وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم . ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم ، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا . ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم . وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون . . ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) . . وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن ، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف !
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع .
وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد . وهو كذلك اعتداء . وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها . فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون . فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم . ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله . فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب . إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة .
ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . الخ ) . . فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة . بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل ، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة . ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون ! فانطبقت القاعدة الأخرى : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) . . وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها - من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود . وهي حالة اعتداء في صميمها . تنطبق عليها حالة الاعتداء . وبخاصة أن الأمبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره ، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية . فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك .
أن تبروهم : أن تحسنوا إليهم بكل خير . البر : كلمة تجمع معاني الخير والإحسان .
في هذه الآية الكريمة يضعُ الله لنا قاعدةً عظيمة ، ويبيّن أن دِينَ الإسلام دينُ سلام ومحبة وإخاء ، فيقول : من عاداكم فعادُوه وقاتِلوه ، أما الذين سالموكم ولم يقاتلوكم ، ولم يخرجوكم من دياركم ، فعليكم أن تسالِموهم وتكرموهم ، وتحسِنوا إليهم ، وتعدِلوا كل العدل في معاملتكم معهم ، { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } العادلين .
{ لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم في الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ } أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى عن البر بهؤلاء كما يقتضيه كون { أَن تَبَرُّوهُمْ } بدل اشتمال من الموصول { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل ، فالفعل مضمن معنى الإفضاء ولذا عدي بإلى { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي العادلين .
أخرج البخاري . وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت : أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأصلها ؟ فأنزل الله تعالى : { لاَّ ينهاكم الله } الخ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «نعم صلي أمك » وفي رواية الإمام أحمد . وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : صناب . وأقط . وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى : { لاَّ ينهاكم الله } الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها .
وقتيلة هذه على ما في التحرير كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء حقيقة ، وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أماً مجازاً ، والأول هو المعول عليه ، وقال الحسن . وأبو صالح : نزلت الآية في خزاعة . وبني الحرث بن كعب . وكنانة . ومزينة . وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه ، وقال قرة الهمداني . وعطية العوفي : نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس .
وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة ، وقال مجاهد : في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة ، وقيل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة أي مع القدرة عليها وقال النحاس . والثعلبي : نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة ، والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة ، وعلى ذلك قال الكيا : فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب وعلى وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي لوجوب قتله ، ويخطر لي أني رأيت في الفتاوى الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الاستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه ، لكن راجعت تلك الفتاوى عند كتابتي هذا البحث فلم أظفر بذلك ، ومع هذا وجدته نقل في آخر الفتاوى الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى ، ولم يتعقبه بشيء ، ثم إن في كون القيام من البر مطلقاً تردداً ، وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية
: وللميل أو للمال يخدم كافر *** وللميل للإسلام لو قام يغفر
ومن الناس من يجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيماً ، والله تعالى أعلم ، ونقل الخفاجي عن «الدر المنثور » أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { اقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] الآية ، والاستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إن تم إنما يتم على بعض الأقوال فيها .
هذا ومن باب الإشارة :وقوله سبحانه : { لاَّ ينهاكم الله } [ الممتحنة : 8 ] الخ إشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة ، وإليه الإشارة بما روي أن «لنفسك عليك حقاً »
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.