وأخيرا يمن الله على رسوله [ ص ] أن عصمه من الانسياق وراء المتأمرين المبيتين ؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول - ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم . . وهي المنة على البشرية كلها ، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله :
( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك . وما يضلون إلا أنفسهم . وما يضرونك من شيء . وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة . وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيمًا ) .
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة ، شتى الألوان والأنواع ؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب . ولكن الله - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة . وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة . . وسيرة رسول الله [ ص ] حافلة بتلك المحاولات ؛ ونجاته وهدايته ؛ وضلال المتأمرين وخيبتهم .
والله - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه ؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا . بفضل من الله ورحمة .
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة ؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم برىء وتبرئة جارم ، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة . . تجى ء المنة الكبرى . . منة الرسالة :
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيمًا .
وهي منة الله على " الإنسان " في هذه الأرض . المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا . ونشأ بها " الإنسان " كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى . .
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية ، لترقى بها في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة . عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب . .
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية . .
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله [ ص ] فلأنه هو أول من عرفها وذاقها . وأكبر من عرفها وذاقها . وأعرف من عرفها وذاقها . .
وقوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } قال الإمام ابن أبي حاتم : أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليَّ ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق . عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان - وذكر قصة بني أبيرق ، فأنزل الله : { لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } يعني : أُسَيْر بن{[8302]} عروة وأصحابه . يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم ، وهم صلحاء برآء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا أنزل الله فصل القضية{[8303]} وجلاءها لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتاب ، وهو القرآن ، والحكمة ، وهي السنة : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } أي : [ من ]{[8304]} قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ]{[8305]} } [ الشورى : 52 ، 53 ] وقال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [ القصص : 86 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } ولولا أن الله تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن ، فكففت لذلك عن الجدال عنه ، ومدافعة أهل الحقّ عن حقهم قبله¹ { لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ } يقول : لهمت فرقة منهم ، يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ، { أنْ يُضِلّوكَ } يقول : يزلوك عن طريق الحق ، وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادّعى عليه ، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه ، فقال الله تبارك وتعالى : وما يضلّ هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره ، إلا أنفسهم .
فإن قال قائل : ما كان وجه إضلالهم أنفسهم ؟ قيل : وجه إضلالهم أنفسهم : أخذهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذ بها فيه من سبله ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان والأمر بالتعاون على الحقّ ، فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } معاونة من ظلموه دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم ، فكان سعيهم في معونتهم دون معونة من ظلموه ، أخذا منهم في غير سبيل الله ، وذلك هو إضلالهم أنفسهم ، الذي وصفه الله فقال : { وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } وما يضرّك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلوك عن الحقّ في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء ، لأن الله مثبتك ومسدّدك في أمورك ومبين لك أمر من سعوا في ضلالك عن الحقّ في أمره وأمرهم ، ففاضحه وإياهم .
وقوله : { وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ } يقول : ومن فضل الله عليك يا محمد مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه ، أنه أنزل عليك الكتاب ، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء ، وهدى وموعظة ، { والحِكْمَةَ } : يعني وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة ، وهي ما كان في الكتاب مجملاً ذكره ، من حلاله وحرامه ، وأمره ونهيه وأحكامه ، ووعده ووعيده . { وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } من خبر الأوّلين والاَخرين ، وما كان ، وما هو كائن قبل ، ذلك من فضل الله عليك يا محمد مذ خلقك ، فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك بالتمسك بطاعته ، والمسارعة إلى رضاه ومحبته ، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته ، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه ، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله ، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله ، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن ، ولا أحد من دونه ينقذك من سوء إن أراد بك إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه واتبعت هوى من حاول صدّك عن سبيله . وهذه الاَية تنبيه من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على موضع حظه ، وتذكير منه له الواجب عليه من حقه .
قوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك } عطف على { ولا تكن للخائنين خصيماً } [ النساء : 105 ] .
والمراد بالفضل والرحمة هنا نِعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه . وظاهر الآية أنّ هَمّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يُضلّون الرسول غيرُ واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل . ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلاّ حكاية الصدق عنده ، وأنّ بني ظَفَر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ ، أوْ أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسِين خِيفة أن يُطلع الله رسوله على جليّة الأمر ، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعاً لا هَمّا ، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به ، وإنّما كان انتفاءُ همّهم تضليلَه فضلاً ورحمة ، لدلالته على وقاره في نفوس الناس ، وذلك فضل عظيم .
وقيل في تفسير هذا الانتفاء : إنّ المراد انتفاء أثره ، أي لولا فضل الله لضلِلْت بهمّهم أن يُضلّوك ، ولكن الله عصمك عن الضلال ، فيكون كناية . وفي هذا التفسير بُعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى .
ومعنى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أنّهم لو همُّوا بذلك لكان الضلال لاحقاً بهم دونك ، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول ، فحقّ عليهم الضلال بذلك ، ثم لا يجدونك مصغِيا لضلالهم ، و { من } زائدة لتأكيد النفي . و { شيء } أصله النَّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله { يضرّونك } أي شيئاً من الضرّ ، وجُرّ لأجل حرف الجرّ الزائد .
وجملة : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } عطف على { وما يضرونك من شيء } . وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته } ولذلك ختمها بقوله : { وكان فضل الله عليك عظيماً } ، فهو مثل ردّ العجز على الصدر . والكتاب : والقرآن . والحكمة : النبوءة . وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّباتِ .