في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه . واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) . .

فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .

وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : ( إن بعض الظن إثم ) . وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيء أصلا ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما !

بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيء ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون !

ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنة ، ولا يحاكمون بريبة ؛ ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم . بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إذا ظننت فلا تحقق " . . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم !

فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص ! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير ?

ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :

( ولا تجسسوا ) . .

والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن ؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .

والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .

ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا . فهو مبدأ من مباديء الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .

إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .

ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم ! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .

قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .

وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما يظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .

وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " .

وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " . فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نفعه الله تعالى بها .

فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي ! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .

فأين هذا المدى البعيد ? وأين هذا الأفق السامق ? وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام ?

بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعا :

( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ) . .

لا يغتب بعضكم بعضا . ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتا . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب !

ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة :

( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .

ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .

في حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . [ ورواه الترمذي وصححه ] .

وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " قال عن مسدد تعني قصيرة " فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . قالت : وحكيت له إنسانا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " . .

وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ? قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . .

ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ! ثم سار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى مر بجيفة حمار ، فقال : " أين فلان وفلان ? انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " . قالا : غفر الله لك يا رسول الله ! وهل يؤكل هذا ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .

وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلما يمشي على الأرض ، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

اجتنبوا : ابتعِدوا .

الإثم : الذنب .

ولا تجسّسوا : أصلها تتجسسوا بتائين : لا تبحثوا عن عورات الناس ومعايبهم . الغيبة : ذِكر الإنسان بما يكره في غيابه .

في هذه الآية الكريمة أدبٌ رفيع للمؤمنين حتى يعيشوا في مجتمع فاضل ، تكون فيه حرياتُهم مكفولة ، وحقوقهم محفوظة ، فلا يؤخذون بالظن ، ولا يحاكَمون بريبة ، فالإنسان بريء حتى يثبت عليه الجرم .

روى الطبراني عن حارثة بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ظننتَ فلا تحقّق » وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : « لا تظننّ بكلمة خرجتْ من أخيك إلا خيرا ، وأنتَ تجدُ لها في الخير محملا » .

يا أيها الذين آمنوا : ابتعِدوا عن كثير من ظنّ السوء بالناس ، إن بعض الظن إثمٌ يستوجب العقوبة . وهذا تهذيبٌ رفيع لنا يرفع من مستوى مجتمعنا ، ويديم الوئامَ والمودة بيننا ، ويزيد توثيقَ رباط المجتمع الإسلامي الفاضل قُوةً ومنعة .

{ وَلاَ تَجَسَّسُواْ }

وهذا أمر ثانٍ من أوامر الله العليا يُبعدنا فيه عن الأعمال الدنيئة ، لتطهير قلوبنا ونظافة أخلاقنا ، حتى يكفُلَ حرياتِ الناس وحرماتِهم وكرامتهم ، التي لا يجوز أن تُنتهَك ولا تمسّ بحال من الأحوال . فما دام الإنسان في بيته قد ستر نفسه عن الناس فلا يجوز لنا أن نتتبّع عوراتِه ، ولا البحث عن سرائره ، لأن الإسلام يريد أن يعيش الناس آمنين على أنفسهم مطمئنين في بيوتهم ، ولنا الظواهُر ، ولا يجوز لنا أن نتعقب بواطن الناس وما أخفوه .

قال عبد الرحمن بن عوف : حرستُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة ، إذ تبين لنا سراجٌ في بيتٍ بابه مغلقٌ على قوم لهم أصوات مرتفعة ولَغَط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن يشربون ، فما ترى ؟ قلت : أرى أنّا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } وقد تجسّسنا . فانصرفَ عمر وتركهم .

وفي الحديث الصحيح : « من ستر عورةً فكأنما استحيا موْؤدة من قبرِها » رواه أبو داود والنسائي .

وفي الحديث أيضا عن سفيان الثوري عن معاوية بن أبي سفيان : قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إنك إن اتبعت عوراتِ الناس أفسدتَهم أو كِدتَ تفسدهم » رواه أبو داود .

{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ }

ولا يذكرْ بعضكم بعضا بما يكره في غيبته ولو بإشارة أو نحو ذلك ، لما في ذلك من أذى للناس . والمراد بما يكره : ما يكرهه في دينه أو دنياه أو خلُقه أو خلْقه أو ماله أو ولده أو زوجته وفي كل ما يؤذيه .

قال الحسن البصري : الغيبة ثلاثة أوجه كلّها في كتاب الله : الغيبة ، والإفك والبهتان .

فأما الغيبة : فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه . وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه وقد يكون ذلك غير صحيح . وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه . والغيبة من الجرائم الكبيرة ، والذي يريد التوبة منها عليه أن يستغفر لمن اغتابه ، أو يذهب إليه ويطلب العفو منه .

ولبشاعة الغيبة ، وكراهتها يعبّر عنها الله تعالى بهذا التعبير العجيب للتنفير منها والبعد عن إيذاء الناس فيقول :

{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ }

تصوروا هذا التمثيلَ الفظيع الذي تتأذى منه النفوس . وقد وردتْ أحاديثُ كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنفر المسلمين من الغيبة ، ليرفع الله من نفوسهم ويطهرها ، ويبني مجتمعا طاهرا مثاليا .

واستثنى العلماء من تحريم الغيبة ، الملحدَ في الدين ، والحاكمَ الجائر ، والفاسقَ المجاهِر بالفسق ، وتجريحَ الشاهد عند القاضي ، والمتظلّمَ في أمر هام ، وراوي حديث الرسول الكريم ، { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] .

ثم بعد ذلك يأتي تعبير لطيف { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } بابُه دائماً مفتوح للتوبة ، وهو مع كل ما يأتيه الناس من مخالفات ومعاصي رحيم يقبل التوبة فلا تقنطوا من رحمة الله .

قراءات :

قرأ يعقوب : ميتا بتشديد الياء . والباقون : ميتا بإسكان الياء .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } أي تباعدوا منه ، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له ، وتنكيراً { كَثِيراً } ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل ، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعايشة ، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عز وجل ، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفوا قاطع وظن السوء بالمؤمنين ، ففي الحديث " أن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء " وعن عائشة مرفوعاً " من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول : { اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } " ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة ، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولايعبث بالشباب . أخرج البيهقي في «شعب الايمان » عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرىء مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه ، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ، ولا تهاون بالحلف فيهينك الله تعالى ، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ؛ ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه ، وعليك بالصدق وإن قتلك ، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى ، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب .

وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعلم واسكت وظن بالناس ما شئت ، واعلم أن ظن السوء إن كان اختيارياً فالأمر واضح ، وإذا لم يكن اختيارياً فالمنهى عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه ، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري ، ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه ريد به سوءاً فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص ، وهو محمل خبر «إن من الحزم سوء الظن » وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن » ، وقيل : المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه ، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف ، وفي الحديث «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل : ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال : إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظنن فلا تحقق وإذا تطيرت فامض » أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي ، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه ، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال ، قال الشاعر :

لقد فعلت هذي النوى بي فعلة *** أصاب النوى قبل الممات أثامها

والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعاً : وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول : إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام ، وأن إثم من باب علم ، ووثم من باب ضرب ، وأنه ذكره في باب الهمزة في الأساس ، والواوي متعد وهذا لازم . { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه ، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه ، واستعمال التفعل للمبالغة . وقرأ الحسن . وأبو رجاء . وابن سيرين { وَلاَ } بالحاء من الحسن الذي هو أثر الجس وغايته ، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم ، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار ، وقيل : التجسس بالجيم تتبع الظواهر بالحاء تتبع البواطن ، وقيل : الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك ، وقيل : الأول في الشر والثاني في الخير ، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقاً وعدوه من الكبائر .

أخرج أبو داود . وابن المنذر . وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته » وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم نادى بذلك حتى أسمع العواتق في الخدر . وأخرج أبو داود . وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمراً ؟ فقال ابن مسعود : قدنهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به .

وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه . أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغني فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال : يا عدو الله أظنن أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية ؟ فقال : وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } وقد تجسست وقال الله تعالى : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها } [ البقرة : 189 ] وقد تسورت وقال جل شأنه : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا } [ النور : 27 ] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه : فهل عندكم من خير إن عفوت عنك ؟ قال : نعم فعفا عنه وخرج وتركه . وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه : إن فلاناً لا يصحوا فقال : انظر الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال : قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر : والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال : يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك الله تعالى أن تتجسس ؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه ، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجاً بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر ، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك .

أخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد والخرائطي أيضاً عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتبعة ولغط فقال عمر : وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا ؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال : أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم ، ولعل القصة إن صحت غير واحدة ، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضاً .

{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي لا يذكر بعضكم بعضاً بما يكره في غيبته فقد قال صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » رواه مسلم . وأبو داود . والترمذي . والنسائي وغيرهم .

والمراد بالذكر الذكر صريحاً أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذاأدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الأفهام ، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي ، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به ، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعاً فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعاً ليس بغيبة عنده ولا يحرم ، واحتج على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس " وما ذكره لا يعول ، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر ، وقال البيهقي : ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره . والمراد بقولنا : غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضراً في مجلس الذكر أولاً ، وفي «الزواجر » لا فرق في الغيبة بني أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد ، وقد يقال : شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهود لما كان عن ترك ما يسجد له عمداً { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } تميل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعاً وعقلاً وشرعاً مع مبالغات من فنون شتى ، الاستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء ، وإسناد الفعل إلى أحد إيذاناً بأن أحداً من الأحديثن لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، وجعل المأكول أخاً للآكل وميتاً ، وتعقيب ذلك بقوله تعالى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } حملاً على الإقرار وتحقيقاً لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها ، وفي المثل السائر كنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الإعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له ، وجعله ميتاً لأن المغتاب لا يشعر بغيبته ، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها ، وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل ، والفاء في { فَكَرِهْتُمُوهُ } فصيحة في جواب شرط مقدور ويقدر معه قد أي أن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته ، والجزائية باعتبار التبين ، والضمير المنصوب للأكل وقيل : للحم ، وقيل : للميت وليس بذاك ، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل ، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل ، وعبر بالماضي للمبالغة ، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير { قد } ، وانتصاب ميتاً على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافاً لأبي حيان .

وقرأ أبو سعيد الخدري . والجحدري . وأبو حيوة { مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } بضم الكاف وشد الراء ، ورواها الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { واتقوا الله } قيل عطف على محذوف كأنه قيل : امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله .

وقال الفراء : التقدير إن صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر ، وقال أبو علي الفارسي . لما قيل لهم { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } الخ كان لجواب بلا متعيناً فكأنهم قالوا : لا نحب فقيل لهم { فَكَرِهْتُمُوهُ } ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفاً على فاكرهوا المقدر ، وقيل : هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظاً أمر معنى كما أشير إليه سابقاً ولا يخفى الأولى من ذلك وقوله سبحانه : { إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهى عنه وتاب مما فرط منه ، وتواب أي مبالغ في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم .

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفاسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوماً فطلبه صاحباه فلم يجداه فضرباه الخباء وقالا : ما يريد سلمان شيئاً غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداماً فانطلق فأتاه فقال : يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال : ما يصنع أصحابك بالادام ؟ قد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا قال : إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت .

وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهييء لهما طعاماً فقالا : إن هذا لنئوم فأيقظاه فقالا : ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له أن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال : إنهما ائتدما فجاءا فقالا : يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما فقالا : استغفر لنا يا رسول الله قال : مراه فليستغفر لكما وذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما إن تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل : هذا والآية دالة على حرمة الغيبة .

وقد نقل القرطبي . وغيره الإجماع على أنها من الكبائر ، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر ، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم . وتعقب بأن فشوا المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلاً عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة ، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل . على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالاجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في عظم الحرج السابق ، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة ، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما رواه أحمد . وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال " بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول " ولا يتم أيضاً ، فقد قال ابن الأثير : المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير ، وكيف لا يكون كبيراً وهما يعذبان فيه ، فالحق أنها من الكبائر . نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيراً نحو عيب الملبوس والدابة ، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء ، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها ، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفاً من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفاً ليحله فيخرج عن مظلمته ، وقال الحسن : يكفيه الاستغفار عن الاستحلال ، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له » ، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار ، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال : نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي ، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره ، وقال الزركشي : هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه ، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور ، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار ، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره ، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما .

قال في الخادم : الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبياً والمجنون مجنوناً ويسقط حق الله تعالى بالندم ، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا ؟ وجهان ، والذي رجحه في الاذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة ، وكلام الحليمي . وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة ، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل ، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة ، ويؤيد الأول خبر " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال : إني تصدقت بعرضي على الناس "

ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالاً لأن فيها حقاً لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه ، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال : هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل الإيذاء . وتنقيص خلق الله تعالى . وتضييع الوقت بما لا يعني ، والأولى تقتضي التحريم ، والثانية الكراهة ، والثالثة خلاف الأولى . وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله .

وقد روى ابن حبان في «صحيحه » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سمع يهودياً أو نصرانياً فله النار " ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة . وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى ونكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة ، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم ؛ وأما ذكره ببدعته فليس مكروهاً .

وقال ابن المنذر في قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الغيبة : " ذكرك أخاك بما يكره " فيه دليل على أن من ليس أخالك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية ، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر وذلك الدليل كما لا يخفى ، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب .

الأول : التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه . الثاني : الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته . الثالث : الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك ؛ والأفضل أن يبهمه .

الرابع : تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعاً بل تحب ، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي ، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحاً فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة ، والخامس : أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربة الخمر ظاهراً فيجوز ذكرهم بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر .

السادس : للتعريف بنحو لقب كالأعور . والأعمش . فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره . نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص ، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون : هي صابون القلوب وأن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما قال ابن عباس . وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم : الغيبة أدام كلاب الناس نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى .

وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } الخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله : جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانياً عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علماً بقوله سبحانه : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : إنه تعالى ختم كلاً من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفاً عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } [ الحجرات : 11 ] لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في { اجتنبوا } ختمت به في { فاتقوا الله } إلى الخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } الخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالخسرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالباً انتهى فلا تغفل .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } .

هذه جملة من المنكرات البغيضة ، قد نهى الله عنها بشدة وحذر من فعلها أو التلبس بها أبلغ تحذير . وذلك في كلمات بينات قوارع . كلمات باهرات عجاب تقرع بجرسها الحس ، وتثير بروعة ألفاظها الذهن والوجدان .

وأول المنكرات هذه كثرة الظن بغير حق ، وهي التهمة من دون سبب ظاهر يوجبها كالذي يتهم بشرب الخمر أو الزنا أو غير ذلك من وجوه الفواحش وليس ثمة أدلة ظاهرة تقتضي ذلك . ومثل هذا الظن حرام ومنهي عنه في دين الله . فما ينبغي لمسلم يقظ نبيه أن يسارع في اتهام المسلمين ، وقذفهم بالسوء من المنكرات والفواحش . وإنما المسلم بطبعه وحقيقته لهو خاشع حريص ، آخذ بالاحتياط والحذر ، مجتنب لسوء الظن بإخوانه المسلمين ، بل إنه يبادر بتلمس المعاذير لإخوانه عما يقال في حقهم أو ينسب إليهم من سوء الأقاويل والشبهات . وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا . وروى ابن ماجه عن عبد الله ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : " ما أطيبك وأطيب ريحك . ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمه المؤمن أعظم عند الله تعالى منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا " .

وفي التنديد بالظن والتحذير من التلبس به روى أبو هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " .

وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة ، والحسد ، وسوء الظن " فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض " وروى الإمام أحمد عن عقبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موءودة من قبرها " .

قوله : { إن بعض الظن إثم } فهو لم ينه عن الظن كله ، فقد أذن الله للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض خيرا . بل نهى الله عن بعض الظن وهو ما كان في الشر . فيكون المعنى : إنّ ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير ، إثم منهي عنه .

قوله : { ولا تجسسوا } من التجسس . وهو تتبع الأخبار لمعرفتها . أو الفحص عن بواطن الأمور . والجاسوس الذي يتجسس الأخبار ليأتي بها{[4298]} والمعنى المقصود : خذوا ما تبدى لكم من ظواهر الأمور ولا تتبعوا عورات المسلمين لمعرفتها أو كشفها . أو لا يبحث المسلم عن أخيه المسلم ليطلع عليه بعد أن ستره الله . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " .

هذه هي محجة{[4299]} الإسلام الناصعة البيضاء ، وطبيعته المميزة الفضلى ، القائمة على العقيدة الثابتة والخلق الكريم مهما تكن الأحوال والأعراف والظروف . تلك هي طبيعة الإسلام التي لا تتغير ولا بتبدل الأحوال والأزمان والمصالح ، بل إن الأحوال والأعراف والملابسات والتصورات جميعا هي التي تدور مع الإسلام حيث دار .

ومثلبة التجسس واحدة من مثالب شتى خسيسة ، قد ندد بها أبلغ تنديد ، وهي أن يتتبع المرء عورات الناس من المسلمين وغير المسلمين من أجل الوقوف على أخبارهم وأستارهم ، وللاطلاع على أسرارهم التي ما ينبغي أن يطلع عليها الآخرون .

إن هذه لهي حقيقة الإسلام العظيم الذي ينفذ إلى دخائل النفس البشرية فيطهرها بالعقيدة تطهيرا ويهذبها بأحكامه وآدابه أكمل تهذيب ، لتكون نقية سليمة من الغش والكذب والخداع والنفاق وأدران القلوب . ويخالف ذلك تماما هذه الحضارات المادية المعاصرة الكنود التي تستند في بقائها وثباتها ومكثها وقوتها –إلى حد عظيم- على التجسس والخيانة والاحتيال وتتبع عورات البشر وكشف عيوبهم وأخبارهم ، والغوص إلى صميم أستارهم وأسرارهم التي فرض الله أن تستر . ومن أفظع ما اصطلحت عليه أعراف الدول المادية في العصر الراهن هذا المصطلح الرهيب المقبوح المسمى ( المخابرات ) لا جرم أنه مصطلح مشؤوم ومنكود تنزف منه أخلاط شتى من معاني الشر والشؤم والإرهاب والخيانة والعار والفضائح وكشف العورات والأستار للبشر . إن ذلكم لهو عنوان الحضارات المادية الظالمة في هذا الزمان . حضارات جاحدة جائرة لا تستند إلى حق أو منطق أو ضمير أو عقيدة صحيحة سليمة إنما تستند إلى القوة والإرهاب والبطش والتنكيل والإباحية والشهوات . وذلك كله بخلاف الإسلام الذي يرسخ الواقع البشري على قواعد من الحق والعدل والصدق والبر والرحمة والوضوح في غير ما خداع ولا جور ولا نفاق ولا كذب ولا تجسس .

قوله : { ولا يغتب بعضكم بعضا } وهذه ذميمة أخرى نكراء بالغة الفحش والسوء ، قد نهى الله عنها أشد النهي وتوعد المتلبسين بها بالنكال وسوء المصير . وهي أن يذكر المرء بما فيه مما يحزنه أو يغضبه ، فإن ذكر بما ليس فيه فذلك البهتان وهو أشد وأنكى . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " ذكرك أخاك بما يكره " قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه " فتكلم هي الغيبة ، وأشد منها الإفك والبهتان . فأما الغيبة ، فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه . وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه . وأما البهتان فهو أن تقول فيه ما ليس فيه .

والغيبة : وهي من أشد الكبائر وأفحشها قد شدد الإسلام عليها النكير وندد بالمغتابين الآثمين أعظم تنديد ، فقد روي عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا ، تعني قصيرة . فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } لقد شبه الله الغيبة بأكل الميتة . قال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة ، لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس . والمعنى : كما تكرهون الأكل من لحم إخوانكم ميتين فاكرهوا غيبتهم أحياء . والمراد بهذا المثل ، التنفير من الغيبة والتحذير من الخوض في أعراض الناس فإن ذلك فظيع الإثم ، شديد النكر ، فقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه : " كل المسلم على المسلم حرام ، ماله وعرضه ودمه " . وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . وروى أبو هريرة أن ماعزا الأسلمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما . ثم سار ساعة حتى مرّ بجيفة حمار شائل برجله فقال : " أين فلان وفلان ؟ " فقالا : نحن ذا يا رسول الله . قال : " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ؟ ! . قال : " فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " على أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه غير منهي عنها . وإنما الغيبة في المرء الذي يصون نفسه عن الفواحش ويستر نفسه عن الموبقات والشبهات . وروي عن الحسن البصري أنه قال : ثلاثة ليست لهم حرمة : صاحب الهوى ، والفاسق المعلن ، والإمام الجائر . وعنه أنه قال : ليس لأهل البدع غيبة . وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مطل الغني ظلم " . وقال : " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " .

وكذلك الاستفتاء فإنه ليس بغيبة ، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي فآخذ من غير علمه ؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم فخذي " .

قوله : { واتقوا الله إن الله تواب رحيم } أي خافوا الله وامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا مانهاكم عنه . وهو سبحانه يتوب على من تاب فيغفر الذنوب والخطايا لمن أناب إلى ربه مستغفرا . وهو رحيم بالمؤمنين التائبين فلا يعاقبهم بعد أن تابوا وأنابوا{[4300]} .


[4298]:المصباح المنير جـ 1 ص 110 والمعجم الوسيط جـ 1 ص 122.
[4299]:المحجة: جادة الطريق. انظر مختار الصحاح ص 123.
[4300]:تفسير القرطبي جـ 16 ص 330- 340 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 313- 317.