إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (3)

وقولُهُ تعالَى : { وَمِن شَر غَاسِقٍ } تخصيصٌ لبعضِ الشرورِ بالذكرِ معَ اندراجِهِ فيما قبلَهُ لزيادةِ مساسِ الحاجةِ إلى الاستعاذةِ منْهُ لكثرةِ وقوعِهِ ، ولأنَّ تعيينَ المستعاذِ منْهُ أدلّ على الاعتناءِ بالاستعاذةِ وأدعَى إلى الإعاذةِ ، أيْ وَمِنْ شرِّ ليلٍ مُعتكرٍ ظَلامُهُ ، مِنْ قوله تعالَى : { إلى غسق الليل } [ سورة الإسراء ، الآية 78 ] ، وأصْلُ الغسْقِ الامتلاءُ ، يقالُ : غسقتِ العينُ إذا امتلأتْ دمعاً ، وقيلَ : هُوَ السيلانُ ، وغسقُ الليلِ انصبابُ ظَلامِهِ ، وغسقُ العينِ سيلانُ دمعِهَا ، وإضافةُ الشرِّ إلى الليلِ لملابستِهِ لَهُ بحدوثِهِ فيهِ ، وتنكيرُهُ لعدمِ شمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِ ، ولا لكُلِّ أجزائِهِ ، وتقييدُهُ بقولِهِ تعالَى : { إِذَا وَقَبَ } ، أيْ دخلَ ظلامُهُ في كُلِّ شيءٍ ؛ لأَنَّ حدوثَهُ فيهِ أكثرُ ، والتحرزَ منْهُ أصعبُ وأعسرُ ، ولذلكَ قيلَ : الليلُ أَخْفَى للويلِ ، وقيلَ : الغاسقُ هُوَ القمرُ إذَا امتلأَ ، ووقوبُهُ دخولُهُ في الخسوفِ ، واسودادُهُ لمَا رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رضيَ الله عنْهَا أنَّها قالتْ : أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشارَ إلى القمرِ فقالَ «تعوذِي بالله تَعَالَى منْ شَرِّ هَذا ، فإنَّهُ الغاسقُ إذَا وقبَ »{[871]} ، وقيلَ : التعبيرُ عنِ القمرِ بالغاسقِ ؛ لأنَّ جُرْمَهُ مظلمٌ ، وإنما يستنيرُ بضوءِ الشمسِ ، ووقوبُهُ المحاقُ في آخرِ الشهرِ ، والمنجمونَ يعدونَهُ نحساً ، ولذلكَ لا يشتغلُ السحرةُ بالسحرِ الموروثِ للتمريضِ إلاَّ في ذلكَ الوقتِ . قيلَ : وهُو المناسبُ لسببِ النزولِ ، وقيلَ : الغاسقُ الثُّريا ، ووقوبُهَا : سقوطُها ؛ لأنَّها إذَا سقطتْ كثرتِ الأمراضُ والطواعينُ ، وقيلَ : هُو كلُّ شر يعترِي الإنسانَ ، ووقوبُهُ هجومُهُ .


[871]:أخرجه أحمد في المسند (6/ 61، 206).