وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها ؛ فقد ظل فرعون في ضلاله ، مصراً على التنكر للحق . ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى . ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها . فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً :
( وقال فرعون : يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى . وإني لأظنه كاذباً . وكذلك زين لفرعون سوء عمله ، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ) . .
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات ،
لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك ( وإني لأظنه كاذباً ) . . هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور ، كي لا يواجه الحق جهرة ، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه ، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه . وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه . وبعيد أن يكون جاداً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج . وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حداً يبعد معه هذا التصور . إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة . والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى . وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن ! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله ، وتبجحه في جحوده : ( وكذلك زين لفرعون سوء عمله ، وصد عن السبيل ) . . وهو مستحق لأن يصد عن السبيل ، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل .
ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار :
{ أسباب السموات } أي طرقها وأبوابها ؛ جمع سبب وهو كل ما يتوصل به إلى الشيء . { فأطلع إلى إله موسى } فأنظر إليه . { وإني لأظنه كاذبا } في إثبات إله غيري . والمراد بالظن : اليقين ؛ لقوله في آية القصص : " ما علمت لكم من إله غيري " مريدا به نفى وجود إله غيره . وقد أسلفنا في تفسيرها : أن أمره ببناء الصرح ورجاءه الاطلاع على إله موسى من ضروب التهكم والسخرية بموسى عليه السلام .
{ وما كيد فرعون إلا في تباب } وما مكره واحتياله في إبطال آيات موسى إلا في خسران وهلاك . يقال : تب الله فلانا ، أي أهلكه . وتبت يداه : خسرتا . وتب الشيء : قطعه .
لعلّي أطّلع إلى إله موسى هذا . ثم قال مستهزئا :
{ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً }
وهو يعني موسى في دعواه أنه رسولُ رب العالمين .
وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العملَ السيء حتى رآه حسنا ، ولم يرعوِِ بحال ، وحاد عن سبيل الرشاد .
إن مكر فرعون وعاقبة أمره وكذبه تذهب سدى وفي خيبة ودمار .
قرأ حفص وعاصم : فأطلعَ بنصب العين . والباقون : فأطلعُ بالرفع .
وقرأ أهل الكوفة : وصُد بضم الصاد . والباقون : وصَد بفتح الصاد .
والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا } في دعواه أن لنا ربًا ، وأنه فوق السماوات . ولكنه يريد أن يحتاط فرعون ، ويختبر الأمر بنفسه ، قال الله تعالى في بيان الذي حمله على هذا القول : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } فزين له العمل السيئ ، فلم يزل الشيطان يزينه ، وهو يدعو إليه ويحسنه ، حتى رآه حسنًا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين ، وهو من أعظم المفسدين ، { وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } الحق ، بسبب الباطل الذي زين له . { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ } الذي أراد أن يكيد به الحق ، ويوهم به الناس أنه محق ، وأن موسى مبطل { إِلَّا فِي تَبَابٍ } أي : خسار وبوار ، لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : { أسباب السماوات } يعني : طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء { فأطلع إلى إله موسى } قراءة العامة برفع العين نسقاً على قوله : ( أبلغ الأسباب ) وقرأ حفص عن عاصم بنصب العين وهي قراءة حميد الأعرج ، على جواب ( لعل ) بالفاء ، { وإني لأظنه } يعني موسى { كاذباً } فيما يقول : أن له رباً غيري ، { وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } قرأ أهل الكوفة ويعقوب : { وصد } بضم الصاد نسقاً على قوله : { زين لفرعون } قال ابن عباس : صده الله عن سبيل الهدى . وقرأ الآخرون بالفتح أي : صد فرعون الناس عن السبيل . { وما كيد فرعون إلا في تباب } يعني : وما كيده في إبطال آيات الله وآيات موسى إلا في خسار وهلاك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.