وهنا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر . وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني .
ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون ، فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام ، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد .
ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية - بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها ؛ وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود ! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون . وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم ، فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين . وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد . . كله قد تقطع ، فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية . . فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم .
لنا أن نتصور هذا كله . أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير ، مشهد وفاتهم ، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم : على أي دين كانوا ، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال . ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب :
( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها . إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا : ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم : لنتخذن عليهم مسجدا ) .
إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس . يقرب إلى الناس قضية البعث . فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق ، وأن الساعة لا ريب فيها . . وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم .
وقال بعض الناس : ( ابنوا عليهم بنيانا )لا يحدد عقيدتهم ( ربهم أعلم بهم )وبما كانوا عليه من عقيدة . وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان : ( لنتخذن عليهم مسجدا )والمقصود معبد ، على طريقة اليهود والنصارى في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والقديسين . وكما يصنع اليوم من يقلدونهم من المسلمين مخالفين لهدى الرسول [ ص ] " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " .
يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : أطلعنا عليهم الناس { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا }
ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة . وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا : تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد . فبعث الله أهل الكهف حجة{[18063]} ودلالة وآية على ذلك .
وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة ، في شراء شيء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة ، حتى انتهى إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها دقسوس{[18064]} وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر :
أما الدّيارُ فَإنَّها كَديارهِم *** وَأرَى رجالَ الحَي غَيْرَ رجَاله
فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدًا من أهلها ، لا{[18065]} خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونًا أو مسًا ، أو أنا حالم ، ويقول : والله ما بي شيء{[18066]} من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة . ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي . ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعامًا . فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا قد وجد كنزا . فسألوه عن أمره ، ومن أين له هذه النفقة ؟ لعله وجدها من كنز . ومن أنت ؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه المدينة{[18067]} وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس . فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى وليّ أمرهم ، فسأله عن شأنه وعن أمره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله ، وما هو فيه . فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف : مُتَوَلّى البلد وأهلها ، حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي ،
فيقال : إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبره{[18068]} ويقال : بل دخلوا عليهم ، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلمًا فيما قيل ، واسمه تيدوسيس{[18069]} ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه{[18070]} وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله ، عز وجل ، فالله أعلم .
قال قتادة : غزا{[18071]} ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ، فرأوا فيه عظامًا ، فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف ؟ فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة . رواه ابن جرير .
وقوله : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }{[18072]} أي : كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أي : في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } أي : سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }
حكى ابن جرير في القائلين{[18073]} ذلك قولين : أحدهما : إنهم المسلمون منهم . والثاني : أهل الشرك منهم ، فالله أعلم{[18074]}
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ . ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " {[18075]} يحذر ما فعلوا . وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق ، أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوَاْ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَأَنّ السّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رّبّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىَ أَمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مّسْجِداً } .
يقول تعالى ذكره : وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم ساعة رقدوا ، ليتساءلوا بينهم ، فيزدادوا بعظيم سلطان الله بصيرة ، وبحسن دفاع الله عن أوليائه معرفة كَذلكَ أعْثَرْنا عَلَيْهِمْ يقول : كذلك أطلعنا عليهم الفريق الاَخر الذين كانوا في شكّ من قُدرة الله على إحياء الموتى ، وفي مِرْية من إنشاء أجسام خلقه ، كهيئتهم يوم قبضهم بعد البِلَى ، فيعلموا أن وعْد الله حقّ ، ويُوقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكذلكَ أعْثَرْنا عَلَيْهِمْ يقول : أطلعنا عليهم ليعلم من كذب بهذا الحديث ، أن وعد الله حقّ ، وأن الساعة لا ريب فيها .
وقوله : إذْ يَتَنازَعُون بَيْنَهُمْ أمْرَهُمْ يعني : الذين أعثروا على الفتية . يقول تعالى : وكذلك أعثرنا هؤلاء المختلفين في قيام الساعة ، وإحياء الله الموتى بعد مماتهم من قوم تيذوسيس ، حين يتنازعون بينهم أمرهم فيما الله فاعل بمن أفناه من عباده ، فأبلاه في قبره بعد مماته ، أمنشئهم هو أم غير منشئهم . وقوله : فقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانا يقول : فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف : ابنوا عليهم بنيانا رَبّهمْ أعْلَمُ بِهِمْ يقول : ربّ الفتية أعلم بالفتية وشأنهم . وقوله : قالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ يقول جلّ ثناؤه : قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا .
وقد اختُلف في قائلي هذه المقالة ، أهم الرهط المسلمون ، أم هم الكفار ؟ وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى ، وسنذكر إن شاء الله ما لم يمض منه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ الّذِينَ غَلَبُوا على أمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا قال : يعني عدوّهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : عمّى الله على الذين أعثرهم على أصحاب الكهف مكانهم ، فلم يهتدوا ، فقال المشركون : نبني عليهم بنيانا ، فإنهم أبناء آبائنا ، ونعبد الله فيها ، وقال المسلمون : بل نحن أحقّ بهم ، هم منا ، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه ، ونعبد الله فيه .
{ وكذلك أعثرنا عليهم } وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم . { ليعلموا } ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم . { أن وعد الله } بالبعث أو الموعود الذي هو البعث . { حق } لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يبعث . { وان الساعة لا ريب فيها } وأن القيامة لا ريب في إمكانها ، فإن من توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظا أبدانها عن التحلل والتفتت ، ثم أرسلنا إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكا إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها . { إذ يتنازعون } ظرف ل { أعثرنا } أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون . { بينهم أمرهم } أمر دينهم ، وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول يبعثان معا ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معا ، أو أمر الفتية حين أماتهم الله ثانيا بالموت فقال بعضهم ، ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة ، أو قالت طائفة نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتخذونه قربة ، وقال آخرون لنتخذن عليهم مسجدا يصلى فيه كما قال تعالى : { فقالوا ابنُوا عليهم بُنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنّ عليهم مسجدا } وقوله { ربهم أعلم بهم } اعتراض إما من الله ردا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم ، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكرا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك . حكي أن المبعوث لما دخل السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك -وكان نصرانيا موحدا- فقص عليه القصص ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبني عليم مسجدا . وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا ، فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجدا .
{ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها }
انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرَةِ أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم باطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطرِيقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره .
وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم ، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان .
فالكلام عطف على قوله : { وكذلك بعثناهم } [ الكهف : 19 ] الآية .
والقول في التشبيه والإشارة في وكذلك } نظيرُ القول في الذي قبله آنفاً .
والعثور على الشيء : الاطلاع عليه والظفَر به بعد الطلب . وقد كان الحديث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله : { ليعلموا أن وعد الله حق } الآية .
ومفعول { أعثرنا } محذوف دل عليه عموم { ولا يشعرن بكم أحداً } [ الكهف : 20 ] . تقديره : أعثرنا أهل المدينة عليهم .
وضمير { ليعلموا } عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور .
ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث . وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها ، أي ساعة الحشر ، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية ، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق .
الظرف متعلق ب { أعثرنا } ، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم . وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم . وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى : { أمرهم } فضمير { يتنازعون } و { بينهم } عائدان إلى ما عاد الله ضمير { ليعلموا } .
وضمير { أمرهم } يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف . والأمر هنا بمعنى الشأن .
والتنازع : الجدال القوي ، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف ، مثل : أكانوا نياماً أم أمواتاً ، وأيبقون أحياء أم يموتون ، وأيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة ، وفي مدة مكثهم .
ويجوز أن يكون ضمير { أمرهم } عائداً إلى ما عاد عليه ضمير { يتنازعون } ، أي شأنهم فيما يفعلونه بهم .
والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع .
{ فقالوا ابنوا عليهم نبيانا ربهم أعلم بهم قال غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا }
طوي هنا وصف العثور عليهم ، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره ، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي .
وتفريع { فقالوا } على { يتنازعون } .
وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنياناً لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين ، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب ، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناءً يمكن غلق بابه وحراسته .
وجملة { ربهم أعلم بهم } يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا ، ابنوا عليهم بنياناً .
والمعنى : ربهم أعلم بشؤونهم التي تنزعنا فيها ، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم . ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم ، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه .
والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة ، فضمير { أمرهم } يعود إلى ما عاد إليه ضمير { فقالوا } ، أي الذين غلبوا على أمر القائلين : ابنوا عليهم بنياناً .
وإنما رأوا أن يكون البناء مسجداً ليكون إكراماً لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم . وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى ، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها : « ولولا ذلك لأبرز قبرُه » ، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة .
واتخاذ المساجد على القبور ، والصلاة فيها منهي عنه ، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيهٌ بفعل من يعبدون صالحي ملتهم . وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم ، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميّت . وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية ، فإن كان شرعاً لهم فقد نسخه الإسلام ، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر .