في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

221

والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق ، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق ؛ وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة . . إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق . .

ويبدأ بحكم العدة والرجعة :

)والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن - إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك - إن أرادوا إصلاحا - ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، والله عزيز حكيم ) . .

يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف .

يتربصن بأنفسهن . . لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة . . إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات ، أو حتى يطهرن منها . . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني . . إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة . رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها ، والإمساك بزمامها ، مع التحفز ، والتوفز . الذي يصاحب صورة التربص . وهي حالة طبيعية ، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص ، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر ، وأن تنشىء حياة جديدة . . هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل ، لأنه هو الذي طلق ؛ بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هيالتي وقع عليها الطلاق . . وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير ؛ كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا . .

يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة ؛ قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة :

( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر )

لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض . . ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن ، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر . فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن . . وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا . فهناك الجزاء . . هناك العوض عما قد يفوت بالتربص ، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن ، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه ، فلا يخفى عليه شيء منه . . فلا يجوز كتمانه عليه - سبحانه - تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن .

هذا من جهة . ومن الجهة الأخرى ، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة . فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد ، وعواطف تستجاش ، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء ! فإذا سكن الغضب ، وهدأت الشرة ، واطمأنت النفس ، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق ، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة ، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة ، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات . والطلاق أبغض الحلال إلى الله ، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج . . [ وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق . كما أن إيقاع الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء . وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات . إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق . . إلى آخر تلك المحاولات ] . .

والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما . فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع ، فالطريق مفتوح :

( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ) . .

في ذلك . . أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة . . إن أرادوا إصلاحا بهذا الرد ؛ ولم يكن القصد هو اعنات الزوجة ، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك ، انتقاما منها ، أو استكبارا واستنكافا أن تنكح زوجا آخر .

ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف . .

وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات ، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار . وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة .

( وللرجال عليهن درجة ) . .

أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة . وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق ؛ وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي ! فتذهب إليه . وترده إلى عصمتها ! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف . وهي درجة مقيدة في هذا الموضع ، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون ، ويستشهدون بها في غير موضعها .

ثم يجيء التعقيب :

( والله عزيز حكيم ) . .

مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس . وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة إذا طُلِّقت ، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ، لأنها على النصف من الحرة ، والقُرْء لا يتبعض فكُمّل لها قرءان . ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " .

رواه أبو داود ، والترمذي وابن ماجة . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية . وقال الحافظ الدارقطني وغيره : الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه .

ورواه ابن ماجة من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا . قال الدارقطني : والصحيح ما رواه سالم ونافع ، عن ابن عمر قوله . وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب . قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف . وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم ، حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ، وضعفه .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن عَيّاش - عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه : أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله ، عز وجل ، حين طلقت أسماء العدة للطلاق ، فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق ، يعني : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } .

هذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو ؟ على قولين :

أحدهما : أن المراد بها : الأطهار ، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، قال الزهري : فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق عروة . وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : " ثلاثة قروء " فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراءُ ؟ إنما الأقراء : الأطهارُ .

وقال مالك : عن ابن شهاب ، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة . وقال مالك : عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها . وقال مالك : وهو الأمر عندنا . ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وأبان بن عثمان ، وعطاء ابن أبي رباح ، وقتادة ، والزهري ، وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب مالك ، والشافعي [ وغير واحد ، وداود وأبي ثور ، وهو رواية عن أحمد ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي : في الأطهار . ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان ] .

واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر - وهو الأعشى - :

ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة *** تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا

مُوَرَّثة عدَّا ، وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قُروء نسائكا

يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها .

والقول الثاني : أن المراد بالأقراء : الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها . وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة . قال الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [ وقد وضعت مائي ] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي . فقال عمر لعبد الله - يعني ابن مسعود - [ ما ترى ؟ قال ] : أراها امرأته ، ما دون أن تحل لها الصلاة . قال [ عمر : ] وأنا أرى ذلك .

وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، ومكحول ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، أنهم قالوا : الأقراء : الحيض .

وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء الحيض . وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن صالح بن حي ، وأبي عبيد ، وإسحاق بن راهويه .

ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ، من طريق المنذر بن المغيرة ، عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرائك " . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور . وذكره ابن حبان في الثقات .

وقال ابن جرير : أصلُ القرء في كلام العرب : " الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم " . وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض [ العلماء ] الأصوليين فالله أعلم . وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت . وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض : قُرْءًا ، وتسمي الطهر : قرءا ، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا : قرءا . وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين .

وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } أي : من حَبَل أو حيض . قاله ابن عباس ، وابن عُمَر ، ومجاهد ، والشعبي ، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغير واحد .

وقوله : { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } تهديد لهن على قول خلاف الحق . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين ، وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ، فردّ الأمر إليهن ، وتُوُعِّدْنَ فيه ، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في تطويلها ، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .

وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } أي : وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير . وهذا في الرجعيات . فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن . وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين ، من استشهادهم على مسألة عود الضمير - هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا ؟ - بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ، والله أعلم .

وقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ، في حجة الوداع : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟

قال : " أن تطعمها إذا طعمْتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تُقَبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت " . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .

وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : في الفضيلة في الخُلُق ، والمنزلة ، وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .

وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره .