وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون ، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده ، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة . بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب . فهم ينكرون وحدانية الله . فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين . حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون :
( فإذا مس الإنسان ضر دعانا . ثم إذا خولناه نعمة منا ، قال : إنما أوتيته على علم . بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
والآية تصور نموذجاً مكرراً للإنسان ، ما لم تهتد فطرته إلى الحق ، وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء .
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود . فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده . حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء ، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء . وقال عن النعمة والرزق والفضل : ( إنما أوتيته على علم ) . . قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان . غافلاً عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدر الأرزاق .
( بل هي فتنة . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
هي فتنة للاختبار والامتحان . ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال .
والقرآن - رحمة بالعباد - يكشف لهم عن السر ، وينبههم إلى الخطر ، ويحذرهم الفتنة . فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان .
وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم . مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم : ( إنما أوتيته على علم ) . .
فتنة : بليّة ، مصيبة ، لأن النعمة قد تكون فتنة أحيانا .
ثم بين الله تعالى أن الإنسان إذا أصابه ضر نادى الله متضرعاً ، لكنه إذا أعطاه نعمة قال : ما أوتيتُ هذه النعم إلا لعلمٍ عندي ، وجميل تدبيري ، وقد غاب عنه أن الأمر ليس كما قال ، بل إن هذه النعمة التي تفضّل الله بها عليه هي اختبارٌ له وفتنةٌ ليظهر الطائع من العاصي ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله تعالى : { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فإذا مس الإنسان ضر } شدة { دعانا ثم إذا خولناه } أعطيناه { نعمةً منا قال إنما أوتيته على علم } أي : على علم من الله أني له أهل . وقال مقاتل على خير علمه الله عندي ، وذكر الكناية لأن المراد من النعمة الإنعام ، { بل هي } يعني تلك النعمة { فتنة } استدراج من الله ، وامتحان وبلية . وقيل : بل كلمته التي قالها فتنة . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه استدراج وامتحان .
{ قال إنما أوتيته على علم } يحتمل وجهين :
أحدهما : وهو الأظهر : أن يريد على علم مني بالمكاسب والمنافع .
والآخر : على علم الله باستحقاقي لذلك وإنما هنا تحتمل وجهين :
أحدهما : وهو الأظهر : أن تكون ما كافة وعلى علم في موضع الحال .
والآخر : أن تكون ما اسم إن وعلى علم خبرها وإنما قال { أوتيته } بالضمير المذكر وهو عائد على النعمة للحمل على المعنى .
ولما أخبر عن ظهور هذا لهم ، علله بأنهم كانوا يفعلون ما لم يكن في العادة يتوقع منهم ، وهو مجازاة الإحسان بالإساءة وقد كانوا جديرين بضده فقال : { فإذا } أي وقع لهم ذلك بسبب أنهم إذا مسهم ، ولكنه أخبر عن النوع الذي هم منه بما هو مطبوع عليه فقال : { مس الإنسان ضر } أيّ ضر كان من جهة يتوقعها كما تقدم في التي في أول السورة ، ويجوز أن يكون مسبباً عن الإخبار بافتدائهم بما يقدرون عليه وأن يكون مسبباً عن اشمئزازهم من توحيد الله تعجيباً من حالهم في تعكيسهم وضلالهم ، وتقدم في الآية التي في أول السورة سر كونها بالواو ، ولفت القول إلى مظهر العظمة دالاً على أن أغلب الناس لا يرجى اعترافه بالحق وإذعانه لأهل الإحسان إلا إذا مس بأضرار فقال : { دعانا } عالماً بعظمتنا دون آلهته مع اشمئزازه من ذكرنا واستبشاره بذكرها .
ولما كان ذلك الضر عظيماً يبعد الخلاص عنه من جهة أنه لا حيلة لمخلوق في دفعه ، أشار إلى عظمته وطول زمنه بأداة التراخي فقال مقبحاً عليه نسيانه للضر مع عظمه في نفسه ومع طول زمنه : { ثم إذا خولناه } أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقاً بحاله جديراً بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط في حقنا { نعمة منا } ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت { قال } ناسياً لما كان فيه من الضر وإن كان قد طال أمده ، قاصراً لها على نفسه غير متخلق بما نبهناه على التخلق به من إحساننا إليه وإقبالنا عليه عند إذعانه ، مذكراً لضميرها تفخيماً لها ، وبنى الفعل للمجهول إشارة إلى أنه لا نظر له في تعرف المعطي من هو يشكره ، وإنما نظره في عظمة النعمة وعظمة نفسه ، وإنها على مقدار ما : { إنما أوتيته } أي هذا المنعم به عليّ الذي هو كبير وعظيم لأني عظيم فأنا أعطي على مقداري ، و " ما " هي الزائدة الكافة لأن للدلالة على الحصر ، ويجوز أن تكون موصولة هي اسم إن وخبرها قوله : { على } إي إيتاء مستعلياً متمكناً على { علم } أي عظيم ، وجد مني بطريق الكسب والاجتهاد ووجوده الطلب والاحتيال ، فكان ذلك سبباً لمجيئه إليّ أو علم من الله باستحقاقه له
ولما كان التقدير : ليس كذلك ولا هي نعمة ، قال دالاً على شؤم ذلك المعطي وحقارته لأنه من أسباب إضلاله بالتأنيث { بل هي } أي العطية والنعمة { فتنة } لاختباره هل يشكر أم يكفر لتقام عليه الحجة . فإن أدت إلى النار كانت استدراجاً ، وأنث الضمير تحقيراً لها بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى ولأنها أدت إلى الغرور بعد أن ذكر ضميرها أولاً تعظيماً لها لإيجاب شكرها .
ولما كان من المفتونين من ينتبه وهم الأقل ، قال جامعاً تنبيهاً على إرادة الجنس وأن تعبيره أولاً بإفراد الضمير إشارة إلى أن أكثر الناس كأنهم في ذلك الخلق النحس نفس واحدة : { ولكن أكثرهم } أي أكثر هؤلاء القائلين لهذا الكلام { لا يعلمون * } أي لا يتجدد لهم علم أصلاً لأنهم طبعوا على الجلافة والجهل والغباوة ، فلو أنهم إذا دعونا وهم في جهنم أجبناهم وأنعمنا عليهم لكفروا نعمتنا ونسبوها إلى غيرنا كما كانوا يفعلون في الدنيا سواء .