في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

56

ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب ، وبما يجري في جنبات الكون ، ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل ، في ذوات البشر ، ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية ، بعد العلم المحيط :

( وهو الذي يتوفاكم بالليل ، ويعلم ما جرحتم بالنهار ، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) . .

بضع كلمات أخرى ، كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره ، وأشارات إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة . . بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله - سبحانه - وفي علمه وقدره وتدبيره . . صحوهم ومنامهم . . موتهم وبعثهم . حشرهم وحسابهم . . ولكن على " طريقة القرآن " المعجزة في الإحياء والتشخيص ، وفي لمس المشاعر واستجاشتها ، مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب .

( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) . .

فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس ؛ هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحاس من غفلة ، وما يعتري الحس من سهوة ، وما يعتري العقل من سكون ، وما يعتري الوعي من سبات - أي انقطاع - وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث ؛ وإن عرفوا ظواهره وآثاره ؛ وهو " الغيب " في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان . . وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول - حتى من الوعي - ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة . ها هم أولاء في قبضه الله - كما هم دائما في الحقيقة - لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله . . فما أضعف البشر في قبضة الله ! ( ويعلم ما جرحتم بالنهار )

فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك ، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر . . وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات ؛ لا يند عن علم الله منهم شيء ، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار !

( ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ) . .

أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم ؛ لتتم آجالكم التي قضاها الله . . وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله . لا مهرب لهم منه ، ولا منتهى لهم سواه !

( ثم إليه مرجعكم ) . .

فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح !

( ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) . .

فهو عرض السجل الذي وعى ما كان ، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء .

وهكذا تشمل الأية الواحدة ، ذات الكلمات المعدودة ، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد ، والمقررات والحقائق ، والإيحاءات والظلال . . فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك ؟ وكيف تكون الآيات الخوارق ، إن لم تكن هي هذه ؟ التي يغفل عنها المكذبون ، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

يخبر تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل ، وهذا هو التوفي الأصغر{[10741]} كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ]{[10742]} } [ آل عمران : 55 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ الزمر : 42 ] ، فذكر في هذه الآية الوفاتين : الكبرى والصغرى ، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى ، فقال : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أي : ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار . وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم ، في حال سكونهم وفي حال حركتهم ، كما قال : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ] ، وكما قال تعالى : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : في الليل { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] أي : في النهار ، كما قال : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [ النبأ : 10 ، 11 ] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أي : ما كسبتم بالنهار { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي : في النهار . قاله مجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي .

وقال ابن جريج{[10743]} عن عبد الله بن كثير : أي في المنام .

والأول أظهر . وقد روى ابن مَرْدُوَيه بسنده{[10744]} عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ، ويُرَد إليه . فإن أذن الله في قبض روحه قبضه ، وإلا رد إليه " ، فذلك قوله : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ }

وقوله { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى } يعني به : أجل كل واحد من الناس ، { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي : يوم القيامة ، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ }{[10745]} أي : فيخبركم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : ويجزيكم على ذلك إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر .


[10741]:في أ: "الصغير".
[10742]:زيادة من أ.
[10743]:في أ: "جرير".
[10744]:ورواه أبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/280) وفي إسناده انقطاع بين الضحاك وابن عباس.
[10745]:في أ: "فينبئكم" وهو خطأ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُم بِاللّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنّهَارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىَ أَجَلٌ مّسَمّى ثُمّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وقل لهم يا محمد ، والله أعلم بالظالمين : والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ يقول : ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار . ومعنى التوفّي في كلام العرب : استيفاء العدد ، كما قال الشاعر :

إنّ بني الأدردِ لَيْسُوا مِنْ أحَدْ ***وَلا تَوَفّاهُمْ قُرَيْشٌ فِي العَدَدْ

بمعنى : لم تدخلهم قريش في العدد . وأما الاجتراح عند العرب : فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه ، وهي الجوارح عندهم جوارح البدن فيما ذكر عنهم ، ثم يقال لكل مكتسب عملاً : جارح ، لاستعمال العرب ذلك في هذه الجوارح ، ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكلّ مكتسب كسبا بأيّ أعضاء جسمه اكتسب : مجترح .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ باللّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ أما «يتوفاكم بالليل » : ففي النوم ، وأما «يعلم ما جرحتم بالنهار » فيقول : ما اكتسبتم من الإثم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ باللّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ يعني : ما اكتسبتم من الإثم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ قال : ما عملتم بالنهار .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ باللّيْلِ يعني بذلك : نومهم ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ : أي ما عملتم من ذنب فهو يعلمه ، لا يخفى عليه شيء من ذلك .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ باللّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ قال : أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم ، وأما «ما جرحتم بالنهار » فيقول : ما اكتسبتم بالنهار .

وهذا الكلام وإن كان خبرا من الله تعالى عن قدرته وعلمه ، فإن فيه احتجاجا على المشركين به الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم ، فقال تعالى محتجّا علَيهم : وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ باللّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى يقول : فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار ، لتبلغوا أجلاً مسمّى وأنتم تَرَوْن ذلك وتعلمون صحته ، غير منكر له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم ثم ردّها إلى أجسادكم وإنشائكم بعد مماتكم ، فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون ، وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك القدرة على ما لم تعاينوه ، وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك شبيه ما رأيتم وعاينتم .

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فيهِ لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى ثُمّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمّ يُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

يعني تعالى ذكره : ثم يبعثكم ، يثيركم ويوقظكم من منامكم فيه ، يعني في النهار . والهاء التي في : «فيه » راجعة على النهار . لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى يقول : ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم ، وذلك الموت ، فيبلغ مدته ونهايته . ثُمّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يقول : ثم إلى الله معادكم ومصيركم . ثُمّ يُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا ، ثم يجازيكم بذلك ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ قال : في النهار .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ في النهار ، والبعث : اليقظة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ قال : في النهار .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ قال : يبعثكم في المنام .

لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى وذلك الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى وهو الموت .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى قال : هو أجل الحياة إلى الموت .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى قال : مدتهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } ينيمكم فيه ويراقبكم ، استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه . { ويعلم ما جرحتم بالنهار } كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد . { ثم يبعثكم } يوقظكم أطلق البعث ترشيحا للتوفي { فيه } في النهار . { ليقضى أجل مسمى } ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا { ثم إليه مرجعكم } بالموت . { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } بالمجازاة عليه . وقيل الآية خطاب للكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار ، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموت وجزائهم على أعمالهم ، ثم إليه مرجعكم بالحساب ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

وقوله تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم } الآية ، فيها إيضاح الآيات المنصوبة للنظر ، وفيها ضرب مثل للبعث من القبور ، أن هذا أيضاً إماتة وبعث على نحو ما ، والتوفي هو استيفاء عدد ، قال الشاعر [ منظور الوبري ] : [ الرجز ]

إنَّ بني الأَدْرَمِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ . . . وَلاَ توفّاهُمْ قريشُ في العَدَدْ{[4943]}

وصارت اللفظة عرفاً في الموت ، وهي في النوم على بعض التجوز ، و { جرحتم } معناه كسبتم ، ومنه جوارح الصيد أي كواسبه ، ومنه جوراح البدن أنها كواسب النفس ، ويحتمل أن يكون { جرحتم } هنا من الجرح كأن الذنب جرح في الدين ، والعرب تقول جرح اللسان كجرح اليد ، وروي عن ابن مسعود أو سلمان ، شك ابن دينار ، أنه قال : إن هذه الذنوب جراحات فمنها شوى{[4944]} ومنها مقتلة ، ألا وإن الشرك بالله مقتلة ، و { يبعثكم } يريد الإيقاظ ، ففي { فيه } عائد على النهار{[4945]} قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، وذكر النوم مع الليل واليقظة مع النهار بحسب الأغلب وإن كان النوم يقع بالنهار واليقظة بالليل فنادر ، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه قاله عبد الله بن كثير ، وقيل يعود على الليل وهذا قلق في اللفظ وهو في المعنى نحو من الذي قبله ، وقرأ طلحة بن مصرف وأبو رجاء «ليقضي أجلاً مسمى » والمراد بالأجل آجال بني آدم ، { ثم إليه مرجعكم } يريد بالبعث والنشور { ثم ينبئكم } أي يعلمكم إعلام توقيف ومحاسبة .


[4943]:- البيت لمنظور الوبري كما في (اللسان)- أو العنبري كما في (التاج)- وقد روي فيهما (الأدرد) بدالين بينهما راء، ومعناه كما قال صاحب (اللسان): "أي: لا تجعلهم قريش تمام عددهم، ولا تستوفي بهم عددهم". وقال: "أنشده أبو عبيدة للدلالة على أن معنى قولك: "توفيت عدد القوم" هو أنك عددتهم كلهم، ثم قال: "وأما توفي النائم فهو استيفاء وقت عقله وتمييزه إلى أن نام"، وقال الزجاج في قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} هو من توفية العدد، تأويله أن يقبض أرواحكم أجمعين فلا ينقص واحد منكم.
[4944]:-الشّوى: الهين من الأمر، وفي حديث مجاهد: (كل ما أصاب الصائم شوّى إلا الغيبة والكذب فهي له كالمقتل). أراد أن كل شيء أصابه الصائم لا يبطل صومه فيكون كالمقتل له، إلا الغيبة والكذب فإنهما يبطلان الصوم، فهما كالمقتل له. ومعنى خبر ابن مسعود رضي الله عنه أن الذنوب بعضها هيّن يسير، وبعضها فيه مقتل للمسلم كالشرك.
[4945]:- يريد أن يقول: فالضمير في (فيه) عائد على (النهار).