( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض ، فأخذهم الله بذنوبهم . وما كان لهم من الله من واق . ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ، فكفروا ، فأخذهم الله ، إنه قوي شديد العقاب . . )
هذا المعبر بين قصة موسى - عليه السلام - وموضوع السورة قبلها يذكر المجادلين في آيات الله من مشركي العرب بعبرة التاريخ قبلهم ؛ ويوجههم إلى السير في الأرض ، ورؤية مصارع الغابرين ، الذين وقفوا موقفهم . وكانوا أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض . ولكنهم - مع هذه القوة والعمارة - كانوا ضعافاً أمام بأس الله . وكانت ذنوبهم تعزلهم عن مصدر القوة الحقيقية ، وتستعدي عليهم قوى الإيمان ومعها قوة الله العزيز القهار : ( فأخذهم الله بذنوبهم . وما كان لهم من الله من واق ) . . ولا واقي إلا الإيمان والعمل الصالح والوقوف في جبهة الإيمان والحق والصلاح .
{ 21 - 22 } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } أي : بقلوبهم وأبدانهم سير نظر واعتبار ، وتفكر في الآثار ، { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ } من المكذبين ، فسيجدونها شر العواقب ، عاقبة الهلاك والدمار والخزي والفضيحة ، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء في الْعَدَد والْعُدَد وكبر الأجسام . { و } أشد { آثارا في الأرض } من البناء والغرس ، وقوة الآثار تدل على قوة المؤثر فيها وعلى تمنعه بها . { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } بعقوبته بذنوبهم حين أصروا واستمروا عليها .
{ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فلم تغن قوتهم عند قوة اللّه شيئًا ، بل من أعظم الأمم قوة ، قوم عاد الذين قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أرسل اللّه إليهم ريحا أضعفت قواهم ، ودمرتهم كل تدمير .
قوله تعالى : " أولم يسيروا في الأرض فينظروا " في موضع جزم عطف على " يسيروا " ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب ، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد . " كيف كان عاقبة " اسم كان والخبر في " كيف " . و " واق " في موضع خفض معطوف على اللفظ . ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد ؛ لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالة عليها ، وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في غير موضع{[13367]} فأغنى عن الإعادة .
ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار ، وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار ، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار ، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار ، من الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار ، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به عن الظالمين الأولين ومن تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى : { أو لم يسيروا } ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم ، نبه عليه بقوله : { في الأرض } أي أي أرض ساروا فيها وعظتهم بما حوت من الأعلام .
ولما كان السير سبباً للنظر قال : { فينظروا } أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم . ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة ، نبه عليها بقوله : { كيف } أي أنها أهل لأن يسأل عنها ، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله : { كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين كانوا } أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها . ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه ، نبه على ذلك بالجار فقال : { من قبلهم } أي قبل زمانهم { كانوا } ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين ، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس ، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم ، فأكد أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله : { هم } أي المتقدمون ، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة .
ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة ، أسقطها وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول : ما كان أمرهم ؟ : { أشد منهم } أي هؤلاء - قرأه ابن عامر { منكم } بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد { قوة } أي ذواتاً ومعاني { و } أشد { آثاراً في الأرض } لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين ، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن .
ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله ، فكان ذلك سبب هلاكهم قال : { فأخذهم الله } أي الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة ، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم ، قال مبيناً ما أخذوا به : { بذنوبهم } أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع { وما كان لهم } أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم { من الله } أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال ، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله ، وأكد النفي بزيادة الجار فقال : { من واق * } أي يقيهم مراده سبحانه فيهم ، لا من شركائهم ولا من غيرهم ، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء ، ويجوز أن تكون " من " الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف من عاقبه الله عقوبة تأديب ، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.