في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

138

( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون : سيغفر لنا . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) . .

وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى : أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه . . ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم . . شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ . . وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ، ثم تأولوا وقالوا : ( سيغفر لنا ) . . وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد !

ويسأل سؤال استنكار :

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ؟ ودرسوا ما فيه ؟ .

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص ، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق . . فما بالهم يقولون : ( سيغفر لنا )ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا ؟ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم ، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقاً ؛ ويقلعون عن المعصية فعلاً ؛ وليس هذا حالهم ، فهم يعودون كلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا ! وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه ! بلى ! ولكن الدراسة لا تجدي مالم تخالط القلوب . وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد . إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا . . وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة ؛ ولا يأخذونه عقيدة يتقون الله ولا يرهبونه ؟ !

( والدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون ؟ ) .

نعم ! إنها الدار الآخرة ! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة ، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا . . نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها ؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها . . وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض ؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي ؟ وما الذي يهدىء فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع ؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا ؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى ؟ والشر يتبجح والباطل يطغى ؟

لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى ؛ إلا اليقين في الآخرة ، وأنها خير للذين يتقون ، ويعفون ، ويترفعون ، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن ، ويمضون في الطريق لا يتلفتون . . مطمئنين واثقين ، ملء قلوبهم اليقين . .

وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة " الاشتراكية العلمية " أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا ؛ ويحلوا محله تصوراً كافراً جاهلاً مطموساً يسمونه : " العلمية " . .

ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة ، وتفسد النفوس ؛ وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلاَّ ذلك اليقين . . ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان . وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال . .

إن " العلمية " التي تناقض " الغيبية " جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر . جهالة يرجع عنها " العلم البشري " ذاته ، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال ! جهالة تناقض فطرة " الإنسان " ومن ثم تفسد " الحياة " ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار ! ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها ، ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف ! والذي تردده الببغاوات هنا وهناك ، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك !

ولأن قضية الآخرة ، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة ، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى . . عرض الحياة الدنيا . . إلى العقل :

( والدار الآخرة خير للذين يتقون . . أفلا تعقلون ؟ ) . .

ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى . . ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هوالذي يقضي . . لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى . ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

ثم قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [ هذا ]{[12288]} الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا ، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .

وقول مجاهد في قوله : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حرامًا ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه .

وقال قتادة في : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي : والله ، لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني ، وغرَّة يغترون بها ، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [ أمر ]{[12289]} الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا .

وقال السُّدِّي [ في ]{[12290]} قوله : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله : { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : " سيغفر لي " ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه .

قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 187 ]

وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها .

وقوله تعالى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه .

{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟


[12288]:زيادة من م.
[12289]:زيادة من أ.
[12290]:زيادة من م.