في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} (2)

( فصل لربك وانحر ) .

بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة ، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون ، وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى شكر النعمة بحقها الأول . حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه . . في الصلاة وفي ذبح النسك خالصا لله : ( فصل لربك وانحر ) . . غير ملق بالا إلى شرك المشركين ، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم .

وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح ، وتحريم ما أهل به لغير الله ، وما لم يذكر اسم الله عليه . . ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره . لا تخليص التصور والضمير وحدهما . فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها ، وكل ظل من ظلالها ؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح . ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره ، وفي كل مكامنه ؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير ، أم ظهر في العبادة ، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن ، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعا ، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة ناصعة ، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة . .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} (2)

أقدِم على الصّلاةِ لربّك شُكراً له على ما أعطاك ، وانحَرِ الإبلَ ليأكلَ منها الفقيرُ والمسكين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال : { فصل لربك } يعني الصلوات الخمس { وانحر } البدن يوم النحر ، فإن المشركين لا يصلون ولا يذبحون لله عز وجل ....

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } اختلف أهل التأويل في الصلاة التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها بهذا الخطاب ، ومعنى قوله : { وانْحَرْ }؛

فقال بعضهم : حضّه على المواظبة على الصلاة المكتوبة ، وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } ...

عن عليّ رضي الله عنه { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ، ثم وضعهما على صدره ...

وقال آخرون : بل عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } : الصلاة المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } أن يرفع يديه إلى النحر ، عند افتتاح الصلاة والدخول فيها ...

وقال آخرون : عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } : نحر البُدْن ... عن سعيد بن جُبير وحجّاج ، أنهما قالا في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الغداة بجَمْع ، ونحر البُدن بمِنَى ...

عن ابن عباس { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الصلاة المكتوبة ، والنحر : النّسُك والذبح يوم الأضحى ...

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : صلّ يوم النحر صلاة العيد ، وانحر نُسُكَك ...

وقال آخرون : قيل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوما كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغيره ، فقيل له : اجعل صلاتَك ونحرَك لله ؛ إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره ...

وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية يوم الحُدَيْبية ، حين حُصِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وصُدّوا عن البيت ، فأمره الله أن يصلي ، وينحر البُدْن ، وينصرف ، ففعل ...

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فصلّ وادع ربّك وَسَلْه ...

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتَك كلّها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كُفْء له ، وخصك به ، من إعطائه إياك الكوثر .

وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ؛ لأن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته ، وإنعامه عليه بالكوثر ، ثم أتبع ذلك قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } ، فكان معلوما بذلك أنه خصه بالصلاة له ، والنحر على الشكر له ، على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه ، بإعطائه إياه الكوثَر ، فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض ، وبعض النحر دون بعض ، وجه ؛ إذ كان حثا على الشكر على النّعم .

فتأويل الكلام إذن : إنا أعطيناك يا محمد الكوثر ، إنعاما منا عليك به ، وتكرمة منا لك ، فأخلص لربك العبادة ، وأفرد له صلاتك ونُسُكَك ، خلافا لما يفعله من كفر به ، وعبد غيره ، ونحر للأوثان .

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... والمعنى : أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، ومعطي ذلك كله أنا إله العالمين ، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء ، وأوفره ، من أكرم معط وأعظم منعم ؛ فاعبد ربك الذي أعزّك بإعطائه ، وشرفك وصانك من منن الخلق ، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله ، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت ، مخالفاً لهم في النحر للأوثان .

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى : { فصل لربك وانحر } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { فصل } وجوه؛

( الأول ) : أن المراد هو الأمر بالصلاة ، فإن قيل : اللائق عند النعمة الشكر ، فلم قال : فصل ولم يقل : فاشكر ؟

( الجواب ) : من وجوه؛

( الأول ) : أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان ( أحدها ) : يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره ( والثاني ) : باللسان وهو أن يمدحه ( والثالث ) : بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له ، والصلاة مشتملة على هذه المعاني ، وعلى ما هو أزيد منها، فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة فكان الأمر بالصلاة أحسن ( وثانيها ) أنه لو قال فاشكر لكان ذلك يوهم أنه ما كان شاكرا لكنه كان من أول أمره عارفا بربه مطيعا له شاكرا لنعمه ، أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي ، قال : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } ... فأما إذا حملنا الكوثر على الرسالة ، فكأنه قال : أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات وأشرفها الصلاة فصل لربك.

( القول الثاني ) : { فصل لربك } أي فاشكر لربك ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وعلى هذا القول ذكروا في فائدة الفاء في قوله { فصل } وجوها؛

( أحدها ) : التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي .

( وثانيها ) : أن المراد من فاء التعقيب ههنا الإشارة ، إلى ما قرره بقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ثم إنه خص محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الباب بمزيد مبالغة ، وهو قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ولأنه قال له : { فإذا فرغت فانصب } أي فعليك بأخرى عقيب الأولى، فكيف بعد وصول نعمتي إليك ، ألا يجب عليك أن تشرع في الشكر عقيب ذلك .

( القول الثالث ) : { فصل } أي فادع الله لأن الصلاة هي الدعاء ، وفائدة الفاء على هذا التقدير كأنه تعالى يقول : قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك : { بالكوثر } فكيف بعد سؤالك لكن : «سل تعطه واشفع تشفع » وذلك لأنه كان أبدا في هم أمته ، واعلم أن القول الأول أولى لأنه أقرب إلى عرف الشرع .

المسألة الثانية : في قوله : { وانحر } قولان :

الأول : وهو قول عامة المفسرين : أن المراد هو نحر البدن.

( والقول الثاني ) : أن المراد بقوله : { وانحر } فعل يتعلق بالصلاة ، إما قبلها أو فيها أو بعدها ... [و]حمله على نحر البدن أولى لوجوه؛

( أحدها ) : هو أن الله تعالى كلما ذكر الصلاة في كتابه ذكر الزكاة بعدها .

( وثانيها ) : أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فقيل له : فصل وانحر لربك.

( وثالثها ) : أن هذه الأشياء آداب الصلاة وأبعاضها فكانت داخلة تحت قوله : { فصل لربك } فوجب أن يكون المراد من النحر غيرها لأنه يبعد أن يعطف بعض الشيء على جميعه.

( ورابعها ) أن قوله : { فصل } إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله : { وانحر } إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين.

( وخامسها ) : أن استعمال لفظة النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه المذكورة ، فيجب حمل كلام الله عليه ...

المسألة الرابعة : اللام في قوله : { لربك } فيها فوائد؛

الفائدة الأولى : هذه اللام للصلاة كالروح للبدن ، فكما أن البدن من الفرق إلى القدم ، إنما يكون حسنا ممدوحا إذا كان فيه روح أما إذا كان ميتا فيكون مرميا ، كذا الصلاة والركوع والسجود ، وإن حسنت في الصورة وطالت ، لو لم يكن فيها لام لربك كانت ميتة مرمية ، والمراد من قوله تعالى لموسى : { وأقم الصلاة لذكري } وقيل : إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له : لتكن صلاتك ونحرك لله .

الفائدة الثانية : كأنه تعالى يقول : ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءاة فصل أنت لا للرياء لكن على سبيل الإخلاص .

المسألة الخامسة : الفاء في قوله : { فصل } تفيد سببية أمرين؛

( أحدهما ) : سببية العبادة كأنه قيل : تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية.

( والثاني ) : سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له : إنك أبتر فقيل له : كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة ، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم .

واعلم أنه لما كانت النعم الكثيرة محبوبة ولازم المحبوب محبوب ، والفاء في قوله : { فصل } اقتضت كون الصلاة من لوازم تلك النعم ، لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال : «وجعلت قرة عيني في الصلاة » ولقد صلى حتى تورمت قدماه ، فقيل له : أوليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : «أفلا أكون عبدا شكورا » فقوله : «أفلا أكون عبدا شكورا » إشارة إلى أنه يجب على الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله : { فصل } .

المسألة السادسة : كان الأليق في الظاهر أن يقول : إن أعطيناك الكوثر ، فصل لنا وانحر . لكنه ترك ذلك إلى قوله : { فصل لربك } لفوائد؛

( إحداها ) : أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة.

( وثانيها ) : أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة ...

المسألة السابعة : قوله { فصل لربك } أبلغ من قوله : فصل لله لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه .

المسألة الثامنة : في الآية سؤالان :

( أحدهما ) : أن المذكور عقب الصلاة هو الزكاة ، فلم كان المذكور ههنا هو النحر ؟ ( والثاني ) : لما لم يقل : ضحي حتى يشمل جميع أنواع الضحايا ؟

( والجواب ) : عن الأول ، أما على قول من قال : المراد من الصلاة صلاة العيد ، فالأمر ظاهر فيه ، وأما على قول من حمله على مطلق الصلاة ، فلوجوه؛

( أحدها ) : أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان ، فقيل له : اجعلهما لله ................................................................

( وثالثها ) : أن أعز الأموال عند العرب ، هو الإبل فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى تنبيها على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها ، روي أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب فنحر هو عليه السلام حتى أعيا ، ثم أمر عليا عليه السلام بذلك ، وكانت النوق يزدحمن على رسول الله ، فلما أخذ على السكين تباعدت منه.

( والجواب عن الثاني ) : أن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها أعظم أنواع الضحايا ، وأيضا فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل ...

المسألة العاشرة : السورة مكية في أصح الأقوال ، وكان الأمر بالنحر جاريا مجرى البشارة بحصول الدولة ، وزوال الفقر والخوف .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ فصل } أي بقطع العلائق من الخلائق بالوقوف بين يدي الله في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم ، خلافاً للساهي عنها ، والمرائي فيها...{ لربك } أي المحسن إليك بذلك سراً وعلناً مراغماً من شئت ، فلا سبيل لأحد عليك { وانحر } أي أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لم يدعهم ويمنعهم الماعون ؛ لأن النحر أفضل نفقات العرب ؛ لأن الجزور الواحد يغني مائة مسكين ، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل ، ولذا عبر عن هذا المراد بالنحر ليفهم الزجر عما كانوا يفعلونه من الذبح للأوثان ، ومن معناه أيضاً أظهر الذل والمسكنة والخشوع في الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى تحت النحر هيئة الذليل الخاضع ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيراً كثيراً ، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب : أفتح هذا ؟ قال : نعم . وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير : أن قوله : { فصل لربك وانحر } أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية . وأفادت اللام من قوله : { لربك } أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره . ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها . وعطف { وانحر } على { فصل لربك } يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلاً لمتعلِّق { فصل لربك } لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } [ مريم : 38 ] أي وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له . وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرباناً للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناوياً بما تنحره أنه لله . وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفاً . ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} (2)

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : { فصل } أي أقم الصلاة المفروضة عليك ، كذا رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال قتادة وعطاء وعكرمة : { فصل لربك } صلاة العيد ويوم النحر . { وانحر } نسكك . وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي ، فأمر أن يصلي ثم ينحر . وقال سعيد بن جبير أيضا : صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع{[16491]} ، وانحر البدن بمني ، وقال سعيد بن جبير أيضا : نزلت في الحديبية حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت ، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف ، ففعل ذلك . قال ابن العربي : أما من قال : إن المراد بقوله تعالى : { فصل } : الصلوات الخمس ، فإنها ركن العبادات ، وقاعدة الإسلام ، وأعظم دعائم الدين . وأما من قال : إنها صلاة الصبح بالمزدلفة ؛ فلأنها مقرونة بالنحر ، وهو في ذلك اليوم ، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها ، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر " .

قلت : وأما من قال إنها صلاه العيد ، فذلك بغير مكة ؛ إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع ، فيما حكاه ابن عمر . قال ابن العربي : فأما مالك فقال : ما سمعت فيه شيئا ، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر ، والنحر بعدها . وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب : المعنى ضع اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة . وروي عن ابن عباس أيضا . وروي عن علي أيضا : أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره . وكذا قال جعفر بن علي : " فصل لربك وانحر " قال : يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر . وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت { فصل لربك وانحر } قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها " ؟ قال : ( ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ، أن ترفع يديك إذا كبرت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره ) . وعن أبي صالح عن ابن عباس قال : استقبل القبلة بنحرك . وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص . ومنه قول الشاعر :

أبا حكم ما أنت عَمُّ مُجَالِدٍ *** وسَيِّدُ أهلِ الأبْطَحِ المُتَنَاحِرِ{[16492]}

أي المتقابل . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : منازلنا{[16493]} تتناحر ، أي تتقابل ، نحر هذا بنحر هذا ، أي قبالته . وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب ، من قولهم : منازلهم تتناحر ، أي تتقابل . وروي عن عطاء قال : أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره . وقال سليمان التيمي : يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك . وقيل : { فصل } معناه : واعبد . وقال محمد بن كعب القرظي : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وأنحر } يقول : إن ناسا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، وقد أعطيناك الكوثر ، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله . قاله ابن العربي : والذي عندي أنه أراد : اعبد ربك ، وانحر له ، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر ، وبالحري{[16494]} أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر ، وهو الخير الكثير ، الذي أعطاكه الله ، أو النهر الذي طينه مسك ، وعدد آنيته نجوم السماء ، أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر ، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة ، فذلك يبعد في التقدير والتدبير ، وموازنة الثواب للعبادة . والله أعلم .

الثانية : قد مضى القول في سورة " الصافات " {[16495]} في الأضحية وفضلها ، ووقت ذبحها ، فلا معنى لإعادة ذلك . وذكرنا أيضا في سورة " الحج " {[16496]} جملة من أحكامها . قال ابن العربي : ومن عجيب الأمر : أن الشافعي قال : إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه ، والله تعالى يقول في كتابه : { فصل لربك وأنحر } ، فبدأ بالصلاة قبل النحر ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره ، عن البراء بن عازب ، قال : " أول ما نبدأ به في يومنا هذا : نصلي ، ثم نرجع فننحر ، من فعل فقد أصاب نسكنا ، ومن ذبح قبل ، فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء " . وأصحابه ينكرونه ، وحبذا الموافقة .

الثالثة : وأما ما روي عن علي عليه السلام{ فصل لربك وانحر } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، خرجه الدارقطني ، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال : الأول : لا توضع فريضة ولا نافلة ؛ لأن ذلك من باب الاعتماد . ولا يجوز في الفرض ، ولا يستحب في النفل . الثاني : لا يفعلها في الفريضة ، ويفعلها في النافلة استعانة ؛ لأنه موضع ترخص . الثالث : يفعلها في الفريضة والنافلة . وهو الصحيح ؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمني على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره . قال ابن المنذر : وبه قال مالك وأحمد وإسحاق ، وحكي ذلك عن الشافعي . واستحب ذلك أصحاب الرأي . ورأت جماعة إرسال اليد . وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر{[16497]} والحسن البصري وإبراهيم النخعي .

قلت : وهو مروي أيضا عن مالك . قال ابن عبد البر : إرسال اليدين ، ووضع اليمني على الشمال ، كل ذلك من سنة الصلاة .

الرابعة : واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد ؛ فروى عن علي بن أبي طالب : أنه وضعهما على صدره . وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل : فوق السرة . وقال : لا بأس إن كانت تحت السرة . وقالت طائفة : توضع تحت السرة . وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز . وبه قال سفيان الثوري وإسحاق .

الخامسة : وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والرفع من الركوع والسجود ، فاختلف في ذلك ، فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، وإذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا سجد . لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبد الوهاب الثقفي . والصواب : من فعل أنس . وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ، حتى تكونا حذو منكبيه ، ثم يكبر ، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع ، ويقول : سمع الله لمن حمده . ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود . قال ابن المنذر : وهذا قول الليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور . وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول . وبه أقوال ؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت طائفة : يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة ، ولا يرفع فيما سوى ذلك . هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .

قلت : وهو المشهور من مذهب مالك ؛ لحديث ابن مسعود ، خرجه الدار قطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا محمد بن جابر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة . قال إسحاق : به نأخذ في الصلاة كلها . قال الدارقطني : تفرد به محمد بن جابر- وكان ضعيفا- عن حماد عن إبراهيم . وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبد الله ، من فعله ، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الصواب . وقد روى يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة . قال الدار قطني : وإنما{[16498]} لقن يزيد في آخر عمره : ثم لم يعد ، فتلقنه وكان قد اختلط . وفي مختصر ما ليس في المختصر عن مالك : لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة . قال ابن القاسم : ولم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام ، قال : وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام .


[16491]:جمع: المزدلفة.
[16492]:في اللسان: نحر: (هل) في موضع (ما).
[16493]:الذي في كتاب الفراء: "منازلنا تتناحر: نحر هذا ... أي قبالته". وفيه تحريف. والذي في اللسان: وقال الفراء: "سمعت بعض العرب يقول: منازلهم تتناحر: هذا بنحر هذا ؛ أي قبالته".
[16494]:في (اللسان: حرى): والحري: الخليق، كقولك: بالحري أن يكون ذلك . وإنه لحري بكذا، وحر، وحرى.
[16495]:راجع جـ 15 107 و ما بعدها.
[16496]:راجع جـ 12 ص 42 و ما بعدها.
[16497]:في بعض الأصول: "ابن الزبير".
[16498]:الزيادة من الدارقطني.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} (2)

قوله : { فصلّ لربك وانحر } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها . أي فاعبد ربك بما خوّلك من نعمة وشرف ، وأقم الصلوات المفروضة . وقيل : أدّ صلاة العيد يوم النحر ثم انحر نسكك . فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر ثم يصلي ، فأمر أن يصلي ثم ينحر . فالمراد بذلك صلاة العيد ، ثم نحر الأضحية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر نسكه ويقول : " من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " .