ثم يحدثهم عن خصومهم ، من هم في ميزان الله ? وكيف ينظر إلى أعمالهم وصدهم للمؤمنين عن بيته الحرام . وكيف ينظر إليهم هم عكس ما ينظر إلى خصومهم المعتدين :
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ؛ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . .
هم في ميزان الله واعتباره ، الكافرون حقا ، الذين يستحقون هذا الوصف الكريه : ( هم الذين كفروا ) . . يسجله عليهم كأنهم متفردون به ، عريقون في النسبة إليه ، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين ! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر ، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام ، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع :
( وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . .
وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام . كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم . كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين . . فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير . كلا ! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين :
( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . )
فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا ، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين . ولو دارت الحرب ، وهاجم المسلمون مكة ، وهم لا يعرفون أشخاصهم ، فربما وطأوهم وداسوهم وقتلوهم . فيقال : إن المسلمين يقتلون المسلمين ! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون . .
ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، من قسمت له الهداية ، ومن قدر له الله الدخول في رحمته ، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال ، ولعذب الكافرين العذاب الأليم :
( ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) . .
وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره .
الهدي : ما يقدَّم قربانا لله في مناسك الحج والعمرة من الأنعام .
محله : المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو مِنى .
لو تزيّلوا : لو تفرقوا وتميزوا .
بعد أن بين الله أنه كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين ، وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين ، ذكر هنا أن المكان هو البيتُ الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه ، فيقول : إن أهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجِد الحرام ومنعوا الهَدْيَ الذي سُقتموه معكم تقرباً إلى الله من بلوغِ مكانه الذي يُنحر فيه .
ثم وضّح أكثر أن في مكة مؤمنين ومؤمناتٍ لا تعلمونهم ، ولولا كراهةُ أن تصيبوهم فتقتلوهم بغير علم بهم ، فتكونوا قتلتم إخوانكم فيلحقكم من أجل قتلهم { مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أيْ عار وخزي - لسلطانكم عليهم .
ثم أكد ميزة هذا الصلح العظيم بقوله تعالى : { لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي ليفتح الباب أمام الذين يرغبون في دخول دين الله . وبين بوضوح بأنه لو أمكن تميُّز المسلمين من الكفار في مكة لسلّط المؤمنين على الكافرين ولعاقبهم عقاباً أليما .
{ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } : أي بالله ورسوله ومنعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام .
{ والهدي معكوفا أن يبلغ محله } : أي ومنعوا الهدي محبوسا حال بُلوغ محله من الحرم .
{ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } : أي موجودون في مكة .
{ لم تعلموهم } : أي لم تعرفوهم مؤمنين ومؤمنات .
{ أن تطأوهم } : أي قتلا لهم عند قتالكم المشركين بمكة .
{ فتصيبكم منهم معرة بغير علم } : أي إثم وديات قتل الخطأ وعتق أو صيام لأَذِن لكم الله تعالى في دخول مكة .
{ ليدخل الله في رحمته من يشاء } : أي لم يؤذن لكم في دخول مكة فاتحين ليدخل الله في الإِسلام من يشاء .
{ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما } : أي لو تميزوا فكان المؤمنون على حدة والكافرون على منهم حدة لأذنا لكم في الفتح وعذبنا الذين كفروا بأيديكم عذابا أليما وذلك بضربهم وقتلهم .
ما زال السياق الكريم في الحديث عن صلح الحديبية فقال تعالى في المشركين ذاماً عائبا عليهم صنيعهم { هم الذين كفروا } أي بالله ورسوله وصدوكم عن المسجد الحرام أن تدخلوه وأنتم محرمون والهدي معكوفاً أي وصدوا الهدي الحال أنه محبوس يُنْتَظَرُ به دخول مكة لينحر وقوله تعالى { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } بمكة لم تعلموهم لأنهم كانا يخفون إسلامهم غالباً ، كراهة أن تطأوهم أثناء قتالكم المشركين فتصيبكم منهم معرّة بغير علم منكم بهم والمعرة العيب والمراد به هنا التبعة وما يلزم من قتل المسلم خطأ من الكفارة والدية لولا هذا لأذن لكم في دخول مكة غازين فاتحين لها وقوله تعالى { ليدخل الله في رحمته من يشاء } أي لم يأذن لكم في القتال ورضي لكم بالصلح ليدخل في رحمته من يشاء فالمؤمنون نالتهم رحمة الله إذ لم يؤذوا بدخولكم مكة فاتحين والمشركون قد يكون تأخر الفتح سببا في إسلام من شاء الله تعالى له الإِسلام لا سيما عندما رأوا رحمة الإِسلام تتجلى في تلك القتال رحمة بالمؤمنين والمؤمنات حتى لا يتعرضوا للأذى فدين يراعي هذه الأخوة دين لا يحرم منه عاقل .
وقوله تعالى { لو تزيلوا } أي لو تميّز المؤمنون والمؤمنات عن المشركين بوجودهم في مكان خاص بهم لأذناً لكم في دخول مكة وقتال المشركين وعذَّبناهم بأيديكم عذاباً أليما .
- بيان حكم المحصر وهو من منع دخول المسجد الحرام وهو محرم بحجج أو بعمرة فإِنه يتحلل بذبح هدي ويعود إلى بلاده ، ويذبح الهدي حيث أُحصِر ، وليس واجبا إدخاله إلى الحرم .
- الأخذ بالحيطة في معاملة المسلمين حتى لا يؤذى مؤمن أو مؤمنةً بغير علم .
ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين ، وهي كفرهم بالله ورسوله ، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين ، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة ، وهم الذين أيضا صدوا { الهدي مَعْكُوفًا } أي : محبوسا { أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وهو محل ذبحه وهو مكة ، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا ، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم ، ولكن ثم مانع وهو : وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين ، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى ، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون ، والنساء المؤمنات ، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطأوهم ، أي : خشية أن تطأوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } والمعرة : ما يدخل تحت قتالهم ، من نيلهم بالأذى والمكروه ، وفائدة أخروية ، وهو : أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم بالإيمان بعد الكفر ، وبالهدى بعد الضلال ، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب .
{ لَوْ تَزَيَّلُوا } أي : لو زالوا من بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } بأن نبيح لكم قتالهم ، ونأذن فيه ، وننصركم عليهم .
هم الذين كفروا } يعني أهل مكة { وصدوكم عن المسجد الحرام } منعوكم من زيارة البيت { والهدى } ومنعوا الهدي { معكوفا } محبوسا { أن يبلغ محله } منحره وكانت سبعين بدنة { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } بمكة { لم تعلموهم أن تطؤوهم } أي لولا أن تطؤوهم في القتال لأنكم لم تعلموهم مؤمنين وهو قوله { بغير علم } { فتصيبكم منهم معرة } كفارة و عار وعيب من الكافرين يقولون قتلوا أهل دينهم { ليدخل الله في رحمته } دينه الإسلام { من يشاء } من أهل مكة قبل أن يدخلوها { لو تزيلوا } تميز عنهم هؤلاء المؤمنون { لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } لأنزلنا بهم ما يكون عذابا لهم أليما بأيديكم