، وعبادته وحده ، ومخافته وتقواه : ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) . .
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى ؛ وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له ، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين ؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله ، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة ، للنواميس التي وضعها الله لها ؛ وهي لا تملك الخروج عليها ، والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها ، ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلاأن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه ، وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي ، لاستقام أمره ، وتناسق تكوينه وسلوكه ، وجسمه وروحه ، ودنياه وآخرته
وفي إعلان الرسول [ ص ] والمسلمين معه ، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا ، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .
قال السُّدِّي : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد ، فأنزل الله ، عَزَّ وجل : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } أي : في الكفر { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } فيكون مثلُنا مثل الذي { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [ حَيْرَانَ ] }{[10834]} يقول : مثلكم ، إن كفرتم بعد الإيمان ، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضل الطريق ، فحيرته الشياطين ، واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : " ائتنا فَإنَّا على الطريق " ، فأبى أن
يأتيهم . فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام . رواه ابن جرير .
وقال قتادة : { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } أضلته في الأرض ، يعني : استهوته{[10835]} مثل قوله : { تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } الآية . هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، والدعاة الذين يدعون إلى الله ، عَزَّ وجل ، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ضالا إذ ناداه مناد : " يا فلان بن فلان ، هلم إلى الطريق " ، وله أصحاب يدعونه : " يا فلان ، هلم إلى الطريق " ، فإن اتبع الداعي الأول ، انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة{[10836]} وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى ، اهتدى إلى الطريق . وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان ، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت ، فيستقبل الهلكة والندامة . وقوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } هم " الغيلان " ، يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء ، فيصبح وقد ألقته في هلكة ، وربما أكلته - أو تلقيه في مضلة من الأرض ، يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله ، عَزَّ وجل . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس ، قوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } هو الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وجار{[10837]} عن الحق وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ، يقول [ الله ]{[10838]} { إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } والضلال ما يدعو إليه الجن . رواه ابن جرير ، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ، ويزعمون أنه هدى . قالت : وهذا خلاف ظاهر الآية ؛ فإن الله أخبر أن أصحابه يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى .
وهو كما قال ابن جرير ، وكان{[10839]} سياق الآية يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، وهو منصوب على الحال ، أي : في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة ، وله أصحاب على المحجة سائرون ، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى . وتقدير الكلام : فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ، ولو شاء الله لهداه ، ولرد به إلى الطريق ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }
كما قال : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ }{[10840]} [ الزمر : 37 ] ، وقال : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ النحل : 37 ] ، وقوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : نخلص له العباد{[10841]} وحده لا شريك له .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا تَنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان، يقول له تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأنداد والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم، أندعوا من دون الله حجرا أو خشبا لا يقدر على نفعنا أو ضرّنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده الضرّ والنفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشرّ، فلا شكّ أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحقّ وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه. "ونُرَدّ على أَعْقَابِنَا": ونردّ إلى أدبارنا فنرجع القهقري خلفنا لم نظفر بحاجتنا. وقد بينا معنى الردّ على العقب، وأن العرب تقول لكلّ طالب حاجة لم يظفر بها ردّ على عقبيه. وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر بعد إذ هدانا الله فوفقنا له، فيكون مثَلنا في ذلك مثَل الرجل الذي اسْتتبعه الشيطان يهوي في الأرض حيران. وقوله: اسْتَهْوَتْهُ: استفعلته، من قول القائل: هوى فلان إلى كذا يهوي إليه، ومن قول الله تعالى ذكره: "فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ "بمعنى: تنزع إليهم وتريدهم. وأما حيران: فإنه فعلان من قول القائل: قد حار فلان في الطريق فهو يحار فيه حَيْرةً وحَيَرانا وحَيْرُورَةً، وذلك إذا ضلّ فلم يهتد للمحجة."له أصحاب يدعونه إلى الهدى": لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض أصحاب على المحجة واستقامة السبيل، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه، يقولون له: "ائتنا"... وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن كفر بالله بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه المقيمون على الدين الحقّ يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له: ائْتنا، فكن معنا على استقامة وهدى وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان ويعبد الآلهة والأوثان.
عن السديّ: يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضلّ الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم، يقولون ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام.
وقال آخرون في تأويل ذلك، عن ابن عباس، قوله: "كالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّياطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أصحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الهُدَى": فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحار عن الحقّ وضلّ عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله، والضلالة ما تدعو إليه الجنّ.
فكأن ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال ويزعمون أن ذلك هدى، وأن الله أكذبهم بقوله: "قُلْ إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى لا ما يدعوه إليه أصحابه".
وهذا تأويل له وجه لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيران إليه أصحاب هدى، وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه، أنهم هم الذين سموه، ولكن الله سماه هدى، وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله الضلال هدى لأن ذلك كذب، وغير جائز وصف الله بالكذب لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب لو كان ذلك خبرا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له: تعال إلى الهدى فأما وهو قائل: يدعونه إلى الهدى، فغير جائز أن يكون ذلك وهم كانوا يدعونه إلى الضلال.
وأما قوله: "ائْتِنا" فإن معناه: يقولون: ائتنا هلمّ إلينا فحذف القول لدلالة الكلام عليه. وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: «يدعونه إلى الهدى بينا». قال: الهدى: الطريق، أنه بيّن. وإذا قرئ ذلك كذلك، كان البين من صفة الهدى، وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال: الهدى في هذا الموضع: هو الهدى، على الحقيقة.
"قُلْ إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى وأُمِرْنا لَنُسْلِمَ لِرَبّ العالَمِينَ"؛
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان القائلين لأصحابك: "اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم" فإنا على هدى: ليس الأمر كما زعمتم "إنّ هُدَى اللّهِ هُو الهدَى": إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه وسبيلنا الذي أمرَنا بلزومه ودينه الذي شرعه لنا فبينه، هو الهدى والاستقامة التي لا شكّ فيها، لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، فلا نترك الحقّ ونتبع الباطل. "وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالَمِينَ": وأمرنا ربنا وربّ كلّ شيء، تعالى وجهه، لنسلم له: لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية، فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة. وقيل: "وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ": وأمرنا كي نسلم، وأن نسلم لربّ العالمين، لأن العرب تضع «كي» واللام التي بمعنى «كي» مكان «أن» و «أن» مكانها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا): يحتمل هذا وجوهًا:
يحتمل: أن يكون أُولَئِكَ الكفرة دعوا رسول اللَّه أو المؤمنين إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها، فقال عند ذلك: (أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا)، بعدما عبدنا اللَّه الذي يملك نفعنا وضرنا.
أو كان أهل الكفر يدعون أهل الإسلام إلى عبادة الأوثان التي كانوا يعبدونها: إما طمعًا بشيء يبذلونه؛ ليرجعوا إلى عبادة الأوثان والأصنام عن عبادة اللَّه، أو تخويفًا منهم لهم، فقال: قل يا مُحَمَّد أندعو من دون اللَّه ما لا يملك نفعنا إن عبدناه، ولا يملك ضرنا إن تركنا عبادته، بعدما عبدنا الذي يملك نفعنا إن عبدناه، ويملك ضرنا إن تركنا عبادته؟! ويشبه أن يكون قوله: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا) أنه ما من أحد: من مشرك ومؤمن، إلا وله أصحاب يدعونه: أما المؤمن: فله أصحاب من الملائكة يدعونه إلى الهدى، والكافر: له شياطين يدعونه إلى الشرك؛ هذا أشبه أن يحمل عليه، لكن أهل التأويل حملوا الآية، على ما ذكرنا.
قال قتادة: هذه خصومة علمها اللَّه محمدا يخاصم بها أهل الشرك؛ لأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك.
قال ابن عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (اسْتَهْوَتْهُ): أضلته.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ذهبت به، استهوته وأهوته واحد، أي: دعته إلى الهلكة، وقيل: أضلته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء يعم العبادة وغيرها؛ لأن من جعل شيئاً موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل. {ما لا ينفعنا ولا يضرنا} يعني الأصنام، إذ هي جمادات: حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال: {ولا يضرنا} إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية. {ونرد على أعقابنا} تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدماً— وهي المشية الجيدة— فيرد يمشي القهقرى—وهي المشية الدنية— فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر، ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدي إلى عبادة الأصنام، و {هدانا} بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره: الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول قلق، وقوله تعالى: {كالذي استهوته الشياطين} الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رداً كرد الذي، و {استهوته} استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة: ويحتمل ُهِوَّيه، وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوى يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر: هوى ابْنِي مِنْ دَار أشرف... فَزَلَّتْ رِجُلُهُ ويَدُه. وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية، إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى، كما أن استزل بمعنى أزل. قال القاضي أبو محمد: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئاً، ويستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء، ومنه قوله تعالى: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}، ومنه قول شاعر الجن: [السريع] تهوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى... ما مؤمنُ الجِنّ كأنجاسِها وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية،... فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدي نعبد الأصنام، فيكون ذلك منا ارتداداً على العقب، فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائراً. وقوله: {وله أصحاب} يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه، فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس، ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولاً، يدعونه إلى الهدى بزعمهم، وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً، و {ائتنا} من الإتيان بمعنى المجيء...
حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من نازع أحداً من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث، فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: {ائتنا}، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر، ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل. وهذا انتزاع حسن جداً،
وقوله تعالى: {قل إن هدى الله...}، من قال إن «الأصحاب» هم من الشياطين المستهزئين، وتأول إلى الهدى بزعمهم قال: إن قوله: {قل إن هدى الله هو الهدى} رد عليهم في زعمهم، فليس ما زعموه صحيحاً وليس بهدى، بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان، ومن قال: إن «الأصحاب» هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم، وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله: {قل إن هدى الله} بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه.
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} فقال: {قل أندعوا من دون الله} أي: أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا، ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام؟ ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل أنه رجع إلى خلف، ورجع على عقبيه ورجع القهقرى، والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم. قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة، فلهذا السبب يقال: فلان رد على عقبيه. قوله: {حيران} ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه. ومنه يقال: الماء يتحير في الغيم أي يتردد، وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن، وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه، لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يوجب كمال التردد والتحير، وأيضا فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل، فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال.
واعلم أن قوله: {إن هدى الله هو الهدى} دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات، وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به، فإما أن يكون من باب الأفعال، وإما أن يكون من باب التروك؛ الأول: فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح، ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له، ورئيس أعمال الجوارح الصلاة، وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى، وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي، والله سبحانه لما بين أولا أن الهدى النافع هو هدى الله، أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية، والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية، والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي، ثم بين منافع هذه الأعمال فقال: {وهو الذي إليه تحشرون} يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه (أي التوحيد) من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم، ويشرح لهم مفهومه، ويفصل لهم مضمونه، ويبين لهم مقابله (وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى: {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دين الله} [الأنفال: 66] الخ، وحيز قوله: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 63] وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة) وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى. وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى، والآيتان بعدها في التذكير بدلائل ذلك وعاقبته، وصدق وعيده تعالى وكمال علمه وحكمته فيه.
قال: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله} روي عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فقال الله: {قل أندعوا} الآية. وعن قتادة أنه قال في الآية: خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة. ولعل هذا مراد السدي إذ لا يظهر أن مراده أن المشركين قالوا ذلك مرة واحدة لبعض المؤمنين أو لجميعهم. بل كانوا يفتنون المسلمين دائما ويدعونهم إلى العود إلى الكفر ومنه ما روي من دعوة عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما لأبيه إلى الشرك- فنزلت الآية ردا عليهم، فلقنهم الله تعالى هذه الحجة المؤثرة بما فيها من المثل الجلي الواضح لحالي الشرك وضلاله والتوحيد وهدايته، في سياق حجج الحق الكثيرة في هذه السورة التي نزلت دفعة واحدة كما تقدم. والاستفهام للإنكار والتعجب والمعنى قل أندعو- متجاوزين دعاء الله القادر على استجابة دعائنا- ما لا يضرنا ولا ينفعنا كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله، ونرد على أعقابنا بالعود إلى ضلالة الشرك الفاضحة بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام؟
ومن بلاغة هذه العبارة أنها بينت علة الإنكار والتعجب في الاستفهام من خمسة أوجه: أحدها: إن دعاء غير الله تعالى تحول وارتداد عن دعاء القادر على كل شيء الذي يكشف ما يدعى إليه إن شاء، إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
ثانيهما: أنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء، والعرب تقول فيمن عجز بعد قدرة، أو سفل بعد رفعة، أو أحجم بعد إقدام على محمدة: نكص على عقبيه، وارتد على عقبيه، ورجع القهقرى. والأصل فيه رجوع الهزيمة أو الخيبة والعجز عن السير المحمود، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم.
ثالثها: التعبير ب "نردّ "المبني للمجهول بدل التعبير ب "نرتد" أو نرجع، والنكتة فيه أن هذا التحول المذموم ليس من شأنه أن يقع من عاقل، لأن العاقل إذا وصل إلى مرتبة عالية من العلم والكمال فإنه لا يختار الرجوع عنها، واستبدال الذي هو أدنى، بالذي هو خير وأعلى، فإذا كانت فطرته وعقله يأبيان عليه هذه الردة والنكوص فكيف يرد وهو لا يرتد؟
رابعها: إن من أنقذه الله القدير العزيز الرحيم من الضلالة، وهداه إلى صراط السعادة، بما أراه من آياته في الأنفس والآفاق، وما شرح به صدره للإسلام، فمن يقدر أن يضله بعد إذ هداه الله {ومن يهد الله فما له من مضل، أليس الله بعزيز ذي انتقام} [الزمر: 37].
خامسها: المثل الذي يصور المرتد في أقبح حالة كانت تتصورها العرب، وذلك قوله تعالى: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا} قرأ حمزة استهواه بألف ممالة وكانوا يرسمونها ياء كأصلها وإن لم تكن طرفا ورسمها في المصحف الإمام هكذا (استهوته) وهو يحتمل القراءتين.
وتقدير التشبيه في الكلام: أنرد على أعقابنا بعد تلك الهداية مثل رد الذي استهوته الشياطين في الأرض، أو مشبهين بالذي استهوته الشياطين – الخ. قال أهل اللغة: استهوته الشياطين ذهبت بهواه وعقله، وقيل استهامته وحيرته، وقيل زينت له هواه، ويقال للمستهام الذي استهامته الجن: استهوته الشياطين. القتيبي: استهوته الشياطين – هوت به وأذهبته. جعله من هوى يهوي. وجعله الزجاج من هوى يهوى، أي زينت له هواه. كذا في لسان العرب وغيره. والمستهام هو الذي جعله العشق أو الجنون هائما أي يسير على وجهه لا يقصد غاية معينة، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، والأصل في قولهم: جن فلان – مسته الجن فذهبت بعقله. وكانوا يقولون إن الجن تظهر لهم في البراري والمهامه وتتلون لهم بألوان مختلفة فتذهب بلب من يراها فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك. والشياطين التي تتلون هي التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى (بوزن الصحارى)...
والحاصل أن اسم الجن والشياطين يطلق عند العرب على بعض الحشرات والحيوانات الضارة أو القبيحة وعلى ما يؤثر عن أهل الكتاب وغيرهم من العالم الروحي الغيبي الذي يوسوس للناس فيزين لهم الشر، ويلابس بعضهم أحيانا فيصابون بالصرع أو الجنون ويتمثل للكهان وغيرهم، ويراه الأنبياء وبعض الصالحين من باب الكرامة الخاصة. والأكاذيب عن جميع الأمم في ذلك كثيرة والشبهات فيها غير قليلة، ولكن قل المصدقون بها في بلاد العلم والمدينة.
بعد هذا الشرح نقول إن للمفسرين قولين في تفسير {كالذي استهوته الشياطين} أشرنا إليها في تفسير الاستهواء، الأول: إنه تشبيه لمن يرتد مشركا بعد الإيمان بالمستهام الذي يضل في الفلوات حيران لا يهتدي تاركا رفاقه على الجادة ينادونه: ائتنا عد إلينا، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له من الغيلان بغير عقل ولا بصيرة. وهذا التفسير مروي عن السدي وهو إحدى روايتين عن ابن عباس قال السدي بعد بيان التشبيه: فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة لمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق والطريق هو الإسلام. ومما جاء عن ابن عباس في هذه الرواية أن القول « تدعوه باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا».
ومن المفسرين من يرى أن هذا التشبيه مثبت للغول الذي نفاه الحديث الصحيح الذي أخذ به جمهور العلماء كما تقدم، ومنهم من يرى أنه لا يقتضي إثباته لأن التشبيه قد يبنى على المتعارف لأجل التأثير، وقد أشار الزمخشري إلى ذلك بقوله: وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله: {كالذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275] اه. وقد شنع عليه ابن المنير في هذا إذ جعله من إنكار الجن- وهو لا ينكرهم- وتبعه الألوسي فقال: وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين اه. وما هذا التشنيع إلا من تعصب المذاهب، ولولاه لما وقع أمثال هؤلاء الأذكياء في هذه الغياهب، وقد علمت أنه لا دليل على كون ما كانت تزعمه العرب في الجاهلية من شياطين الجن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذبهم في دعوى الغول وأن جمهور العلماء أخذوا بهذا التكذيب ولم يؤولوه، وأن من أوله بإنكار تغول الغيلان وإضلالهم للناس مكذب للعرب في زعمها ذاك، وإنما بني التشبيه على ما قيل من استهوائهم وإضلالهم بتغولهم، لا على مجرد وجودهم، وإذا كان الاستهواء بتخيلات لا حقيقة لها يكون التشبيه أبلغ وأقوى. وخلاصته أن من يتبع داعي الشرك المستهوي بما لا حقيقة له من الأوهام الضارة الشيطانية، التي تنسب إلى الأغوال الخيالية. ولا يقتضي ذلك إنكار الجن والشياطين، وما كان الزمخشري ولا شيعته من المنكرين، وإنما الجن من عالم الغيب، لا نصدق من خبرهم إلا ما أثبته الشرع، وأما هو في قوته من دليل الحس أو العقل، ولم يثبت شرعا ولا عقلا ولا اختبارا أن شياطين الجن تأكل الناس، ولا أنها تظهر لهم في الفيافي والقفار، كما كانت تزعم العرب وغير العرب في طور الجهل والخرافات...
فإن فرضنا وقوع التعارض على هذا القول نمنعه بترجيح القول الثاني عليه وهو أن الذي استهوته الشياطين في الأرض هو الذي أضلته بوسوستها، وحملته على اتباع هواه فاتخذ دينه لعبا ولهوا، وغرته الحياة الدنيا فآثرها على الآخرة لإنكاره إياها أو عدم إيمانه بوعد الله ووعيده فيها. وهذا في معنى الرواية الأخرى عن ابن عباس قال: هو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وجار عن الحق وضل عنه. إلا أن في هذه الرواية أن أصحاب المستهوي الذين يدعونه إلى الهدى، هم الضالون المتبعون للهوى، وإنما يصحب الإنسان أمثاله، فالمراد: يدعونه إلى ما يزعمون أنه هدى كما هو شأن كل داع إلى ضلالة، فكلمة الهدى ذكرت بطريقة الحكاية، أو المراد بها الطريق الجادة، وقد روى أبو الشيخ عن مجاهد قال: في قراءة ابن مسعود (يدعونه إلى الهدى بينا) قال الهدى الطريق أنه بين. والكلام بعدها رد من الله تعالى لهذا الزعم، ومعناه أن الهدى صراط الله المستقيم لا ما هم عليه من طرق الوهم. وأنكر ابن جرير هذه الرواية، بناء على أن الجملة لم ترد على سبيل الحكاية، وإنما هي من كلام الله تعالى، والله تعالى لا يسمي الضلالة هدى، وسواء أصح ما أنكره ابن جرير أم لا، فإن المعنى الثاني لا يتوقف عليه، بل يصح أن يقال إن ذلك الذي استهوته الشياطين بوسوستها – حال كونه حيران – له أصحاب يدعونه إلى الهدى والخروج من ذلك الضلال، تتنازعه وسوسة شياطينه، ودعوة أصحابه، فلا يستطيع التفلت من الأولى فيكون من المهتدين، ولا البت برد الأخرى فيكون من الأخسرين، بل يظل هائما في حيرته، مضطربا في أمره، وإنما جعل دعاة الهدى أصحابا له، باعتبار ما كانوا عليه قبل إضلال الشياطين له، ومثل هذا لا يستقر على حال من القلق. والتشبيه يدل بهذا التوجيه على أن المرتد عن الإسلام لا يمكن أن يعود مطمئنا بالشرك، ووجه الاستفهام الإنكاري في أول الآية على هذا الوجه: أيعقل أن يختار هذه الحال السوءى التي لا بد منها لمن يرتد عن الإيمان، وهي أسوأ حال يمكن أن يكون عليها الإنسان؟
{قل إن هدى الله هو الهدى} أعاد الأمر من القول هنا كما أعاده فيما تقدم قريبا بمعنى ما هنا من التبرؤ من الشرك والضلالة، والاعتصام بما أنزل الله من الهداية، وهو قوله: {قل إني نهيت} – إلى قوله – {قل لا أتبع أهواءكم} الخ وفي ذلك ما فيه من العناية بكل من البراءة والاعتصام في النهي والأمر، ويعبرون عنهما بالتخلي والتحلي. أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته، هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم، اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم، وهذا الهدى المعقول هو الذي دعينا إليه فأجبنا، وأمرنا به فأطعنا، {وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71)} فأسلمنا، واللام في « لنسلم» فيها وجهان أحدهما: أنها للتعليل، والتقدير وأمرنا بهذا الهدى لأجل أن نسلم قلوبنا ونوجهها لرب العالمين وحده بالإذعان والخضوع لدينه، والإخلاص في عبادته، إذا لا يستحق العبادة من العباد إلا ربهم الذي خلقهم وغذاهم بنعمه، وثانيهما: أنها للمصدرية أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين. وقد روي القول بتأويل الفعل بالمصدر هنا وفي مثل {يريد الله ليبين لكم – ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} الخ عن الخليل وسيبويه ومن تابعهما، وصرح الكسائي والفراء بأن اللام تكون حرفا مصدريا بعد الفعل من الأمر والإرادة خاصة. وهذا الوجه أوجه وأظهر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها؛ وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى؛ وبمشهد الذي يرجع القهقري مرتدا عن دين الله؛ وحيرته في التيه بلا اتجاه؛ وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى.. هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية. عن سلطان الله المطلق، في الأمر والخلق؛ وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور -حتى للمنكرين المطموسين- (يوم ينفخ في الصور) ويبعث من في القبور؛ ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده، وأن إليه المصير:
(قل: أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، كالذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران، له أصحاب يدعونه إلى الهدى. ائتنا. قل: إن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين. وأن أقيموا الصلاة واتقوه)..
(قل).. الإيقاع القوي المتكرر في السورة؛ الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو منذر ومبلغ؛ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته؛ وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مأمور به من ربه.
(قل: أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا؟)..
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا. سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما، حجرا أو شجرا، روحا أم ملكا، شيطانا أم إنسانا.. فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون. فهم أعجز من النفع والضر. وكل حركة إنما تجري بقدر من الله. فما لم يأذن به الله لا يكون، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور..
قل لهم مستنكرا دعوة غير الله، وعبادة غير الله، والاستعانة بغير الله، والخضوع لغير الله. وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه.. وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون، وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.. فإن المؤدى في النهاية واحد؛ وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور؛ بعيدا عن الموروثات الراسبة، وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة!
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده، واتخاذه وحده إلها، والدينونة له وحده بلا شريك: 1 (قل: أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا؟..
فهو ارتداد على الأعقاب؛ ورجوع إلى الوراء؛ بعد التقدم والارتقاء..
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير:
(كالذي استهوته الشياطين في الأرض) (..حيران.. له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنًا)..
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد، والآلهة المتعددة من العبيد! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال، فيذهب في التيه.. إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس: (الذي استهوته الشياطين في الأرض) -ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله- ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد -ولو في طريق الضلال! -
ولكن هناك، من الجانب الآخر، أصحاب له مهتدون، يدعونه إلى الهدى، وينادون (ائتنا)- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء (حيران) لا يدري أين يتجه، ولا أي الفريقين يجيب!
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير!
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرأت هذا النص.. ولكن مجرد تصور.. حتى رأيت حالات حقيقية، يتمثل فيها هذا الموقف، ويفيض منها هذا العذاب.. حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه -أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق- ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة، تحت قهر الخوف والطمع.. ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير.. وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة، وماذا يعني هذا التعبير!
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس.. يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم:
(قل: إن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه)
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم..
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم:
هو وحدة الهدى -كما يفيد التركيب البياني للجملة- وإنه لكذلك عن يقين..
وإن البشرية لتخبط في التيه، كلما تركت هذا الهدى، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها، وأنظمتها وأوضاعها، وشرائعها وقوانينها، وقيمها وموازينها، بغير (علم) ولا (هدى) ولا (كتاب منير)..
إن "الإنسان "موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض، وترقية هذه الحياة.. ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب، ومنها غيب عقله هو وروحه، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف، والتي تدفعها للعمل هكذا، وبهذا الانتظام، وفي هذا الاتجاه.
ومن ثم يحتاج هذا "الإنسان" إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق، وموازين وقيم، وأنظمة وأوضاع، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة..
وكلما فاء هذا "الإنسان" إلى هدى الله اهتدى. لأن هدى الله هو الهدى. وكلما بعد كلية عنه، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل. لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال.. إذ ليس هنالك نوع ثالث (فماذا بعد الحق إلا الضلال؟).
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال -وما تزال كلها تذوق- ما هو "حتمي" في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله.. فهذه هي "الحتمية التاريخية" الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله، ومن خبر الله، لا تلك الحتميات المدعاة! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله، لا يحتاج أن ينقب، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان.
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده، وعبادته وحده، ومخافته وتقواه: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه)..
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى؛ وأننا -من ثم- أمرنا أن نسلم لرب العالمين. فهو وحده الذي يستسلم له العالمون. فالعوالم كلها مستسلمة له، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده -من بين العالمين- يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه.. إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة، للنواميس التي وضعها الله لها؛ وهي لا تملك الخروج عليها، والإنسان -من ناحية تركيبه العضوي- يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها، ولا يملك الخروج عليها.. فلا يبقى إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه، وهو جانب الاختيار.. اختيار الهدى أو الضلال.. ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي، لاستقام أمره، وتناسق تكوينه وسلوكه، وجسمه وروحه، ودنياه وآخرته
وفي إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين، فقد كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة. كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لَقي من عُمر بن الخطاب. وقد روي أنّ عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام، وأنّ الآية نزلت في ذلك، ومعنى ذلك أنّ الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلاّ فإنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة. وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يُرْضُونه بما أحبّ كما ورد في خبر أبي طالب.
والاستفهام إنكار وتأييس، وجيء بنون المتكلّم ومعه غيره لأنّ الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلّهم. و {من دون الله} متعلّق ب {ندعوا}. والمراد بما لا ينفع ولا يضرّ الأصنامُ، فإنَّها حجارة مشاهد عدمُ نفعها وعجزُها عن الضرّ، ولو كانت تستطيع الضرّ لأضرّت بالمسلمين لأنَّهم خلعوا عبادتها وسفَّهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها، فلمَّا جعلوا عدَم النفع ولا الضرّ علَّة لنفي عبادة الأصنام فقد كنّوا بذلك عن عبادتهم النافع الضارّ وهو الله سبحانه.
وقوله: {ونُردّ على أعقابنا} عطف على {ندعوا} فهو داخل في حيّز الإنكار. والردّ: الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه، كقوله تعالى: {رُدّوها عليّ} [ص: 33].
والأعقاب جمع عَقِب وهي مؤخّر القدم. وعقب كلّ شيء طَرفه وآخره ويقال: رجع على عَقِبه وعلى عَقِبَيْه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنَّه كان جاعلاً إيَّاه وراءه فرَجَع.
وحرف (على) فيه للاستعلاء، أي رجع على طريق جهة عقبه، كما يقال: رجع وراءه، ثم استعمل تمثيلاً شائعاً في التَّلبّس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبُها ثم عاد إليها وتلبّس بها، وذلك أنّ الخارج إلى سفر أو حاجة فإنَّما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القُدُمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيَه؛ فيمثّل حاله بحال من رجع على عقبيه. وفي الحديث: « اللهمّ أمْض لأصحابي هِجْرتهم ولا تَرُدّهم على أعقابهم» فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتدّ إلى الشرك بعد أن أسلَم بحال من خرج في مهمّ فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له. وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يُقال: ونرجعُ إلى الكفر بعد الإيمان.
وقد أضيف (بعد) إلى {إذْ هدانا} وكلاهما اسم زمان، فإنّ (بعد) يدلّ على الزمان المتأخِّر عن شيء كقوله: {ومن بعد صلاة العشاء} [النور: 58] و (إذا) يدلّ على زمان معرّف بشيء، ف (إذا) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولاً فيه. والمعنى بعدَ الزمن الذي هدانا الله فيه، ونظيره {ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} في سورة [آل عمران: 8].
{كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا}
ارتقى في تمثيل حالهم لو فُرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ، بقوله: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض}، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسُوسينَ. فالكاف في موضع الحال من الضمير في {نُردّ على أعقابنا}، أي حال كوننا مشْبهينَ للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في {نردّ على أعقابنا} من معنى التَمثيل بالمرتدّ على أعقابه.
والاستهواء استفعال، أي طلب هَوى المرء ومحبّتِه، أي استجلاب هَوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلِب. وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية. فقال: استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ. ووقع في « الكشَّاف» أنَّه استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهب فيها، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمَّة اللغة ولِم يذكره هو في « الأساس» مع كونه ذكر {كالذي استهوته الشياطين} ولم ينبِّه على هذا مَن جاء بعده.
والعرب يقولون: استهوته الشياطين، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيَّرتْه كما تريد. وذلك قريب من قولهم: سَحَرتْه، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجن، ويقولون أيضاً: استهامته الجنّ إذا طلبت هُيامه بطاعتها.
وقوله: {في الأرض} متعلّق ب {استهوته}، لأنَّه يتضمَّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض. وذلك لأنّ الحالة التي تتوهَّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكباً رأسه لا ينتصح لأحد، كما وقع لكثير من مجانينهم ومَن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم. ومن أشهرهم عَمْرو بن عَدي الأيادي اللخمي ابن أخت جُذيمة بن مالك ملك الحيرة. وجوّز بعضهم أن يكون {في الأرض} متعلِّقاً ب {حَيْران}، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول.
و {حَيْرانَ} حال من {الذي استهوتْه}، وهو وصف من الحَيْرة، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل. يقال: حارَ يحَار إذ تاهَ في الأرض فلم يعلم الطريق. وتطلق مجازاً على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه، وانتصب {حيران} على الحال من {الذي}.
وجملة: {له أصحاب} حال ثانية، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجنّ. فجملة {يدعونه} صفة ل {أصحاب}.
والدعاء: القول الدالّ على طلب عمل من المخاطب. والهدى: ضدّ الضلال. أي يدعونه إلى ما فيه هدَاه. وإيثارُ لفظ {الهُدى} هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبَّهة. ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} في سورة [البقرة: 17]. ولذلك كان لتعقيبه بقوله: قل إنّ هدى الله هو الهدى} وقع بديع. وجوّز في « الكشاف» أن يكون الهدى مستعاراً للطريق المستقيم.
وجملة: {ائتنا} بيان ل {يدعونه إلى الهدى} لأنّ الدعاء فيه معنى القول. فصحّ أن يبيّن بما يقولونه إذا دعَوه، ولكونها بياناً فُصلت عن التي قبلها، وإنَّما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكِين التمثيل من ذهن السامع، لأنّ المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يَفهم منه أنَّه ضالّ لأنّ من خُلق المجانين العناد والمكابرة، فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتُهم في صحبته ومحبتُهم إيَّاه، فيقولون: ايتنا، حتَّى إذا تمكَّنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته.
وقد شبّهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فُرض ارتدادُه إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إيَّاه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدّونه عنه، بحَال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجنّ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلاً عارفاً بمسالكها، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبّه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بها، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون، ويشبّه الكفر بالهُيام في الأرض، ويشبّه المشركون الذين دعَوْهم إلى الارتداد بالشياطين وتُشَبّه دعوة الله الناس للإيمان ونزولُ الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى. وعلى هذا التفسير يكون {الذي} صادقاً على غير معيّن، فهو بمنزلة المعرّف بلام الجنس. وروي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر الصدّيق حين كان كافراً وكان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه.
{قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين}
جملة: {قل إنّ هدى الله هو الهدى} مستأنفة استئنافَ تكرير لِما أمِر أن يقوله للمشركين حين يدعون المسلمين إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقد روي أنَّهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم اعْبُد آلهتنا زمناً ونعبُدُ إلهك زمناً. وكانوا في خلال ذلك يزعمون أنّ دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر. وهي {إنّ هدى الله هو الهدى} فجيء بتعريف الجزأيْن، وضمير الفصل، وحرف التوكيد، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكّدات، لأنّ القصر بمنزلة مؤكِّدَيْن إذ ليس القصر إلاّ تأكيداً على تأكيد، وضمير الفصل تأكيد، و (إنّ) تأكيد، فكانت مقتضَى حال المشركين المنكرين أنّ الإسلام هدى.
وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى، وهو الدين المُوصى به، وهو هنا الإسلام، بقرينة قوله {بعد إذْ هدانا الله}. وقد وصف الإسلام بأنَّه {هُدى الله} في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتَّى تتّبع ملَّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى} في سورة [البقرة: 120]، أي القرآن هو الهدى لا كُتُبُهم.
وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس، وهو قصر إضافي لأنّ السياق لردّ دعوة المشركين إيَّاهم الرجوع إلى دينهم المتضمِّنة اعتقادهم أنَّه هدى، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل، بخلاف ما في سورة البقرة.
وجملة: {وأمِرْنا لِنُسْلِم} عطف على المقول. وهذا مقابل قوله {قل إنِّي نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} [الأنعام: 56]، وقوله {قل أندعو من دون الله} الآية.
واللام في {لِنُسْلِم} أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرّد التأكيد. وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادّة الأمر ومادّة الإرادة. وسمَّاها بعضهم لام أنْ بفتح الهمزة وسكون النون قال الزجَّاج: العرب تقول: أمَرْتُك بأنْ تفعل وأمرتُك أن تفعل وأمرتك لِتَفعل. فالباء للإلصاق، وإذا حذفوها فهي مقدّرة مع (أنْ). وأمَّا أمرتك لتفعل، فاللام للتعليل، فقد أخبر بالعلَّة التي لها وقَع الأمر. يعني وأغنت العلَّة عن ذكر المعلّل. وقيل: اللام بمعنى الباء، وقيل: زائدة، وعلى كلّ تقدير ف (أنْ) مضرة بعدها، أي لأجل أن نُسْلِمَ. والمعنى: وأمرنا بالإسلام، أي أمرنا أن أسلموا. وتقدّم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى: {يريد الله ليُبيّن لكم} في سورة [النساء: 26].
واللام في قوله: {لربّ العالمين} متعلِّقة ب {نسلم} لأنَّه معنى تخلّص له، قال: {فقل أسلمت وجهي لله}. وقد تقدّم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى: {إذ قال له ربّه أسْلِم قال أسلمت لربّ العالمين} في سورة [البقرة: 131].
وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العَلَم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقِّيّته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا). هذه الآية تشير إِلى أنّ أفعال الإِنسان تنشأ عادة عن دافعين، فهي إِمّا أن تهدف إِلى استجلاب منفعة (مادية كانت أم معنوية)، وإمّا إِلى دفع ضرر (مادياً كان أم معنوياً). فكيف يقدم الإِنسان على أمر ليس فيه أي من هذين العاملين؟ ثمّ يأتي باستدلال آخر على المشركين، فيقول: إِذا عدنا إِلى عبادة الأصنام، بعد الهداية الإِلهية نكون قد رجعنا القهقري، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو قانون حياتي عام: (ونردّ على أعقابنا بعد إِذ هدانا الله).