ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربياً بلسانهم ؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :
( ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ! أأعجمي وعربي ? ) . .
فهم لا يصغون إليه عربياً ، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم . فيقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ولو جعله الله قرآنا أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً ، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ! ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي ? ! فهو المراء والجدل والإلحاد .
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل ، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء ، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته ، فتهتدي به وتشتفي . فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب ، فهو وقر في آذانهم ، وعمى ً في قلوبهم . وهم لا يتبينون شيئاً . لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه :
( قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ً ، أولئك ينادون من مكان بعيد ) . .
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة . فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء ، ويحييها إحياء ؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها . وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم ، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى . وما تغير القرآن . ولكن تغيرت القلوب . وصدق الله العظيم .
{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا } أي ولو أنزلناه بلغة العجم ؛ كما قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم ؟ { لقالوا لولا فصلت آياته . . . } هلا بينت بلسان عربي نفهمه ! ولقالوا منكرين : أقرآن أعجمي ورسول عربي ! قاصدين بذلك إنكار القرآن من أصله . فهم لا يؤمنون به لا عربيا ولا أعجميا لفرط تعنتهم ! . والأعجمي : يطلق على الكلام الذي لا يفهمه العربي ، وعلى المتكلم به . والياء للمبالغة في الوصف – كأحمري – وليست للنسب . { في آذانهم وقر } صمم مانع عن سماع القرآن .
قوله تعالى : { ولو جعلناه } أي : جعلنا هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس ، { قرآناً أعجميا } بغير لغة العرب ، { لقالوا لولا فصلت آياته } هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها ، { أأعجمي وعربي } يعني : أكتاب أعجمي ورسول عربي ؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار ، أي : أنهم كانوا يقولون : المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي . قال مقاتل : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار ، غلام عامر بن الحضرمي ، وكان يهودياً أعجمياً ، يعني أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده ، وقال : إنك تعلم محمداً ، فقال يسار : هو يعلمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { قل } يا محمد ، { هو } يعني القرآن ، { للذين آمنوا هدىً وشفاء } لما في القلوب ، وقيل : شفاء من الأوجاع . { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً } قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به ، { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي : أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون .
{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا } لا بلسان العرب { لقالوا لولا فصلت } بينت { آياته } بلغتنا حتى نعرفها { أأعجمي وعربي } أي القرآن أعجمي ونبي عربي { قل هو } أي القرآن { للذين آمنوا هدى } من الضلالة { وشفاء } من الجهل { والذين لا يؤمنون } في ترك قبوله بمنزلة من { في آذانهم وقر وهو } أي القرآن { عليهم }
45 49 ذو { عمي } لأنهم لا يفقهونه { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي كأنهم لقلة استماعهم وانتفاعهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة
ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل ، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن ، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم { فلوبنا في أكنة } إلى آخره ، وكان ربما قال قائل ؛ لو كان بلسان غير العرب ، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع ، أخبر أن الأمر ليس كذلك ، لأنهم لم يقولوا : هذا الشك حصل لهم في أمره ، بل عناداً ، والمعاند لا يرده شيء ، فقال على سبيل التأكيد ، معلماً بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان ، وقال الأصبهاني : إنه جواب عن قولهم { وقالوا قلوبنا في أكنه } . والأحسن عندي أن يكون عطفاً على { فصلت آياته قرآناً عربياً } وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل ، فيكون التقدير : فقد جعلناه عربياً معجزاً ، وهم أهل العلم باللسان ، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم ، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربياً إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة { ولو جعلناه } أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة { قرآناً } أي على ما هو عليه من الجمع { أعجمياً } أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن هذا معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه { لقالوا } أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغياً وتعنتاً : { لولا } أي هلا ولم لا { فصلت آياته } أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين ، حال كونه قرآناً عربياً كما قدمنا أول السورة .
ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة الحكيم الودود ، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف ، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما ، فقال مستأنفاً منكراً عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلباً للوقوف على سبيل الرشد : { أعجمي } أي أمطلوبكم أو مطلوبنا - على قراءة الخبر من غير استفهام - أعجمي { وعربي } مفصل باللسانين ، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع : الذي لا يفصح ولو كان عربياً والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية .
ولما كان من الجائز أن يقولوا : نعم ، ذلك مطلوبنا ، وكان نزولاً من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب ، او عاجز عن إنفاذ ما نريد ، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال : { قل هو } أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره { للذين آمنوا } أي أردنا وقوع الإيمان منهم { هدى } بيان لكل مطلوب { وشفاء } لما في صدروهم من داء الكفر والهواء والإفك فآذانهم به سميعة ، وقلوبهم له واعية ، وهو لهم بصائر ، قال القشيري ، فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا عن كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه ، ولقلوب المحبين من لواعج الاشتياق بما فيه من لطائف المواعيد ، ولقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق وآثار خطاب الرب العزيز { والذين لا يؤمنون } أي أردنا أنه لا يتجدد منهم إيمان { في آذانهم وقر } أي ثقل مذهب للسمع مصم ، فهم لذلك لا يسمعون سماعاً ينفعهم لأنهم بادروا إلى رده أول ما سمعوه وتكبروا عليه فصاروا لا يقدرون على تأمله فهزهم الكسل وأصمهم الفشل فعز عليهم فهمه { وهو عليهم } أي خاصة { عمى } مستعلٍ على أبصارهم وبصائرهم لازم لهم ، فهم لا يعونه حق الوعي ، ولا يبصرون الداعي به حق الإبصار ، فلهم به ضلال وداء ، فلذلك قالوا { ومن بيننا وبينك حجاب } وذلك لما يحصل لهم من الشبه التي هيئت قلوبهم لقبولها ، أو يتمادى بهم في الأوهام التي لا يألفون سوى فروعها وأصولها ، فقد بان لأن سبب الوقر في آذانهم الحكم بعدم إيمانهم للحكم بإشقائهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر الهدى والشفاء اولاً دليلاً على الضلال والداء ثانياً ، والوقر والعمى ثانياً دليلاً على السمع والبصائر أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر أمدح صفات المؤمنين وأذم صفات الكافرين ، لأنه لا أحقر من أصم أعمى .
ولما بان بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال : { أولئك } أي البعداء البغضاء مثالهم مثال من { ينادون } أي يناديهم من يريد نداءهم غير الله { من مكان بعيد * } فهم بحيث لا يتأتى سماعهم ، وأما الأولون فهم ينادون بما هيئوا له من القبول من مكان قريب ، فهذه هي القدرة الباهرة ، وذلك أن شيئاً واحداً يكون لناس في غاية القرب ولناس معهم في مكانهم في أنهى البعد .