ثم يمضي في بيان أحكام الحج خاصة ؛ فيبين مواعيده ، وآدابه ، وينتهي في هذا المقطع الجديد إلى التقوى كما انتهى إليها في المقطع الأول سواء :
( الحج أشهر معلومات . فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج . وما تفعلوا من خير يعلمه الله . وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب )
وظاهر النص أن للحج وقتا معلوما ، وأن وقته أشهر معلومات . . هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة . . وعلى هذا لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات وإن كان بعض المذاهب يعتبر الإحرام به صحيحا على مدار السنة ، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة . وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة : مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل . وهو مروي عن إبراهيم النخعي ، والثوري والليث بن سعد . وذهب إلى الرأي الأول الإمام الشافعي ، وهو مروي عن بن عباس وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد . وهو الأظهر .
فمن فرض الحج في هذه الأشهر المعلومات - أي أوجب على نفسه اتمامه بالإحرام -( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) . . والرفث هنا ذكر الجماع ودواعيه إما إطلاقا وإما في حضرة النساء . والجدال : المناقشة والمشادة حتى يغضب الرجل صاحبه . والفسوق : إتيان المعاصي كبرت أم صغرت . . والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج والتجرد لله في هذه الفترة ، والارتفاع على دواعي الأرض ، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه ، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجردا حتى من مخيط الثياب !
وبعد النهي عن فعل القبيح يحبب إليهم فعل الجميل :
( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) . .
ويكفي في حس المؤمن أن يتذكر أن الله يعلم ما يفعله من خير ويطلع عليه ، ليكون هذا حافزا على فعل الخير ، ليراه الله منه ويعلمه . . وهذا وحده جزاء . . قبل الجزاء . .
ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج . . زاد الجسد وزاد الروح . . فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد ، يقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا ! وهذا القول - فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجه فيه القلب إلى الله ويعتمد عليه كل الاعتماد - يحمل كذلك رائحة عدم التحرج في جانب الحديث عن الله ، ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجون بيته فعليه أن يطعمهم ! ! ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه ، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء :
( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . واتقون يا أولي الألباب ) . .
والتقوى زاد القلوب والأرواح . منه تقتات . وبه تتقوى وترف وتشرق . وعليه تستند في الوصول والنجاة . وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى ، وخير من ينتفع بهذا الزاد .
اختلف أهل العربية في قوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فقال بعضهم : [ تقديره ]{[3522]} الحج حَجُّ أشهر معلومات ، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحا ، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن رَاهويه ، وبه يقول إبراهيم النخَعي ، والثوري ، والليث بن سعد . واحْتَجّ لهم بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] وبأنه أحد النسكين . فصح الإحرام به في جميع السَّنَةِ كالعمرة .
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره{[3523]} فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به ، وهل ينعقد عُمْرة ؟ فيه قولان عنه . والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس ، وجابر ، وبه يقول عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، رحمهم الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة ، وهو أن : وقت الحج أشهر مَعْلُومات ، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ، فدلّ على أنه لا يصح قبلها ، كميقات الصلاة .
قال الشافعي ، رحمه الله : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، أخبرني عُمَر بن عَطَاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا في شهور{[3524]} الحج ، من أجل قول الله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، به . ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من طريقين ، عن حجاج بن أرطاة ، عن الحكم بن عُتَيبة{[3525]} عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : أنه قال : من السُّنَّة ألا يحرم [ بالحج ]{[3526]} إلا في أشهر الحج .
وقال ابن خزيمة في صحيحه : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس ، قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج{[3527]} . وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي : " من السنة كذا " في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ، وهو ترجمانه .
وقد ورد فيه حديث مرفوع ، قال{[3528]} ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع{[3529]} حدثنا الحسن بن المُثَنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " .
وإسناده لا بأس به . لكن{[3530]} رواه الشافعي ، والبيهقي من طُرق ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل : أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال : لا{[3531]} .
وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع ، ويبقى حينئذ مذهب صحابي ، يتقوّى بقول ابن عباس : " من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره " . والله أعلم .
وقوله : { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال البخاري : قال ابن عمر : هي شوال ، وذو القَعْدة ، وعشر من ذي الحجة{[3532]} . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غَرْزة{[3533]} حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال : شوال ، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة{[3534]} .
إسناد{[3535]} صحيح ، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه ، عن الأصم ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله{[3536]} عن نافع ، عن ابن عمر - فذكره وقال : على شرط الشيخين{[3537]} .
قلت : وهو مَرْويّ عن عُمَر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومكحول ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حَيّان . وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وأبي يوسف ، وأبي ثَوْر ، رحمهم الله . واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع{[3538]} على شهرين وبعض الثالث للتغليب ، كما تقول العرب : " زرته العام ، ورأيته اليوم " . وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ؛ قال الله تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] وإنما تعجل في يوم ونصف .
وقال الإمام مالك بن أنس [ والشافعي في القديم ]{[3539]} : هي{[3540]} : شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله . وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا ؛ قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة .
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور الحج ؟ قال : نعم ، كان عبد الله يسمي : " شوال وذو القعدة وذو الحجة " . قال{[3541]} ابن جريج : وقال ذلك ابن شُهاب ، وعطاء ، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج . وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة . وجاء فيه حديث مرفوع ، ولكنه موضوع ، رواه الحافظ بن مَرْدويه ، من طريق حُصَين بن مخارق - وهو متهم بالوضع - عن يونس بن عبيد ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج أشهر معلومات : شوال وذو القعدة وذو الحجة " {[3542]} .
وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه ، والله أعلم .
وفائدة مذهب مالك أنَّه إلى آخر ذي الحجة ، بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار في بقية
ذي الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن قيس بن مُسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : الحج أشهر معلومات ، ليس فيها عمرة . وهذا إسناد صحيح .
قال ابن جرير : إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى ، كما قال محمد بن سيرين : ما أحد مِن أهل العلم يَشُكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج .
وقال ابن عون : سألت القاسم بن محمد ، عن العمرة في أشهر الحج ، فقال : كانوا لا يرونها تامة .
قلت : وقد ثبت عن عمر وعثمان ، رضي الله عنهما ، أنهما كانا يحبان{[3543]} الاعتمار في غير أشهر الحج ، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم .
وقوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أوجب بإحرامه حَجًّا . فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه . قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } يقول : من أحرم بحَجّ أو عمرة . وقال عطاء : الفرضُ الإحرامُ . وكذا قال إبراهيم ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال ابن جُرَيج : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه قال { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض . قال ابن أبي حاتم : ورَوُي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخَعي ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والزهري ، ومقاتل بن حَيّان - نحو ذلك .
وقال طاوس ، والقاسمُ بن محمد : هو التلبية .
وقوله : { فَلا رَفَثَ } أي : من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث ، وهو الجماع ، كما قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [ البقرة : 187 ] ، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ، وكذا التكلم به بحضرة النساء .
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن نافعا أخبره : أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفثُ إتيانُ النساء ، والتكلم بذلك : الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .
قال ابن وهب : وأخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كَعْب ، مثله .
قال ابن جرير : وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي العالية الرَّياحي ، عن ابن عباس : أنه كان يحدو - وهو محرم - وهو يقول :
وَهُنَّ يَمْشينَ بنَا هَمِيسَا *** إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا
قال أبو العالية فقلت : تَكَلّمُ بالرفث وأنت محرم ؟ ! قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء{[3544]} .
ورواه الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، فذكره .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عَون{[3545]} حدثني زياد بن حصين ، حدثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصْعَدْتُ مع ابن عباس في الحاجِّ ، وكنت خليلا له ، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس ، فأخذ بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[ هو ]{[3546]} يرتجز ، ويقول :
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنَا هَمِيسَا *** إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا
قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء{[3547]} .
وقال عبد الله بن طاوس ، عن أبيه : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ } قال : الرفث التعريض بذكر الجماع ، وهي العَرَابَة في كلام العرب ، وهو أدنى الرفث .
وقال عطاء بن أبي رباح : الرفثُ : الجماع ، وما دونه من قول الفحش ، وكذا قال عمرو بن دينار . وقال عطاء : كانوا يكرهون العَرَابة ، وهو التعريض بذكر الجماع وهو مُحْرِم .
وقال طاوس : هو أن تقُول للمرأة : إذا حَلَلْت أصبتُك . وكذا قال أبو العالية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفث : غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز ، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش{[3548]} من الكلام ، ونحو ذلك .
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر : الرفثُ : غشيانُ النساء . وكذا قال سعيدُ بن جُبَير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وأبو العالية ، وعطاء ، ومكحول ، وعطاء بن يسار ، وعطية ، وإبراهيم النَّخَعي ، والربيع ، والزهري ، والسدي ، ومالك بن أنس ، ومقاتل بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك ، والحسن ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .
وقوله : { وَلا فُسُوقَ } قال مِقْسَم وغير واحد ، عن ابن عباس : هي المعاصي . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والزهري ، ومكحول ، وابن أبان ، والربيع بن أنس ، وعطاء بن يسار ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .
وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر{[3549]} قال : الفسوق : ما أصيبَ من معاصي الله به صَيْد أو غيره . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم .
وقال آخرون : الفسوقُ هاهنا السباب ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، ومجاهد ، والسدي ، وإبراهيم والحسن . وقد يتمسك لهؤلاء{[3550]} بما ثبت في الصحيح{[3551]} " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله ، من حديث سفيان الثوري عن يزيد{[3552]} عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " {[3553]} . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه{[3554]} ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه{[3555]} ]{[3556]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الفسوق هاهنا : الذبح للأصنام . قال الله تعالى : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .
وقال الضحاك : الفسوق : التنابز بالألقاب .
والذين قالوا : الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ، معهم الصواب ، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم ، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه ، إلا أنه في الأشهر الحرم آكَدُ ؛ ولهذا قال : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وقال في الحرم : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا : هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام ، من قتل الصيد ، وحَلْق الشعر ، وقَلْم الأظفار ، ونحو ذلك ، كما تقدم عن ابن عمر . وما ذكرناه أولى ، والله أعلم . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " {[3557]} .
وقوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فيه قولان :
أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ، وقد بينه الله أتَمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح . كما قال وَكِيع ، عن العلاء بن عبد الكريم : سمعت مجاهدًا يقول : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قد بين الله أشهر الحَج ، فليس فيه جدال بين الناس .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : لا شهر يُنْسَأ ، ولا جدال في الحج ، قد تَبَيَّن ، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به .
وقال الثوري ، عن عبد العزيز بن رُفَيع ، عن مجاهد في قوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : قد استقام الحج ، فلا جدَال فيه . وكذا قال السدي .
وقال هُشَيم : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : المراء في الحج .
وقال عبد الله بن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فالجدال في الحج - والله أعلم - أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ، وكانت العرب ، وغيرهم يقفون بعَرفَة ، وكانوا يتجادلون ، يقول هؤلاء : نحن أصوب . ويقول هؤلاء : نحن أصوب . فهذا فيما نرى ، والله أعلم .
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يقفُون مَوَاقف مختلفة يتجادلون ، كُلّهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نَبَّيه بالمناسك .
وقال ابن وهب ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب ، قال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجُّنا أتّم من حجكم . وقال هؤلاء : حجّنا أتم من حَجكم .
وقال حماد بن سلمة عن جبر{[3558]} بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجِدَال في الحج أن يقول بعضهم : الحجّ غدًا . ويقول بعضهم : اليوم .
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال ، وهو قطع التنازع في مناسك الحج .
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا : المخاصمة .
قال ابن جرير : حدثنا عبد الحميد بن بيان{[3559]} حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - في قوله : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه .
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق ، عن التميمي : سألت ابن عباس عن " الجدال " قال : المراء ، تماري صاحبك حتى تغضبه . وكذا روى مِقْسَم والضحاك ، عن ابن عباس . وكذا قال أبو العالية ، وعطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والسدي ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وعطاء بن يسار ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، ومقاتل بن حيّان .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال الجدال : المراء والملاحاة ، حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك .
وقال إبراهيم النخعي : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال : كانوا يكرهون الجدال . وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب ، والمراء ، والخصومات ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن الزبير ، والحسن ، وإبراهيم ، وطاوس ، ومحمد بن كعب ، قالوا : الجدال المراء .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن بشر{[3560]} عن عكرمة : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } والجدال الغضب ، أن تُغْضب عليك مسلمًا ، إلا أن تستعتب مملوكًا فتُغْضبه من غير أن تضربه ، فلا بأس عليك ، إن شاء الله .
قلت : ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه : أنّ أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّاجًا ، حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست عائشةُ إلى جنب رسول الله ، وجلستُ إلى جَنْب أبي . وكانت {[3561]} زِمَالة أبي بكر وزِمَالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه ، فأطْلَعَ وليس معه بعيره ، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللتُه البارحة . فقال أبو بكر : بعير واحد تُضلَّه ؟ فطفق يضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : " انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ " .
وهكذا أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، من حديث ابن إسحاق{[3562]} . ومن هذا الحديث حكى بعضُهم عن بعض السلف أنه قال : من تمام الحج ضَرْبُ الجمال . ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : " انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع ؟ " - كهيئة الإنكار اللطيف - أن الأولى تركُ ذلك ، والله أعلم .
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة{[3563]} عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قضَى نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقدم من ذنبه{[3564]} " {[3565]} .
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل ، وأخبرهم أنه عالم به ، وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة .
وقوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } قال العوفي ، عن ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست{[3566]} معهم أزْودة ، يقولون : نَحُجُّ بيت الله ولا يطعمنا . . فقال الله : تزودوا{[3567]} ما يكف وجوهكم عن الناس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة : قال : إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو - وهو الفَلاس{[3568]} - عن ابن عيينة .
قال ابن أبي حاتم : وقد روى هذا الحديث ورَقْاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . قال : وما يرويه عن ابن عيينة أصح .
قلت : قد رواه النسائي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ]{[3569]} كان نَاس يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }{[3570]} . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري ، عن{[3571]} يحيى بن بشر ، عن{[3572]} شَبَابة{[3573]} . وأخرجه أبو داود ، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ، ومحمد بن عبد الله المُخَرَّمي ، عن شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يَحُجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون{[3574]} . فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }{[3575]} .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، عن شَبابة [ به ]{[3576]} . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة ، به .
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث عَمْرو بن عبد الغفار [ عن محمد بن سوقة ]{[3577]} عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا - ومعهم أزوادهم - رموا بها ، واستأنفوا زادًا آخر{[3578]} ؛ فأنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فَنُهوا عن ذلك ، وأمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق . وكذا قال ابن الزبير ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
وقال سعيد بن جبير : فتزودوا{[3579]} الدقيق والسويق والكعك{[3580]} وقال وكيع [ بن الجراح ]{[3581]} في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة{[3582]} عن سعيد بن جبير : { وَتَزَوَّدُوا } قال : الخشكنانج والسويق . وقال وكيع أيضًا : حدثنا إبراهيم المكي ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر . وزاد فيه حماد بن سلمة ، عن أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجَوْزَة{[3583]} .
وقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها ، كما قال : { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] . لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي ، وهو الخشوع ، والطاعة {[3584]} والتقوى ، وذكر أنه خير من هذا ، وأنفع .
قال عطاء الخراساني في قوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } يعني : زاد الآخرة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبدان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل عن قيس ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم [ قال ] :{[3585]} " من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة " {[3586]} .
وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : { وَتَزَوَّدُوا } قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ، ما نجد زادًا نتزوده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى " . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ } يقول : واتقوا عقابي ، ونكالي ، وعذابي ، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام .