( ومن شر غاسق إذا وقب ) . . والغاسق في اللغة الدافق ، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء . والمقصود هنا - غالبا - هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف بذاته . فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم . ومتلصص فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل ، وتخنق المشاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام . ومن ظاهر وخاف يدب ويثب ، في الغاسق إذا وقب !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ ومن شر غاسق } يعني ظلمة الليل { إذا وقب } يعني إذا دخلت ظلمة الليل في ضوء النهار ، إذا غابت الشمس فاختلط الظلام ....
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : { وَمِنْ شَرّ غاسِقٍ إذَا وَقَبَ } يقول : ومن شرّ مظلم إذا دخل ، وهجم علينا بظلامه .
ثم اختلف أهل التأويل في المظلم الذي عُنِي في هذه الآية ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه ؛
فقال بعضهم : هو الليل إذا أظلم ... عن محمد بن كعب { وَمِنْ شَرّ غاسِقٍ إذَا وَقَبَ } قال : هو غروب الشمس إذا جاء الليل ، إذا وقب ...
عن مجاهد ، قوله : { غاسِقٍ } قال : الليل { إذَا وَقَبَ } قال : إذا دخل ...
عن الحسن { وَمِنْ شَرّ غاسِقٍ إذَا وَقَبَ } قال : الليل إذا أقبل ...
وقال بعضهم : هو النهار إذا دخل في الليل ... وقال آخرون : هو كوكب . وكان بعضهم يقول : ذلك الكوكب هو الثّريا ... وقال آخرون : بل الغاسق إذا وقب : القمر ...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ { مِنْ شَرّ غاسِقٍ } وهو الذي يُظْلم ، يقال : قد غَسَق الليل يَغْسُق غسوقا : إذا أظلم . { إذَا وَقَبَ } يعني : إذا دخل في ظلامه ، والليل إذا دخل في ظلامه غاسق ، والنجم إذا أفل غاسق ، والقمر غاسق إذا وقب ، ولم يخصص بعض ذلك ؛ بل عمّ الأمر بذلك ، فكلّ غاسق ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شرّه إذا وقب .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف فيه ، قيل : الغاسق هو الليل المظلم ، والغسق الظلمة ، وقيل : سمى الليل غاسقا ؛ لأن الغاسق البارد . وقال الله تعالى : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } { إلا حميما وغساقا } ، { جزاء وفاقا } ( النبأ : 24 و 25 و 26 ) ، والليل أبرد من النهار ، لذلك سمي غساقا . والأصل في هذا أن الذي ذكر لا يكون منه ضرر يتعوذ منه . لكنه يرجع إلى من كان في ظلم الليل ، إذ في نور القمر من الذي يأتي منه الضار ؟ ومعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلم الليل ، ومنها في الليالي ما لا يمكن منها إلا بنور القمر . فأمر التعوذ مما يكون فيها لا أن يكون منها ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى : { إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ] ، ومنه : غسقت العين امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً . ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء ، ويقال : وقبت الشمس إذا غابت ...
وأسند الشرّ إليه لملابسته له من حدوثه فيه .
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة ، فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل ، ولهذا استعاذ برب الفلق -الذي هو الصبح والنور- من شر الغاسق ، الذي هو الظلمة ، فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله . فإن قيل : فما تقولون فيما رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت :«أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، فنظر إلى القمر ، فقال : «يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب » ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وهذا أولى من كل تفسير ، فيتعين المصير إليه ؟ قيل : هذا التفسير حق ، ولا يناقض التفسير الأول ؛ بل يوافقه ، ويشهد لصحته ، فإن الله تعالى قال : { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء : 12 ] ، فالقمر هو آية الليل ، وسلطانه فيه ، فهو أيضا غاسق إذا وقب ...والنبي صلى الله عليه سلم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب ، وهذا خبر صدق ، وهو أصدق الخبر ، ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب ، وتخصيص النبي صلى الله عليه سلم له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.......فكذلك قوله في القمر : «هذا هو الغاسق إذا وقب » ، لا ينفي أن يكون الليل غاسقا ؛ بل كلاهما غاسق ... فصل والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة ، وفيه تنتشر الشياطين . وفي «الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم «أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين » ....وفي حديث آخر : «فإن الله يبث من خلقه ما يشاء » . والليل هو محل الظلام ، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار ، فإن النهار نور ، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة ، وعلى أهل الظلمة ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إذا وقب } أي اعتكر ظلامه ...وأكثر الأقوال أنه الليل ، خص بالاستعاذة ؛ لأن المضار فيه تكثر ويعسر دفعها ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمقصود هنا - غالبا - هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف بذاته . فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم . ومتلصص فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل ، وتخنق المشاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام . ومن ظاهر وخاف يدب ويثب ، في الغاسق إذا وقب !
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف أشياء خاصة هي ممَّا شمِله عموم { من شر ما خلق } [ الفلق : 2 ] ، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور : أحدها : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل . والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير . والثالث : صنف من الناس ذُو خُلُق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } والمعنى هو الاستعاذة بالله من شرِّ الليل الذي يدخل الكون بظلامه ، ويُطبق عليه ، وذلك لأن طبيعة الظلام تترك لكل الذين يريدون أن يقوموا بالشرّ في حياة الناس الحرية في حركتهم ، فيملكون بذلك الفرص الكثيرة التي تعينهم على القيام بالأعمال العدوانية على الناس ، كما يُضعف إمكانات الدفاع والمقاومة لدى الشخص المعتدى عليه . وبذلك يتحوّل الليل إلى عنصرٍ كونيٍّ من عناصر إثارة الخوف في نفس الإنسان ...
الخامسة : قوله تعالى : " { ومن شر غاسق إذا وقب } اختلف فيه ، فقيل : هو الليل . والغسق : أول ظلمة الليل ، يقال منه : غسق الليل يغسق أي أظلم . قال ابن قيس الرقيات :
إن هذا الليلَ قد غَسَقَا *** واشتكيتُ الهَمَّ والأَرَقَا
يا طيفَ هندٍ لقد أبقَيْتَ لي أَرَقَا *** إذ جئتنا طارِقًا والليلُ قد غَسَقَا
هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم . و " وقب " على هذا التفسير : أظلم ، قاله ابن عباس . والضحاك : دخل . قتادة : ذهب . يمان بن رئاب : سكن . وقيل : نزل ، يقال : وقب العذاب على الكافرين ، نزل . قال الشاعر :
وَقَبَ العذابُ عليهم فكأنهم *** لَحِقَتْهُمْ نارُ السموم فَأُحْصِدُوا
وقال الزجاج : قيل : الليل غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار . والغاسق : البارد . والغسق : البرد ، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوام من أماكنها ، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد . وقيل : الغاسق : الثريا ، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ، قاله عبد الرحمن بن زيد . وقيل : هو الشمس إذا غربت ، قاله ابن شهاب . وقيل : هو القمر . قال القتبي : { إذا وقب } القمر إذا دخل في ساهوره ، وهو كالغلاف له ، وذلك إذا خسف به . وكل شيء أسود فهو غسق . وقال قتادة : { إذا وقب } : إذا غاب . وهو أصح ؛ لأن في الترمذي عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر ، فقال : " يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر . وأنشد :
أراحني الله من أشياءَ أكرهُهَا *** منها العجوز ومنها الكلبُ والقمرُ
هذا يبوحُ وهذا يستضاءُ به *** وهذه ضِمْرِزٌ قوَّامةُ السَّحَرِ{[16605]}
وقيل : الغاسق : الحية إذا لدغت . وكأن الغاسق نابها ؛ لأن السم يغسق منه ، أي يسيل . ووقب نابها : إذا دخل في اللديغ . وقيل : الغاسق : كل هاجم يضر ، كائنا ما كان ، من قولهم : غسقت القرحة : إذا جرى صديدها .
{ ومن شر غاسق إذا وقب } فيه ثمانية أقوال :
الأول : أنه الليل إذا أظلم ، ومنه قوله تعالى : { إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ] ، وهذا قول الأكثرين ، وذلك ؛ لأن ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإنس والجن ، ولذلك قال في المثل : الليل أخفى للويل .
الثاني : أنه القمر . خرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى القمر فقال : " يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب " ، ووقوبه هذا كسوفه ؛ لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد ، وبمعنى الدخول ، فالمعنى إذا دخل في الكسوف أو إذا أظلم به .
الثالث : أنه الشمس إذا غربت ، والوقوب على هذا المعنى الظلمة ، أو الدخول .
الرابع : أن الغاسق النهار إذا دخل في الليل ، وهذا قريب من الذي قبله .
الخامس : أن الغاسق سقوط الثريا ، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " النجم هو الغاسق " ، فيحتمل أن يريد الثريا .
السادس : أنه الذكر إذا قام ، حكى النقاش هذا القول عن ابن عباس .
السابع : قال الزمخشري : يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ، ووقبه ضربه .
ولما كان عطف الخاص على العام يعرف بأن ذلك الخاص أولى أفراد العام بما ذكر له من الحكم ، وكان شر الأشياء الظلام ، فإنه أصل كل فساد ، وكانت شرارته مع ذلك وشرارة السحر والحسد خفية ، خصها بالذكر من بين ما عمه الخلق ؛ لأن الخفي يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان فيكون أضر . ولذا قيل : شر العداة المداجي ، وكانت مادة " غسق " تدور على الظلام والانصباب ، فالغسق - محركة- ظلمة أول الليل ، وغسقت العين : أظلمت أو دمعت ، واللبن : انصب من الضرع ، والليل : اشتدت ظلمته ، والغسقان - محركة- : الانصباب ، والغاسق : القمر ، وكأنه سمي به لسرعة سيره وانصبابه في البروج ، ولأنه ليس له من نفسه إلا الإظلام ، والثريا - إذا سقطت - والله أعلم ، قال في القاموس : لكثرة الطواعين والأسقام عند سقوطها ، والذكر إذا قام ، كما قاله جماعة ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو سبب للجهل الذي هو ظلام كله ، فقال تعالى : { ومن شر غاسق } أي مظلم بارد منصب ظلامه وبرده سواء كان أصلاً في الظلام حسياً أو معنوياً ، أو كان حاملاً عليه مثل الذكر إذا قام لما يجر إليه من الوساوس الرديئة لغلبة الشهوة واستحكام سلطان الهوى ، ومثل القمر لما يحدث منه من الرطوبات المفسدة للأبدان ، وغير ذلك انصباباً له غاية القوة ، كانصباب ما يفيض عن امتلاء في انحدار ، ونكّره إشارة إلى أنه ليس كل غاسق مذموماً ، والله أعلم .
ولما كان الشيء الذي اتصف بالظلام يكثف فيشتد انصبابه وأخذه في السفول إلى أن يستقر ويستحكم فيما صوب إليه مجتمعاً جداً ، كاجتماع الشيء في الوقبة ، وهي النقرة في الصخرة ، وكان الظلام لا يشتد أذاه إلا إذا استقر وثبت ، قال معبراً بأداة التحقق : { إذا وقب * } أي اعتكر ظلامه ، ودخل في الأشياء بغاية القوة كمدخول الثقيل الكثيف المنصب في النقرة التي تكون كالبئر في الصخرة الصماء الملساء ، وهذا إشارة إلى أنه يسهل علاجه وزواله قبل تمكنه ، وفي الحديث " لما رأى الشمس قد وقبت قال : هذا حين حلها " ، يعني صلاة المغرب ، وفيه عند أبي يعلى أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها عن القمر : " تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " ، وأكثر الأقوال أنه الليل ، خص بالاستعاذة ؛ لأن المضار فيه تكثر ويعسر دفعها ، وأصل الغسق الظلام ، ويلزم منه الامتلاء ، وقيل : إن الامتلاء هو الأصل ، وأصل الوقوب الدخول في وقبة ، أو ما هو كالوقبة ، وهي النقرة .
ولما كان السحر أعظم ما يكون من ظلام الشر المستحكم في العروق الداخل في وقوبها ، لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ، ونحو ذلك ، وما فيه من ضنى الأجسام ، وقتل النفوس ، عقب ذلك بقوله تعالى : { ومن شر } .