في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

27

( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم ) . .

إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية :

" لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ؛ والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ؛ ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير ، وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ؛ يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ؛ فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ؛ والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .

كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان ، وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ؛ وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ؛ ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته ، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ؛ وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ؛ وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ؛ وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله

وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ؛ وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه ، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشاروه في ذلك ، فأشار عليهم بذلك - وأشار بيده إلى حلقه - أي : إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ، ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة ، فربط نفسه في سارية منه ، فمكث كذلك تسعة أيام ، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد ، حتى أنزل الله توبته على رسوله . فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [ وسلم ]{[12848]} بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله ، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال{[12849]} يجزيك الثلث أن تصدق به " {[12850]}

وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي ، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، رضي الله عنه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } الآية .

وقال ابن جرير أيضا : حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف ، حدثنا شَبَابة بن سَوَّار ، حدثنا محمد بن المحرم قال : لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله ؛ أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في كذا وكذا . فقال النبي{[12851]} صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " إن أبا سفيان في موضع{[12852]} كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا " فكتب رجل من المنافقين إليه : إن محمدًا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[12853]} { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الآية{[12854]}

هذا حديث غريب جدًّا ، وفي سنده وسياقه نظر .

وفي الصحيحين قصة " حاطب بن أبي بَلْتَعَة " أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه ، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال : " دعه ، فإنه قد شهد بدرا ، ما{[12855]} يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " {[12856]}

قلت : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء . والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد - يعني الفريضة يقول : لا تخونوا : لا تنقضوها .

وقال في رواية : { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } يقول : بترك سنته وارتكاب معصيته .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير في هذه الآية ، أي : لا تظهروا لله{[12857]} من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم .

وقال السُّدِّيّ : إذا خانوا الله والرسول ، فقد خانوا أماناتهم .

وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين . وقال عبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ]{[12858]} نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون .


[12848]:زيادة من د، ك، م، أ.
[12849]:في أ: "فقال له".
[12850]:رواه الطبري في تفسيره (13/481).
[12851]:في أ: "رسول الله".
[12852]:في أ: "بمكان".
[12853]:زيادة من د، ك، م.
[12854]:تفسير الطبري (13/480).
[12855]:في ك، م: "وما".
[12856]:انظر: تخريجه عند تفسير الآية: 9 من هذه السورة.
[12857]:في د، ك، م: "لا تظهروا له".
[12858]:زيادة من أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوَاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تَخُونُوا الله . وخيانتهم الله ورسوله كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمان في الظاهر والنصيحة ، وهو يستسرّ الكفر والغشّ لهم في الباطن ، يدلّون المشركين على عورتهم ، ويخبرونهم بما خفي عنهم من خبرهم .

وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الاَية ، وفي السبب الذي نزلت فيه ، فقال بعضهم : نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرّ المسلمين . ذكر من قال ذلك .

حدثنا القاسم بن بشر بن معروف ، قال : حدثنا شبابة بن سوّار ، قال : حدثنا محمد بن المحرم ، قال : لقيت عطاء بن أبي رباح ، فحدثني ، قال : ثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «إنّ أبا سُفْيانَ فِي مَكانِ كَذَا وكَذَا فاخْرُجُوه إلَيْهِ وَاكْتُمُوا » قال : فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : إن محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم فأنزل الله عزّ وجلّ : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتخُونُوا أماناتِكُمْ .

وقال آخرون : بل نزلت في أبي لبابة للذي كان من أمره وأمر بني قريظة . ذكر من قال ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ قال : نزلت في أبي لبابة ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلى حلقه أنه الذبح . قال الزهري : فقال أبو لبابة : لا والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا ، حتى خرّ مغشيّا عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك قال : والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده . ثم قال أبو لبابة : إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن أنخلع من مالي ، قال : «يُجْزِيكَ الثّلُثُ أنْ تَصَدّقَ بِهِ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة ، يقول : نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ في أبي لبابة .

وقال آخرون : بل نزلت في شأن عثمان رضي الله عنه . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يونس بن الحرث الطائفي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عون الثقفيّ ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : نزلت هذه الاَية في قتل عثمان رضي الله عنه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ . . . الاَية .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله وخيانة أمانته . وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة ، وجائز أن تكون نزلت في غيره ، ولا خبر عندنا بأيّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته ، فمعنى الاَية وتأويلها ما قدمنا ذكره .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيهما الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ قال : نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ . . . الاَية ، قال : كانوا يسمعون من النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين .

واختلفوا في تأويل قوله : وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ فقال بعضهم : لا تخونوا الله والرسول ، فإن ذلك خيانة لأماناتكم وهلاك لها . ذكر من قال ذلك .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ : أي لا تظهروا لله من الحقّ ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السرّ إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم .

فعلى هذا التأويل ، قوله : وتَخُونُوا أماناتِكُمْ في موضع نصب على الظرف ، كما قال الشاعر :

لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ***عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ

ويروى : «وتأتي مثله » .

وقال آخرون : معناه : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : قوله : يا أَيّهما الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ يقول : لا تخونوا : يعني لا تنقصوها .

فعلى هذا التأويل : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم .

واختلف أهل التأويل في معنى الأمانة التي ذكرها الله في قوله : وتَخُونُوا أماناتِكُمْ فقال بعضهم : هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وتَخونُوا أماناتِكُمْ والأمانة : الأعمال التي أمن الله عليها العباد ، يعني : الفريضة . يقول : لا تَخُونُوا : يعني لا تنقصوها .

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أَيّهما الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ يقول : بترك فرائضه والرّسُولَ يقول : بترك سننه وارتكاب معصيته . قال : وقال مرّة أخرى : لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ والأمانة : الأعمال . ثم ذكر نحو حديث المثنى .

وقال آخرون : معنى الأمانات ههنا : الدّين . ذكر من قال ذلك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتخُونُوا أماناتِكُمْ دينكم . وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال : قد فعل ذلك المنافقون وهم يعلمون أنهم كفار ، يظهرون الإيمان . وقرأ : وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسالى . . . الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون أمنهم الله ورسوله على دينه فخانوا ، أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر .

فتأويل الكلام إذن : يا أيها الذين آمنوا لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ولا رسوله من واجب طاعته عليكم ، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه ، لا تنقصوهما ، وتخونوا أماناتكم ، وتنقصوا أديانكم ، وواجب أعمالكم ، ولازمها لكم ، وأنتم تعلمون أنها لازمة عليكم وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } بتعطيل الفرائض والسنن ، أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون ، أو بالغلول في المغانم . وروي : ( أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء بأرض الشام ، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم ، فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ ، فأشار إلى حلقه أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت . فشد نفسه على سارية في المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام يجيزك الثلث أن تتصدق به ) . وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام ، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه . { وتخونوا أماناتكم } فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو . { وأنتم تعلمون } أنكم تخونون ، أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

استئناف خطاب للمؤمنين يحذرهم من العصيان الخفي . بعد أن أمرهم بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حذرهم من أن يظهروا الطاعة والاستجابة في ظاهر أمرهم ويبطنوا المعصية والخلاف في باطنه ، ومناسبته لما قبله ظاهرة وإن لم تسبق من المسلمين خيانة وإنما هو تحذير .

وذكر الواحدي في « أسباب النزول » وروى جمهور المفسرين وأهل السير ، عن الزهري والكلبي ، وعبد الله بن أبي قتادة ، أنها نزلت في أبي لبابة{[243]} بن عبد المنذر الأنصاري لما حَاصر المسلمون بني قريظة ، فسألت بنو قريظة الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تَنزلون على حكم سعد بن مُعاذ " فأبوا وقالوا : « أرسل إلينا أبا لُبابة » فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أبا لُبابة وكان ولده وعيالُه وماله عندهم ، فلما جاءهم قالوا له ما ترى أننزل على حكم سعد ، فأشار أبو لُبابة بيده على حَلْقِه : أنّه الذبْح ، ثم فطن أنه قد خان الله ورسوله فنزلت فيه هذه الآية ، وهذا الخبر لم يثبت في الصحيح ، ولكنه اشتهر بين أهل السير والمفسرين ، فإذا صح ، وهو الأقرب كانت الآية مما نزل بعد زمن طويل من وقت نزول الآيات التي قبلها ، المتعلقة باختلاف المسلمين في أمر الأنفال فإن بين الحادثتين نحواً من ثلاث سنين ويقرب هذا ما أشرنا إليه آنفاً من انتفاء وقوع خيانة لله ورسوله بين المسلمين .

والخَوْن والخيانة : إبطال ونقضُ ما وقع عليه تعاقد من دون إعلان بذلك النقض ، قال تعالى : { وإمّا تخافَن من قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ } [ الأنفال : 58 ] والخيانة ضد الوفاء قال الزمخشري : « وأصل معنى الخَون النقصُ ، كما أن أصل الوفاء التمام ، ثم استعمل الخَون في ضد الوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه » أي واستعمل الوفاء في الإتمام بالعهد ، لأن من أنجز بما عاهد عليه فقد أتم عهده فلذلك يقال : أوفى بما عاهد عليه .

فالإيمان والطاعة لله ورسوله عهد بين المؤمن وبين الله ورَسوله ، فكما حُذروا من المعصية العلنية حذروا من المعصية الخفية .

وتشمل الخيانة كل معصية خفية ، فهي داخلة في { لا تخونوا } ، لأن الفعل في سياق النهي يعم ، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي ، فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال ، لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى ليتنفلوا منهم ، تعين تحذيرهم من الغلول ، فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها .

وفعل « الخيانة » أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون ، وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه ، يقال : خان فلاناً أمانتَه أو عهدَه ، وأصله أنه نصب على نزع الخافض ، أي خانه في عهده أو في أمانته ، فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء ، واقتصر على المخون فيه في قوله : { وتخونوا أماناتكم } أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم .

والنهي عن خيانة الأمانة هنا : إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة : إن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ مِن الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسراً ، لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء ، إذ هو مبعوث وليس بمستشار .

وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة ، وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي ، إلى ذكر المفعول المتّسَع فيه ، لِقصد تَبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة ، فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس ، فما يكون نقضاً له يكون قبيحاً فظيعاً ، ولأجل هذا لم يقل : وتخونوا الناسَ في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز .

والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن ؛ لأنه يأمنه من أن يضيعها ، والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه ، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة ، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها ، بمنزلة قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] دون : ولا تقتلوا النفس .

وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين ، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها ، وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إضاعتها والتهاون بها ، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين ، ففي « صحيح البخاري » عن حذيفة بن اليَمَان قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين : رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلتْ على جَذْر قلوب الرجال ثم عَلمِوا من القرآن ثم علَموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومة فَتُقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكْت ، ثم ينام النّومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المَجْل كجَمْر دَحُرَجْتَه على رِجْلِك فَنفِط فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً ، ويقال للرجل ما أعْقَلَه وما أظْرَفَه ومَا أجْلَدَه ، وما في قلبه مثقال حَبّهِ خَرْدَل من إيمان » .

( الوكت سواد يكون في البُسْر إذا قارب أن يصير رُطَباً ، والمَجْل غِلَظ الجلد من أثر العمل والخدمة ، ونَفِط تَقَرَّح ومُنْتَبِراً منتفخاً ) ، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، وحسبك من رفع شأن الأمانة : أن كان صاحبها حقيقاً بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين ، أمانة لهم ونصح ، ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة « ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لعهدت إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له إنه أمين هذه الأمة » .

وقوله : { وتخونوا } عطف على قوله : { لا تخونوا } فهو في حَيز النهي ، والتقدير : ولا تخونوا أماناتكم ، وإنما أعيد فعل { تخونوا } ولم يُكتف بحرف العَطف ، الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف ، للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فإن خيانتهم الله ورسوله نقضُ الوفاءِ لهما بالطاعة والامتثال ، وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه .

وجملة { وأنتم تعلمون } في موضع الحال من ضمير { تَخونوا } الأول والثاني ، وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي ، أو تشنيع المنهي عنه لأن النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد ، ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنَعَ ، فالحال هنا بمنزلة الصفة الكاشفة في قوله تعالى : { ومَن يَدْعُ مع الله إلهاً آخر لا بُرهان له به فإنما حِسابُه عند ربه } [ المؤمنون : 117 ] وقوله { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ البقرة : 22 ] وليس المراد تقييد النهي عن الخيانة بحالة العلم بها ، لأن ذلك قليل الجدوى ، فإن كل تكليف مشروط بالعلم وكون الخيانة قبيحة أمر معلوم .

ولك أن تجعل فعل { تَعْلمون } منزلاً منزلة اللازم ، فلا يُقدّر له مفعول ، فيكون معناه « وأنتم ذَوُو عِلم » أي معرفة حقائق الأشياء ، أي وأنتم عُلماء لا تجهلون الفرق بين المَحاسن والقبائح ، فيكون كقوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } في سورة البقرة ( 22 ) .

ولك أن تقدر له هنا مفعولاً دل عليه قوله : { وتخونوا أماناتكم } أي وأنتم تعلمون خيانة الأمانة أي تعلمون قبحها فإن المسلمين قد تقرر عندهم في آداب دينهم تقبيح الخيانة ، بل هو أمر معلوم للناس حتى في الجاهلية .


[243]:- قيل اسمه رفاعة وقيل مروان وقيل هارون وقيل غير ذلك واشتهر بكنيته.