محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (3)

وقوله سبحانه { ومن شر غاسق إذا وقب } قال أبو السعود : تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه ، ولأن تعيين المستعاذ منه أذل على الاعتناء بالاستعاذة ، وأدعى إلى الإعادة . وقال الإمام ابن تيمية : وإذا قيل الفلق يعم ويخص ، فبعمومه استعيذ من شر ما خلق ، وبخصوصه للنور النهاري استعيذ من شر غاسق إذا وقب ، فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله {[7591]} { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } ، وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة ، قالوا : ومعنى { وقب } دخل في كل شيء . قال الزجاج : الغاسق البارد ، وقيل لليل : غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار ، وقد روي الترمذي{[7592]} والنسائي عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال : يا عائشة تعوذي بالله من شره ، فإنه الغاسق إذا وقب " ، وروي من حديث أبي هريرة مرفوعا : " الغاسق النجم " ، وقال ابن زيد : هو الثريا ، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها ، وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل ، فجعلوه قولا آخر ، ثم فسروا وقوبه بسكونه . قال ابن قتيبة : ويقال : الغاسق القمر إذا كسف واسود ، ومعنى وقب : دخل في الكسوف ، وهذا ضعيف ، فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره ، وهو لا يقول إلا الحق ، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه ؛ بل مع ظهور ، وقد قال الله تعالى{[7593]} { وجعلنا الليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية الليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة } ، فالقمر آية الليل ، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل ، فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته ، والدليل مستلزم للمدلول ، فإذا كان شر القمر موجودا فشر الليل موجود . وللقمر من التأثير ما ليس لغيره . فتكون الاستعادة من الشر الحاصل عنه أقوى . ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى : " هو مسجدي " ، هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعا ، وكذلك قوله عن أهل الكساء : " هؤلاء أهل بيتي " ، مع أن القرآن يتناول نساءه ، فالتخصيص لكون المخصوص أولى بالوصف ، فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة ، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار ، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك ، فالشر دائما مقرون بالظلمة ، ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم ، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار ، ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته ، وأبو معشر البلخي له ( مصحف القمر ) ، يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه ، انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .


[7591]:17 /الإسراء / 78.
[7592]:أخرجه في 44- كتاب التفسير 113- 114 سورة المعوذتين.
[7593]:17 / الإسراء / 12.