وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد ، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف ، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر ، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق ، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عندما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد :
( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة . فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ، فأولى لهم طاعة وقول معروف ، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ? ) . .
وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة : إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه ، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا . وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد ، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم . فيقولون : ( لولا نزلت سورة ! ) . .
( فإذا أنزلت سورة محكمة ) . . فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا - ( وذكر فيها القتال ) . . أي الأمر به . أو بيان حكم المتخلفين عنه ، أو أي شأن من شؤونه ، إذا بأولئك ( الذين في قلوبهم مرض ) . . وهو وصف من أوصاف المنافقين . . يفقدون تماسكهم ، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به ، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف ، ويبدون في حالة تزري بالرجال ، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار :
( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) . .
وهو تعبير لا تمكن محاكاته ، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى . وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع . والضعف إلى حد الرعشة . والتخاذل إلى حد الغشية ! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال ! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان ، ولا بفطرة صادقة ، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر . وهي هي طبيعة المرض والنفاق !
وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص :
( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) . .
نعم . أولى لهم من هذه الفضيحة . ومن هذا الخور . ومن هذا الهلع . ومن هذا النفاق . .
{ نظر المغشي عليه من الموت } أي كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره . والمراد : أنهم يشخصون نحوه بأبصارهم ، وينظرون إليه نظرا شديدا من شدة كراهتهم للقتال معه ؛ إذ فيه عز للإسلام ، ونصر للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم لهم كارهون مبغضون . { فأولى لهم } كلمة توعد وتهدد . وهي فعل ماض بمعنى قارب ، وفاعله ضمير الهلاك بقرينة السياق ، واللام مزيدة : أي قاربهم ما يهلكهم . أو اسم تفضيل بمعنى أحق وأحرى . خبر لمبتدأ محذوف ، واللام بمعنى الباء ؛ أي العقاب أجدر بهم وأحرى .
{ 20-23 } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ }
يقول تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة : { لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي : فيها الأمر بالقتال .
{ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } أي : ملزم العمل بها ، { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على النفوس ، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر ، ولهذا قال : { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } من كراهتهم لذلك ، وشدته عليهم .
وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }
قوله تعالى : " ويقول الذين آمنوا " أي المؤمنون المخلصون . " لولا نزلت سورة " اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه . ومعنى " لولا " هلا . " فإذا أنزلت سورة محكمة " لا نسخ فيها . قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين . وفي قراءة عبد الله " فإذا أنزلت سورة محدثة " أي محدثة النزول . " وذكر فيها القتال " أي فرض فيها الجهاد . وقرئ " فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال " على البناء للفاعل ونصب القتال . " رأيت الذين في قلوبهم مرض " أي شك ونفاق . " ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق ، كمن يشخص بصره عند الموت ، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا ، ولميلهم في السر إلى الكفار .
قوله تعالى : " فأولى لهم " قال الجوهري : وقولهم : أولى لك ، تهديد ووعيد . قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى *** وهل للدَّرِّ يحلب من مَرَدِّ
قال الأصمعي : معناه قاربه ما يهلكه ، أي نزل به . وأنشد :
فعادى بين هادِيَتَيْن منها *** وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد . قال ثعلب : ولم يقل أحد في " أولى " أحسن مما قال الأصمعي . وقال المبرد : يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت : أولى لك ، أي قاربت العطب . كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول : أولى لك . ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال :
فلو كان أولى يطعم القوم صِدْتُهم *** ولكن أولى يتركُ القوم جُوَّعَا
وقيل : هو كقول الرجل لصاحبه : يا محروم ، أي شيء فاتك وقال الجرجاني : هو مأخوذ من الويل ، فهو أفعل ، ولكن فيه قلب ، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام . وقد تم الكلام على قوله : " فأولى لهم " . قال قتادة : كأنه قال العقاب أولى لهم . وقيل : أي وليهم المكروه .
{ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم }
{ ويقول الذين آمنوا } طلباً للجهاد { لولا } هلا { نزلت سورة } فيها ذكر الجهاد { فإذا أنزلت سورة محكمة } أي لم ينسخ منها شيء { وذكر فيها القتال } أي طلبه { رأيت الذين في قلوبهم مرض } أي شك وهم المنافقون { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } خوفاً منه وكراهة له ، أي فهم يخافون من القتال ويكرهونه { فأولى لهم } مبتدأ خبره :