في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون

هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل . قضية الإيمان والكفر . قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق ، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين . . وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم ، واستغفار الملائكة لهم ، واستجابة الله لدعائهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم .

وجو السورة كله - من ثم - كأنه جو معركة . وهي المعركة بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل . تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين !

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين ، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة - وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر - وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله ، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة .

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص : ( غافر الذنب . وقابل التوب . شديد العقاب . ذي الطول . لا إله إلا هو . إليه المصير ) . . فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع ، مستقرة المقاطع ، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي !

كذلك نجد كلمة البأس . وبأس الله . وبأسنا . . مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة . وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها .

وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين . وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق ، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية .

ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك . .

من مصارع الغابرين : ( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق . فأخذتهم . فكيف كان عقاب ? ) . . ( أو لم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض ، فأخذهم الله بذنوبهم ؛ وما كان لهم من الله من واق . ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا ، فأخذهم الله ، إنه قوي شديد العقاب ) . .

ومن مشاهد القيامة : ( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) . . ( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون . . )

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته . وذلك هو الفوز العظيم ) . .

ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق : ( هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ثم لتكونوا شيوخاً . ومنكم من يتوفى من قبل ، ولتبلغوا أجلاً مسمى ، ولعلكم تعقلون . هو الذي يحيي ويميت . فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) . . ( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . ذلكم الله ربكم خالق كل شيء . لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ? ) . . ( الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم . ورزقكم من الطيبات . ذلكم الله ربكم . فتبارك الله رب العالمين ) .

وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها ، وتتناسق مع موضوعها وطابعها .

ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة .

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة : ( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم )تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة : ( غافر الذنب . وقابل التوب . شديد العقاب ذي الطول . لا إله إلا هو . إليه المصير ) . . ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله . وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال . ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مهما تقلبوا في الخير والمتاع . فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم ؛ وقد أخذهم الله أخذاً ، بعقاب يستحق العجب والإعجاب ! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك . . ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم ، ويتوجهون إليه بالعبادة ، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح . . وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم : ( لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ) . . وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار ، يقرون بذنبهم ، ويعترفون بربهم ، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار ، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار . . ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا . . ( هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً )ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه : ( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) . ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب . ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة : ( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء )وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون : ( لمن الملك اليوم ? لله الواحد القهار ) . . ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء . ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه ، كما يتوارى الطغاة والفجار . .

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم . مقدمة لعرض جانب من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وهامان وقارون . تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق . وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ولا تعرض إلا في هذه السورة . وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه . يدفع عن موسى ما هموا بقتله ؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر ، ثم في صراحة ووضوح في النهاية . ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة ؛ ويحذرهم يوم القيامة ، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر ؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف - عليه السلام - ورسالته . . ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة . فإذا هم هناك . وإذا هم يتحاجون في النار . وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا ، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص . ولات حين خلاص ! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق ، والتوجه إلى إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار .

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر . ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله ، وهو أكبر من الناس جميعاً . لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله ؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً : ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء . قليلاً ما تتذكرون ) . ويذكرهم بمجيء الساعة ، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء . فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين . ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين . يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً . والأرض قراراً والسماء بناء . ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم . ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين . ويلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يبرأ من عبادتهم ، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم ، وأمره له بالإسلام لرب العالمين . ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة . . وهو الذي يحيي ويميت . ثم يعود فيعجب رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] من أمر الذين يجادلون في الله ؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف : ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ) . . وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً ! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم : ( ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ) . . وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى ، والثقة بأن وعد الله حق . سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه . فسيتم الوعد هناك . .

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث . فبعد توجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين . ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) . . على أن في الكون آيات قائمة ، وبين أيديهم آيات قريبة ؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها . . هذه الأنعام المسخرة لهم . من سخرها ? . وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها ! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى ? ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين ، وهم يرون بأس الله فيؤمنون( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا . سنة الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون ) . . هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين ، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل .

فلنسر الآن مع سياق السورة بالتفصيل . .

( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول ، لا إله إلا هو ، إليه المصير ) . .

هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين : حا . ميم . منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر : عين . سين . قاف . وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور . وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها . وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها ، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة غافر{[1]}

وهي مكية .

قد كره بعض السلف ، منهم محمد بن سيرين أن يقال : " الحواميم " وإنما يقال : " آل حم " .

قال عبد الله بن مسعود : " آل حم " ديباج القرآن .

وقال ابن عباس : إن لكل شيء لباباً ولُبَاب القرآن " آل حم " - أو قال : الحواميم .

قال مِسْعَر بن كِدَام : كان يقال لهن : " العرائس " .

روى ذلك كله الإمام العَلم{[2]} أبو عُبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتاب : " فضائل القرآن " . {[3]} وقال حُميد بن زَنْجويه : حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن عبيد الله {[4]} قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينا هو يسير فيه ويتعجب [ منه ] {[5]} ، إذ هبط على روضات دَمِثات فقال : عجبت من الغيث الأول ، فهذا أعجب وأعجب فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عِظَم{[6]} القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات ، مثل آل حم في القرآن . أورده البغوي{[7]} .

وقال ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب : أن الجرّاح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس ، قال : لكل شيء لباب ، ولباب القرآن الحواميم{[8]} .

وقال ابن مسعود : إذا وَقعتُ في " آل حم " فقد وقعتُ في روضات أتأنَّق فيهن {[9]} .

وقال أبو عبيد : حدثنا الأشجعي ، حدثنا مِسْعر - هو ابن كِدَام - عمن حدثه : أن رجلا رأى أبا الدرداء [ رضي الله عنه ]{[10]} يبني مسجداً ، فقال له : ما هذا ؟ فقال : أبنيه من أجل " آل حم " {[11]} .

وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق . وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وُضع له ، فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء ، كما قال رسول الله {[12]} صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات : " إن بَيّتم الليلة فقولوا : حم ، لا ينصرون " وفي رواية : " لا تنصرون " {[13]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن الحكم بن ظَبْيان بن خَلف المازني ، ومحمد بن الليث الهمداني قالا حدثنا موسى بن مسعود ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي ، عن زرارة بن مصعب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن ، عُصِم ذلك اليوم من كل سوء " .

ثم قال : لا نعلمه يُروى إلا بهذا الإسناد . ورواه الترمذي من حديث المليكي ، وقال : تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه{[14]} .

أما الكلام على الحروف المقطعة ، فقد تقدم في أول " سورة البقرة " بما أغنى عن إعادته هاهنا .

وقد قيل : إن { حم } اسم من أسماء الله عز وجل ، وأنشدوا في ذلك{[25400]} :

يُذَكِّرُني حامِيمَ والرمحُ شَاجرٌ*** فَهَلا تلا حَاميمَ قَبْل التَّقدُّمِ

وقد ورد {[25401]} في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ، من حديث الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن المهلب بن أبي صُفْرة قال : حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن بَيَّتم الليلة فقولوا : حم ، لا ينصرون " وهذا إسناد صحيح {[25402]} .

واختار أبو عبيد أن يُروى : " فقولوا : حم ، لا ينصروا " أي : إن قلتم ذلك لا ينصروا ، جعله جزاء لقوله : فقولوا .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[13]:في د: "الغالبة".
[14]:في د: "وضربوهما".
[25400]:- (2) البين في تفسير الطبري (24/26) وفي صحيح البخاري (8/553) "فتح" منسوبا إلى شريح بن أوفى العبسي.
[25401]:- (3) في أ: "روى".
[25402]:- (4) سنن أبي داود برقم (2597) وسنن الترمذي برقم (1682).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { حمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذّنبِ وَقَابِلِ التّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطّوْلِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .

اختلف أهل التأويل في معنى قوله حم فقال بعضهم : هو حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم ، وهو الحاء والميم منه . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّويه المروَزي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : ثني أبي ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة .

وقال آخرون : هو قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : حم : قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله حم : من حروف أسماء الله .

وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء القرآن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حم قال : اسم من أسماء القرآن .

وقال آخرون : هو حروف هجاء .

وقال آخرون : بل هو اسم ، واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفَى العبسي :

يُذَكّرُنِي حامِيمَ والرّمْحُ شاجِرٌ *** فَهَلاّ تَلا حم قَبْلَ التّقَدّمِ

وبقول الكُمَيت :

وَجَدْنا لَكُمْ فِي آلِ حامِيم آيَةً *** تَأَوّلَها مِنّا تَقِيّ وَمُعْرِبُ

وحُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : قال يونس ، يعني الجرمي : ومن قال هذا القول فهو منكَر عليه ، لأن السورة حم ساكنة الحروف ، فخرجت مخرج التهجي ، وهذه أسماء سور خرجت متحركات ، وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف المجزومة دخلهُ الإعراب .

والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها ، وقد بيّنا ذلك ، في قوله : الم ، ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع ، إذ كان القول في حم ، وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه ، أعني حروف التهجي قولاً واحدا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة غافر مكية وآيها خمس وثمانون .

بسم الله الرحمن الرحيم { حم } أماله ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر صريحا ، ونافع برواية ورش وأبو عمرو بين بين ، وقرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين ، أو النصب بإضمار اقرأ ومنع صرفه للتعريف والتأنيث ، أو لأنها على زنة أعجمي كقابيل وهابيل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة غافر{[1]}

هذه السورة مكية بإجماع ، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية{[2]} وهذا ضعيف والأول أصح وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن{[3]} ووقفه الزجاج على ابن مسعود ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا{[4]} وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم{[5]} وهذا نحو الكلام الأول في المعنى وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب{[6]}

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله : { حم } ويختص هذا الموضع بقول آخر ، قاله الضحاك . والكسائي : إن { حم } هجاء «حُمَّ » بضم الحاء وشد الميم المفتوحة ، كأنه يقول : { حُمَّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله }{[9953]} . وقال ابن عباس : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، إبراهيم : 1 ، يوسف : 1 ، الحجر : 1 ] و : { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و : { ن } [ القلم : 1 ] هي حروف الرحمن مقطعة في سور ، وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه{[9954]} . وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن : { حم } ما هو ؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور .

وقرأ ابن كثير : فتح الحاء ، وروي عن أبي عمرو : كسر الحاء{[9955]} على الإمالة ، وروي عن نافع : الفتح ، وروي عنه : الوسط بينهما ، وكذلك اختلف عن عاصم ، وروي عن عيسى كسر الحاء على الإمالة ، وقرأ جمهور الناس : «حَمْ » بفتح الحاء وسكون الميم ، وقرأ عيسى بن عمر أيضاً { حم } بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق ، ولذلك وجهان : أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة ، والآخر : حركة إعراب ، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره : «اقرأ حم » ، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء ، الحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي : [ الطويل ]

يذكرني حم والرمح شاجر . . . فهلا تلا حم قبل التقدم{[9956]}

وقول الكميت : [ الطويل ]

وجدنا لكم في آل حم آية . . . تأولها منا تقيّ ومعرب{[9957]}

وقرأ أبو السمال : { حم } بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة ، وذلك لالتقاء الساكنين .

و : { حم } آية .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[9953]:وعلى هذا المعنى جاء قول كعب بن مالك: فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى وليس لأمر حمه الله مدفع أي: ليس لأمر قضاه الله وأراده.
[9954]:ذكر الشوكاني هذه الأقوال وغيرها، ثم عقب عليها بقوله: (والحق أن هذه الفاتحة لهذه السور وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلم معناه). والقرظي هو محمد بن عبد الله القرظي، وفي النسخة التونسية: (وقال القرطبي)، وهو خطأ من الناسخ.
[9955]:في النسخة التونسية: (عن ابن عمر)، وهو خطأ من الناسخ.
[9956]:البيت في اللسان (حمم)، وقد نقل عن أبي عبيدة نسبته لشُرَيْح بن أوفى، وقال: (وأنشده غيره للأشتر النخعي)، والضمير في (يذكرني) وهو لمحمد بن طلحة، وقد قتله الأشتر أو شريح في موقعة الجمل، ومعنى الشاعر: (والرمح الشاجر) أنه ناشب فيه، يقال شجره بالرمح: طعنه، وفي حديث الشراة: (فشجرناهم بالرماح) أي: طعناهم بها حتى اشتبكت فيهم. والبيت شاهد على أن (حاميم) تكون اسما معربا، وعلى هذا جاءت قراءة عيسى بن عمر بفتح الميم الأخيرة، وهذا قول الجرمي، (صالح بن إسحق) وقد أنكر بعض العلماء ذلك، ومنهم يونس الذي قال: من قال هذا القول فهو منكر عليه، لأن السورة [حم] ساكنة الحروف، فخرجت مخرج التهجي، وهذه أسماء سور خرجن متحركات.
[9957]:البيت للكميت بن زيد الأسدي، وهو في الديوان، واللسان، ومجاز القرآن، (وال حاميم) هي السور التي أولها [حم]، وقد نص الحريري في (درة الغواص) على أنه يقال: ال حاميم، وذوات حاميم، وال طسم، ولا يقال: حواميم ولا طواسيم. والآية التي يشير إليها الكميت هي قوله تبارك وتعالى في سورة الشورى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} – 23 الشورى – والتقي: الساكت عن التفضيل والتشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم، والمعرب: الذي أبان وأعرب عما في نفسه من تشيع وتفضيل لآل البيت، وهذه هي رواية أبي عمرو للبيت، (معرب) بالراء، ولكن الأموي رواها بالزاي كما قال أبو عبيدة، ورواية البيت كما في مجاز القرآن هي: وجدنا لكم في ال حاميم آية وفي غيرها آي وأي يعرب وقوله: (وفي غيرها) يشير به إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} – 33 الأحزاب -.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة غافر، سورة المؤمن مكية.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه السورة مكية بإجماع، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية وهذا ضعيف والأول أصح، وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن ووقفه الزجاج على ابن مسعود، ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا، وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة، وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال: من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم. وهذا نحو الكلام الأول في المعنى. وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين.. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

وجو السورة كله -من ثم- كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة -وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر- وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب. ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!

كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.

وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.

ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك..

من مصارع الغابرين: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟).. (أو لم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم؛ وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب)..

ومن مشاهد القيامة: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع).. (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون..)

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا. ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم)..

ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق: (هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخاً. ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلاً مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).. (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء. لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟).. (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم. ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين).

وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.

ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم؛ وقد أخذهم الله أخذاً، بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك.. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم، ويتوجهون إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح.. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم: (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).. وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار، يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار.. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا.. (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً) ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون). ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار).. ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه، كما يتوارى الطغاة والفجار..

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة؛ ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف -عليه السلام- ورسالته.. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله، وهو أكبر من الناس جميعاً. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً: (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء. قليلاً ما تتذكرون). ويذكرهم بمجيء الساعة، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً. والأرض قراراً والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يبرأ من عبادتهم، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة.. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله [صلى الله عليه وسلم] من أمر الذين يجادلون في الله؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون).. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك..

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين. (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).. على أن في الكون آيات قائمة، وبين أيديهم آيات قريبة؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها.. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟. وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين، وهم يرون بأس الله فيؤمنون (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. سنة الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون).. هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وردت تسمية هذه السورة في السنة (حم المؤمن) روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم "من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما "الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع. ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح...

وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى غافر الذنب في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب...

وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.

والسور المفتتحة بكلمة {حم} سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها آل حم جعلوا لها اسم آل لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان...

وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة {حم} فقيل ألحواميم...

وقد ثبت أنهم جمعوا {حم} على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح...

أغراض هذه السورة:

تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.

وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة.

وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون.

وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه.

والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا.

وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله.

والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره.

والاستدلال على إمكان البعث.

وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم.

وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته.

وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.

وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى {إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

فصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة..

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

...قوله "حم"... القول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

الحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

أحسن الآراء أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين: حا. ميم. منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر: عين. سين. قاف. وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته. وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة.