ثم نمضي مع قصة الابتلاء والصبر ، والإنعام بعد ذلك والإفضال . نمضي في السياق مع قصة أيوب :
( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . اركض برجلك . هذا مغتسل بارد وشراب . ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب . وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب ) . .
وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة ؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر . ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها . والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب - عليه السلام - كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً ؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً ، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه ، وثقته به ، ورضاه بما قسم له .
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له - ومنهم زوجته - بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه . وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء . فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه - قيل مائة .
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان ، ومداخله إلى نفوس خلصائه ، ووقع هذا الإيذاء في نفسه :
( أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) . .
فلما عرف ربه منه صدقه وصبره ، ونفوره من محاولات الشيطان ، وتأذيه بها ، أدركه برحمته . وأنهى ابتلاءه ، ورد عليه عافيته .
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة . وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا و لا مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا . فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ الأنبياء : 83 ] وفي هذه الآية الكريمة قال : رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، قيل : بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَاذْكُرْ أيضا يا محمد عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ مستغيثا به فيما نزل به من البلاء : يا ربّ إنّي مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ فاختلفت القرّاء في قراءة قوله : بنُصْبٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارىء : بِنُصْبٍ بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ ذلك أبو جعفر : بضم النون والصاد كليهما ، وقد حُكي عنه بفتح النون والصاد والنّصْب والنّصَب بمنزلة الحُزْن والحَزَن ، والعُدم والعَدَم ، والرّشْد والرّشَد ، والصّلْب والصّلَب . وكان الفرّاء يقول : إذا ضُمّ أوّله لم يثقل ، لأنهم جعلوهما على سِمَتين : إذا فتحوا أوّله ثقّلوا ، وإذا ضموا أوّله خفّفوا . قال : وأنشدني بعض العرب :
لَئِنْ بَعَثَتْ أُمّ الحُمَيْدَيْنِ مائِرا *** لَقَدْ غَنَيَتْ في غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحدِ
من قولهم : جَحِد عيشه : إذا ضاق واشتدّ قال : فلما قال جُحْد خَفّف . وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين : النّصُب من العذاب . وقال : العرب تقول : أنصبني : عذّبني وبرّح بي . قال : وبعضهم يقول : نَصَبَني ، واستشهد لقيله ذلك بقول بشر بن أبي خازم :
تَعَنّاكَ نَصْبٌ مِن أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ *** كَذِي الشّجْوِ لَمّا يَسْلُه وسيَذْهَبُ
وقال : يعني بالنّصْب : البلاء والشرّ ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
كِلِينِي لِهَمّ يا أمَيْمَةَ ناصِبِ *** وَلَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
قال : والنّصَب إذا فُتحت وحُرّكت حروفها كانت من الإعياء . والنّصْب إذا فُتح أوله وسكن ثانيه : واحد أنصاب الحرم ، وكلّ ما نصب علما وكأن معنى النّصب في هذا الموضع : العلة التي نالته في جسده والعناء الذي لاقى فيه ، والعذاب في ذهاب ماله .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك الضمّ في النون والسكون في الصاد .
وأما التأويل فبنحو الذي قلنا فيه قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ حتى بلغ : بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) : ذهاب المال والأهل ، والضرّ الذي أصابه في جسده ، قال : ابتُلِي سبع سنين وأشهرا مُلقى على كُناسة لبني إسرائيل تختلف الدوابّ في جسده ، ففرّج الله عنه ، وعظّم له الأجر ، وأحسن عليه الثناء .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ قال : نصب في جسدي ، وعذاب في مالي .
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : ( أنّي مَسّنِيَ الشّيْطانُ بنُصْبٍ ) يعني : البلاء في الجسد وَعَذابٍ قوله : ( وَما أصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ )
{ واذكر عبدنا أيوب } هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه . { إذ نادى ربه } بدل من { عبدنا } و { أيوب } عطف بيان له . { أني مسني } بأن مسني ، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل . { الشيطان بنصب } بتعب . { وعذاب } ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي لقال إنه مسه ، والإسناد إلى { الشيطان } إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه ، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه ، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب ، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم ، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع ، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر ، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.