وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين ، والبطر الذي يبطره المكذبون ، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم ، شائعة بينهم ، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة ، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين ؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين ، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة ، وأن له ما بعده ، وأنهم غير متروكين لما هم فيه :
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين : أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون : ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا : إنا لضالون ، بل نحن محرومون . قال أوسطهم : ألم أقل لكم لولا تسبحون ! قالوا : سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين ، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون . . كذلك العذاب ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . .
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة ، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته ، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده . ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني .
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج . ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة ، الذين كانوا يعاندون ويجحدون ، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد ، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة !
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني في القرآن ؛ وفيه مفاجآت مشوقة كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده . وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع - أو القارئ - يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى . فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني :
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة - جنة الدنيا لا جنة الآخرة - وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا . لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة - كما تقول الروايات - على أيام صاحبها الطيب الصالح . ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ، وأن يحرموا المساكين حظهم . . فلننظر كيف تجري الأحداث إذن !
( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون ) .
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين . وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه ، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه . . فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي يبيتوه ،
ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون . فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون ، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون ، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير ، وبخل بنصيب المساكين المعلوم . . إن هناك مفاجأة تتم في خفية . وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام . والناس نيام :
بلوناهم : اختبرناهم ، امتحناهم .
إنا امتحنّا كفارَ قريشٍ بأن أغدقنا عليهم النِعَم والأمن لنعلمَ : أيشكرون هذه النعم أم يكفرونها ، كما اختبرنا أصحابَ الجنّة التي يعرفون قصتها .
فقد كان لرجلٍ بستانٌ كبير فيه من شتى أنواع الفاكهة ، وكان هذا الرجل يتصدَّق منه ويعطي الفقراءَ والمساكين والمحتاجين . فلما تُوفي قال أولادُه : لو أعطينا الفقراءَ والمساكين من بستاننا هذا ، لما بقيَ لنا شيء . فاتفقوا أن يذهبوا إلى جنّتهم صباحاً مبكّرين . وأقسموا بأن لا يدخلنّها عليهم مسكين .
{ إنا بلوناهم } يعني اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ، { كما بلونا } ابتلينا ، { أصحاب الجنة } روى محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : في قوله عز وجل : { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } قال : كان بستان باليمن يقال له الضروان ، دون صنعاء بفرسخين ، يطؤه أهل الطريق ، كان غرسه قوم من أهل الصلاة ، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له ، وكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل ، إذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضاً للمساكين ، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينتثر أيضاً ، فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة عن أبيهم ، فقالوا : والله إن المال لقليل ، وإن العيال لكثير ، وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيراً والعيال قليلاً ، فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا ، فتحالفوا بينهم يوماً ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرمن نخلهم ولم يستثنوا ، يعني : لم يقولوا إن شاء الله ، فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين ، فرأوها مسودة ، وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها ، فأصبحت كالصريم ، فذلك قوله عز وجل : { إذ أقسموا } حلفوا ، { ليصرمنها مصبحين } وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكين .
ولما ذكر في{[67521]} أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال ، وختم هنا بعيب من يغتر{[67522]} بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه ، أعاد ذكر الابتلاء وأكده ، لأن أعمالهم مع العلم بأنه عرض زائل أعمال{[67523]} من يظن الملك الثابت والتصرف{[67524]} التام ، فقال{[67525]} : { إنا بلوناهم } أي عاملنا{[67526]} - على ما لنا من العظمة - الذين نسمهم {[67527]}على الخراطيم من قريش{[67528]} وسائر عبادنا بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، فغرهم ذلك{[67529]} وظنوا أنهم أحباب ، ومن قترنا عليه من أوليائنا أعداء ، فاستهانوا بهم ، ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفه والجنون والضلال والفتون ، فيوشك أن نأخذهم بغتة كما فعلنا بأصحاب الجنة ، فكل{[67530]} من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ابتلي به ، فإن{[67531]} آمن كان ممن أحسن عملاً ، وإلا كان ممن أساء .
ولما لم تعرف عامة أهل مكة نعمة الله عليهم به صلى الله عليه وسلم ، أخرجه الله عنهم وأكرمه بأنصار جعله أكرم الكرامات لهم ، وكل من سمع به ولم يؤمن فهو كذلك ، تكون أعماله كهذه الجنة يظنها شيئاً{[67532]} فتخونه أحوجَ ما يكون إليها ، أو كان{[67533]} ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف {[67534]}فما تابوا{[67535]} كما تاب { كما بلونا } أي اختبرنا بأن عاملنا{[67536]} معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، وحاصله أنه استخرج ما في البواطن{[67537]} ليعلمه العباد في عالم الشهادة ، كما يعلمه الخالق في عالم الغيب ، أو أنه كناية عن الجزاء { أصحاب الجنة } عرفها لأنها كانت شهيرة عندهم ، وهي بستان عظيم{[67538]} كان دون صنعاء بفرسخين ، يقال له الضروان ، يطأه أهل الطريق ، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ، ويترك لهم ما أخطأ المنجل ، أو ألقته الريح ، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، فلما مات ، شح بنوه بذلك فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس ، حتى لا يأتي الفقراء إلا بعد فراغهم ، وذلك معنى قوله تعالى : { إذ } أي حين { أقسموا } ودل على تأكيد القسم فقال : { ليصرمنها } عبر به عن الجذاذ بدلالته على القطع البائن المعزوم عليه المستأصل المانع للفقراء ليكون قطعاً من كل وجه ، من الصريم - لعود يعرض على{[67539]} فم الجدي لئلا يرضع ، ومن الصرماء : المفازة لا ماء بها ، والناقة القليلة اللبن { مصبحين * } أي داخلين في أول وقت الصباح .